حمود سعود برفقة «المرأة العائدة من الغابة تغني»


*هدى حمد

أكثر ما قد يُلفتُ الانتباه في المجموعة السردية الجديدة للكاتب العُماني حمود سعود، الصادرة مؤخرا عن دار سؤال للنشر، والواقعة في تسعة نصوص، والتي آثر أن يُطلق عليها «سرد» ، بدلا من «مجموعة قصصية»، أنّه ذهب إلى قضايا كثيرة وبعضها على درجة من الحساسية، من دون التورط في فخ الخطابية الجاهزة أو اللغة السهلة المباشرة. بل على العكس من ذلك أبقى على متن نصه مُتماسكا ومتصاعد الوتيرة، ولم يفقد للحظة عمقه الفني، حيث كان يتعامل مع المفردة بحساسية عالية دونما تزويق زائف أو مخاتلات مجانية، وهو أمر قلما ينجح فيه أولئك المسكونون بهاجس نبش التاريخ، وتقليب أوجاع السياسة.


النصوص تُقدّم محاولات مستمرة للسفر في دم القبائل وحروبها وهجراتها وجوعها وخياناتها. ويجعل حمود سعود من الطفولة الخصبة محطة للهبوط على تضاريس المكان، للهبوط على بيوت الطين وأغاني الفلاحين وحرائق صيف مالك بن فهم. فيمرُّ سريعا على تفاصيل طائرات الأعداء التي كانت تخزق فوق الجبل الأخضر كما يمرُّ على الجنازات. يمرُّ على كل شيء بخفة بالكاد تُحس، إلا أنها تُضيء حكايات مُطفأة من التاريخ العُماني، ومن حاضره أيضا، تلك التي لم تُقل بعد بشكل جيد.
وكما قال محمود درويش: «كم أنت حر في إدارة شأنك الشخصي»، فإن حرية حمود سعود، تُخرجه من قفص التصنيف الصارم، فيكتب نصه الذي تتداخل فيه الأجناس، وتنتصر فيه اللغة الرشيقة المُشتغل عليها بجدية، وإلى جوار تحرر شكل النص، فقارئ حمود سعود يُدرك الحرية الداخلية التي ينعمُ بها الكاتب، ليتمكن من قول كل ما قال، وهو يُنصت لروحه لا لسوط الجلاد.
ولأنّ لكل نجمة في السماء قبر على هذه الأرض يُناغيها. فقد كان حمود سعود مشغولا بالموتى أكثر من انشغاله بالأحياء، لذا يمكننا أن نقول هذا العمل هو احتفاء بالموت والمقابر والحنين. احتفاء بالطفل الذي يلعبُ وينام في المقبرة. بالصغيرة فدوى، فاتحة الغياب والدمع والفاجعة، فدوى التي كانت روحها خفيفة فحملتها الغيمة إلى المقبرة التي تقع في الجانب الأيسر من المُصلى الذي يُصلي فيه والدها. تحتفي المجموعة بالراعية التي وجدوها ميتة، وقد قالت في حلم ما: «أنا لم أمت بل حرستُ الماء في البركة من النسيان والجفاف» ، تحتفي بالطفل الذي سقط إلى عمق سلالات الزمن، إلى العمق المائي ولم يرتفع مُجددا. الطفل الذي تمنى أن يكون طيارا وانتشلته طائرة من البركة. حتى أنّ الوالي أمر بقتل الكلب في قصة «القافلة وكلب الوالي»، بسبب نباحه والسؤال الذي انبثق، «من الذي سرق أسواق المدينة.. التجار أم المسافرون وقت عرس الوالي، وهل الوالي بريء من جسد الحكاية». أما المرأة التي من الجنوب والتي لا نعرف عنها الكثير سوى أنّ البطل نحت اسمها بأظافره في السجن وغنى لها. فقد تكون امرأة حقيقية، وقد تكون رمزا للجنوب وسنوات النضال، «جمعنا الجنوب والرصاص والحلم». هنالك نص يحتفي بالقهوة والمقهى، وهنالك إشارات حول حرب صالونات القراءة التي تُغلق بيد القمع. يقرأ البطل نصا أدبيا عن رجل ميت كان يرفع الآذان في القرية، ويكتب أيضا عن الضحايا الذين يحملون ذكرى الحروب إلى القبر. يكتب عن هشاشة الروح التي يكسرها ضجر المكوث في السجون والعزلة. وهنالك أيضا احتفاء بموت البهجة، ورجل يُدخَلُ رأسه في «جونية» وتنشر صوره في الجرائد بملابس السجن بسبب تهمة غامضة. هنالك حكاية حزينة عن «بلاد ما وراء الشمس» التي نضج فيها الشعب وهرمت السلطة، « وعندما تهرم السلطة تبدأ دائما بالجنون والعبث والقمع»، وقد تتحول إلى بلد للمخبرين، «وراء كل جدار مُخبر، وفي صدر كل مقهى عين، وفي بطن كل حانة أذن.. بلاد لا تُحبك إلا إذا كنت مُخبرا».
الحنين هو البطل الذي يقود السرد ويقود اللغة، فتبدأ الحكاية مع الصبي القادم من سجن الرحم إلى سجن العالم، يحكي عن حقبة من الزمن، عندما كان الجد الأعمى يُعلّم فيه الصغير عن أوقات الماء والظل. لكن الجفاف أحرق الذاكرة باكرا. الجد هو السارد الجيد للحكايات، عن الدهشة الأولى التي يختزنها أبناء القرية. فيحصل مثلا عند الذهاب لأول مرة إلى مسقط أن يقول البطل: «مسقط كبيرة كما الهند، فيها ناس واجد وشوارع وبيوت كبيرة وحريم غير وماء بارد»، ويظن أيضا أن للعاصمة شمسا أخرى غير شمس القرية. وعن الحنين الهائل للطفولة التي لا ترجع قال: «عاد الرعاة ليلا ولم ترجع طفولتنا»، تحدث عن التلفاز المشترك للناس في القرية عند مشاهدة الأفلام الهندية، وعن المذياع الذي تصل منه أخبار الحروب. كل شيء هو زنزانة حتى فصل المدرسة، «يتراقص الطلاب في حصص الرياضة، يصرخون فرحا بهذه الحصة التي تخرجهم من زنازينهم الصغيرة».

أما «المرأة العائدة من الغابة تغني»، والتي تضع ظلال حضورها على كل النصوص، فلم تكن سوى كلمة مكتوبة باللغة الانجليزية على غطاء الرأس الذي تلبسه امرأة عمانية من أصول أفريقية. ولكن ما الرابط بين الكلام المدون على غطاء رأسها، وبين مكوثها لأشهر في الغابة فزعا من القتلة وقت الانقلاب الانجليزي في زنجبار، عندما كانت وعائلتها لا يملكون سوى حلم العودة إلى أرض الوطن عُمان؟
ربما لأنّ الغناء كما يقول جبران خليل جبران هو سر الوجود، «وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود»، ففي لحظة الفناء والموت العبثي ذاك، يُصغي أحدنا إلى صوته الداخلي، إلى غنائه العميق والخاص، كما يُصغي إلى عزاء.
العنوان هو مصيدة ذكية، إذ يُشيرُ إلى الفرح العارم، يُحيلنا إلى تخيل مشاعر المرأة العائدة من الغابة وهي تقفز فرحا وانتشاءً بل وتغني، ومن ثم يُصدمُ القارئ بالمتن الذي يُشيع الجنازات والموت بأنواعه وأشكاله وأسبابه المختلفة. هذه الضدية القاسية، تعبر بشكل صارخ عن تناقضات حياتنا. عن الطموحات والأحلام التي نذهب لأجلها، بحثا عن حياة كريمة، ومن ثم نفجع بحجم الضريبة العالية التي ينبغي أن تُدفع على مضض.
المجموعة بأكملها المشتعلة بحكايات الموت والفقد والتغييب المقصود أو غير المقصود لإعادة كتابة التاريخ- كما هو- بكل وحشيته وعنفه وفجائعيته يتطلب شيئا من العزاء، ذاك المنبعث من غناءٍ بعيد.
—————————–
*نزوى

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *