رولان بارت عاش حدادا يوميا على أمه




*عبده وازن

إنها سنة رولان بارت في فرنسا. في الذكرى المئة لولادته (1915) تستعيد الأوساط الأدبية الفرنسية هذا الناقد الكبير والمبدع الذي خلق في كل ما كتب، مفهوماً جديداً للكتابة لم يكن مألوفاً قبله. وقد لا تحتاج فرنسا إلى أن تستعيده في هذه الذكرى فهو حاضر، وقد زاده رحيله عام 1980 حضوراً، سواء في المعترك النقدي الذي كان ولا يزال واحداً من رواده أم في عالم الأدب والكتابة الحرة والمفتوحة الذي كانت له فيه مغامرة رائدة وفريدة، لا سيما عبر فتحه أبواب هذا العالم على «ميتولوجيا» الحداثة والتجريب. مات بارت ميتة «رخيصة» في الرابعة والستين من عمره، صدمته شاحنة صغيرة ذات صباح عندما كان متوجهاً إلى الجامعة التي يدرس فيها ليلتقي طلابه ويتبادل معهم الدروس والأفكار بشغف كبير.

سنة بارت هذه ستكون احتفالية بامتياز، ستَصدر فيها كتب عنه تتناول زوايا في سيرته ومساره الأدبي والنقدي والثقافي، وستتوالى الندوات واللقاءات حول كتبه وشخصيته الفذة. وافتُتح أخيراً في «مكتبة فرنسا الوطنيّة» معرض يستمر حتى 26 تموز (يوليو)، بعنوان «كتابات رولان بارت، بانوراما». ومن الإصدارات اللافتة «مجموعة مراسلات غير منشورة» أعدها وقدم لها الكاتب إريك مارتي، تلميذ بارت السابق وأحد أفضل المطّلعين على أعماله. وفي الخريف، سيتمّ إطلاق كتاب بعنوان «إعداد الرواية، دروس في الكوليج دي فرانس 1980-1978»، وآخر بعنوان «صداقة رولان بارت»، من تأليف الكاتب فيليب سوليرز.
أما مفتتح سنة بارت فكان من خلال سيرة مهمة لصاحب «الكتابة في الدرجة صفر»، وضعتها الناقدة تيفين سامويو، التي اطّلعت على مخطوطات بارت ومراسلاته، وقرأت الوثائق التي احتفظ بها طوال حياته. وهي وضعت بين أيدي القراء كتاباً متكاملاً يضم 700 صفحة وفيه حرصت على معايير الكتابة التي لا ترهق القارئ بل تكون حافزاً على التمتع بالقراءة. وضعت المؤلّفة سيرة فكريّة وشخصية لبارت، لا مكان فيها للنوادر والافتراءات والفضائح. وبقيت تيفين سامويو متكتّمة، تماماً كما كان بارت في حياته، في شأن ميوله الجنسيّة المثليّة، وهو أخفاها عن أمّه التي عاش معها حتّى مماتها في 1977. لكنّ الكاتبة لم تعتّم كلياًعلى ما عاشه من حبّ وفشل في حياته العاطفية المضطربة ولا سيما علاقته بأمه وبالمفكر ميشال فوكو.
سيرة أشبه بذاتية
هذه السيرة الجميلة وشبه الشاملة يمكن إدراجها في سياق السيرة الذاتية الإبداعية التي كتبها بارت وحملت عنواناً طريفاً هو «رولان بارت بقلمه» (دار «سوي» 1975). وهذا العنوان– المقولة يفيد بأنّنا «نكتب إذا اجتاحتنا الرغبة، والرغبة فيّ لا متناهية». وقارئ كتاب تيفين سامويو، تنتابه رغبة لا متناهية في الفهم والتقصي، وفي تحديث طريقة استيعابه للأمور التي يقدمها الكتاب. وقد مضت الكاتبة في كسر الصور النمطيّة التي شاعت عن بارت قبل سنوات، والأفكار التي تناولت البنيويّة والضرر المزعوم الذي تُلحقه بطبيعة الأدب، إضافة إلى تشكيكها في فكرة انتشرت منذ صدور كتاب «يوميات حداد»، بعد ممات الكاتب، مفادها أنّ بارت كان في الواقع شديد الاكتئاب، ومأسوراً بصورة الأم.
تستكشف الكاتبة بدقّة حياة بارت ومؤلفاته، وطريقة تحديثه لقراءة النصوص في كتابه الشهير «الكتابة في الدرجة صفر» (1953)، وكتاب «الغرفة المضاءة» (1980)، وهذه الغرفة كانت بمثابة تابوت احتضن أمّه، مروراً بكتاب «أسطوريات» أو «ميتولوجيات» (1957). وهذا الكتاب من أمتع كتب بارت، وهو عبارة عن ثلاثة وخمسين نصاً كتبها على مر الأحداث أو الوقائع بين العامين 1954 و1956، ملقياً فيها، بروح من الفكاهة والطرافة، أضواء على بعض «أساطير» تلك الحقبة، ومنها مثلاً التعرّي والمصارعة و«دورة فرنسا الدولية للدرّاجات». لم يكتب رولان بارت رواية ولا شعراً على رغم غرقه في عالميهما، لكنّه اعتمد أسلوباً روائياً في كل ما كتب، ولعل كتابه الفريد «مقاطع من خطاب عشقي» خير دليل على نزعة بارت الإبداعية وميوله الأدبية الصرف. وباعتماد صيغة الشذرات أو المقطّعات التي يحبّذها، استند بارت في هذا الكتاب إلى روايات، وأشعار وأعمال موسيقية لدعم رأيه في شتّى الموضوعات العشقية التي تناولها.
في هذه السيرة نقرأ عن بارت الطفل الذي فقد والده في الحرب عام 1916 ولم يكن قد أكمل سنته الأولى، وعن بارت الفتى الذي اختبر المرض بعد أن أصيب بمرض السل. وهو قصد المصحّ مراراً بين العامين 1934 و1946، ما منعه تحديداً من المشاركة في مسابقة للانتساب إلى مدرسة الأساتذة العليا. لم تدع الكاتبة سامويو تقصيلاً لم تتوقف عنده أو تورده: الصعوبات التي واجهت بارت، الأهواء النزقة، الموسيقى والمسرح في حياته. وتحدثت عن التزامه المسرح الشعبي واكتشافه للمسرحي الألماني بريشت. وحلّلت المراحل التي جعلته من المفكرين المثيرين للجدل قبل أن يصبح أستاذاً مرموقاً ومعروفاً يتكلّم عنه الطلاب الذين حضروا ندواته بشغف، إلى أن انتسب إلى «الكوليج دي فرانس» في العام 1976، وكان الدرس الافتتاحي الشهير الذي أعطاه حينذاك فريداً وجديداً لغةً وطروحات. وسعت سامويو إلى كشف مناهج بارت وطرائقه المبتكرة في التفكير والنقد، متطرقة لعلاقات بارت بكلّ من اندريه جِيد، وسارتر، وميشال فوكو وفيليب سوليرز.
المثير في السيرة يتمثل في كشف الناقدة سامويو كشفاً خفراً ومقتطعاً الناحية المثليّة في شخص بارت والعلاقة العاطفية التي أدت دوراً كبيراً في الصداقة بينه وبين المفكر الكبير ميشال فوكو. وهي علاقة لم تكن سهلة وعابرة بل تعمقت إلى حد الوله. ولكن في أعقاب رحلة إلى المغرب عام 1963، حصل تباعد في العلاقة بين الاثنين. وتقول سامويو : «يملك فوكو وبارت طريقة مختلفة جدّاً في نقض الأنظمة، ففوكو يفككها من طريق هدمها، في حين أنّ بارت يتخلّى عنها عبر نثر جزيئاتها». وكم غدا صعباً تخيل هذه العلاقة العاطفية التي تجمع بين شخصين عبقريين، تفيض حياة كل منهما فكراً وشبقاً.
ولئن كانت «السيرة رواية لا تجرؤ على لفظ اسمها»، وفق بارت، فإن سيرة بارت التي كتبتها تيفين سامويو هي أقرب إلى الرواية التي تسرد وتستعرض وتحلل في آن. ولو كان لبارت أن يقرأها لسماها «رولان بارت بقلمه».
«يوميات حداد»
في هذه الذكرى لا بد من العودة إلى كتاب بارت «يوميات حداد» الذي كان صدر بعد تسعة وعشرين عاماً على رحيله أي عام 2009، ولا أحد يدري إن كان بارت فكّر في إصداره، لا سيما أنه تركه مخطوطاً في شكل مقاطع وشذرات أرّخ معظمها بأيام كتابتها، وظلت شبه ناقصة وتحتاج إلى معاودة نظر وإلى المزيد من العمل والسبك، وبعض الجمل خلت من النقاط والفواصل وكأنها «ضربات» أولى كتبت للتو كما وردت في مخيلة صاحبها ووجدانه. باشر بارت كتابة هذه «اليوميات» غداة وفاة والدته في الخامس والعشرين من تشرين الأول (اكتوبر) عام1977 وكان في الثانية والستين، وانتهى من كتابتها في الخامس من أيلول (سبتمبر) 1979 قبل عام من وفاته. كان يكتب هذه «اليوميات» على هامش كتابته النقدية والأكاديمية والأدبية، على قصاصات أوراق تحتل جوانب طاولته. وخلال هاتين السنتين كتب بارت نصوصاً عدة جمعها في كتب ومنها «الغرفة المضاءة» و«فيتا نوفا» (الحياة الجديدة)، علاوة على محاضرات ألقاها في «الكوليج دو فرانس». هذه القصاصات التي نامت سنوات في أدراج في مؤسسة «ايميك» التي تحتقظ بما ترك بارت من «أرشيف» شخصي وأدبي، جمعتها الناقدة ناتالي ليجيه محافظة على ترتيبها الكرونولوجي يوماً وشهراً وسنة، وإذا بها تمثل كتاباً فريداً لم يتسنّ لبارت أن يضع عليه لمساته الأخيرة.
تكمن فرادة هذه «اليوميات» (دار سوي) وخطورتها في إلقائها ضوءاً ساطعاً على ناحية مجهولة في شخصية بارت وحياته العاطفية إن أمكن القول، بعدما كشفت هذه «اليوميات» علاقته الغريبة بأمه هنرييت بينجر (يسميها ماما) التي ترملت في الثالثة والعشرين من عمرها بعد موت زوجها لويس، والد بارت، في الحرب. علاقة ملؤها الحب والحنين والتملك والأسى والمشاعر الغامضة التي لم تتضح تماماً. يكتب بارت عن أمه وكأنه يكتب عن امراة يحبها ويعشقها ويتمنى الموت بعدها ترسيخاً لحبه إياها. إنها الأم العشيقة ولم يكن في حاجة إلى أن ينافس أباه على حبها بعدما تركها له ومات. ويُعرب بارت جهاراً في أولى «اليوميات» أن ليلة الحداد الأولى هي بمثابة الليلة الأولى من الزواج. الزوجة هي الأم الميتة والزوج هو الابن المثقل بحداده. وفي اليومية الثانية يعترف بجرأة أنه لم يعرف جسد امراة سوى جسد أمه، مريضةً وميتة. كأنه يعلن هنا مثليته ونزعته «النكروفيلية» المكتومة إزاء جسد أمه الميتة. في «اليوميات» يجاهر بارت بأنه يبكي على أمه ويشتاق إليها متعلقاً بأشيائها ومتذكراً التفاصيل التي جمعته بها، ويتحدث عن سأمه في غيابها وعدم رغبته في الحياة وفي الكتابة أحياناً. أمست حياته بعد رحيلها فراغاً وعزلة وخوفاً واضطراباً نفسياً وعصابياً (نيفروز). كانت هي الأم والحبيبة والأب والشقيقة، وفي حضرتها ظل هو طفلاً وفتى لا يتمالك عن البكاء مثل فتاة، مغرقاً في حداد وجد فيه مقداراً من عزاء.

تكمن قوة «يوميات حداد» في طبيعة الكتاب نفسه وفي عمقه الذي يخفي بعض أسرار بارت ونزعاته، أكثر مما تكمن في لغته التي كانت تحتاج إلى لمسات بارت السحرية. ولكن ما يجب تذكره أن الكتاب صدر ناقصاً وبعد رحيل بارت.
مختارات من «يوميات حداد»: بعد الآن وأبداً سأكون أنا نفسي، أمي
ليلة عرس أولى
كأنما ليلة حداد أولى؟
*
– لم تعرف جسد المرأة!
– عرفت جسد أمي مريضةً، ثم محتضرةً.
*
… ألا يدمرني هذا الموت تماماً، يعني أنني حتماً سأعيش بولهٍ حتى الجنون، وأنّ الخوف من موتي الشخصي إذاً هو حاضر دوماً، جامد لا يريم.
*
الاثنين الثالثة بعد الظهر، عدت وحيداً للمرة الأولى الى الشقة. كيف سأكون قادراً على العيش هنا وحيداً تمام الوحدة. وجليّ في آن واحد أنّ ما من مكان آخر بتاتاً.
*
ما يدهش في هذه المدوّنات التي أكتبها، هو المحتوى المدمّر الذي يقع ضحية «حضور الروح».
*
أعلم الآن أن حدادي سيكون سديمياً.
*
هذه الليلة، حلمت بها للمرة الأولى. كانت ممددة ولكن عير مريضة بتاتاً، في قميص النوم الزهرية التي ابتاعتها من محل أونيبري…
*
نحو السادسة بعد الظهر: الشقة حارة، هادئة، مضاءة، نظيفة. هكذا أجعلها، بحزم وتفانٍ (هذا ما أتلذذ به بمرارة): بعد الآن وأبداً سأكون أنا نفسي، أمي.
*
مصدوماً بالطبيعة «المجردة» للغياب، غير أن هذا يُحرق، يُمزق. من هنا أفهم التجريد فهماً أفضل: التجريد غياب وألم، ألم الغياب، أتراه الحب إذاً؟
*
يحل عليّ الضيق وأكاد أشعر بالذنب، لأنني في أحيان أظن أنّ حدادي يُختصر الى حال انفعال.
ولكن، ألم أكن طوال حياتي إلا هذا: منفعلاً.
*
يا لرهبة هذا النهار. تاعساً أكثر فأكثر. إنني أبكي.
حداد: منطقة شنيعة فيها لا يبقى لديّ من خوف.
*
خلال أشهر، كنت أمّها. وكأنّما فقدت ابنتي( هل من ألم أشدّ من هذا الألم؟ لم يخطر هذا في بالي).
*
أسأم في كل مكان.
*
كم يرعبني حقاً الطابع المتقطّع للحداد.
*
أن نتمكن من العيش من دون شخص كنّا نحبه، هل يعني أننا كنا نحبه أقلّ ممّا كنا نظن؟
*
برد، ليل، شتاء. إنني في الدفء ولكن وحيداً. أدرك أنّ عليّ اعتياد أن أكون ببساطة في هذه العزلة، أن أسعى فيها، أن أعمل، يرافقني، بل يلتصق بي «حضور الغياب».
*
ما يتعذر وصفه في حدادي يتأتّى من كوني لا أجعله هيستيرياً: ضيق متواصل، شخصي جداً.
*
لا رغبة لديّ في العزلة لكنّ بي حاجة إليها.
*
هذه الصبيحة فكرت بلا انقطاع بأمي. حزن غثياني. غثيان ما لا يُعوّض.
*
الشجن، مثل حجر… على عنقي،
في قرارة نفسي.
*
إذاً لأفقدِ الآن بعدما فقدت ذريعة حياتي – ذريعة أن أخاف على أحد ما.
*
حقيقة الحداد بسيطة تمام البساطة: الآن وقد ماتت ماما، بتّ وقفاً على الموت (لا شيء يفصلني عنه أكثر من الزمن).
*
لكل امرئ إيقاعه في الأسى.
*
لا أبتغي سوى أن أسكن كآبتي.
*
لا أبغي إلا أن أشرَع في أسفار لا يكون لديّ فيها وقت للقول: أريد أن أعود.
*
في الغرفة التي كانت تنام فيها مريضةً، والتي ماتت فيها، الغرفة التي أقطنها الآن، علّقتُُ على الجدار الذي كان يستند إليه مقدّم سريرها، أيقونةً – ليس عن إيمان- وهناك على طاولة أضع دوماً أزهاراً. وأقصد ألا أسافر ليتسنى لي أن أبقى هنا، فلا تذوي الأزهار البتة.
*
ما أطوله الوقت من دونها.
*
يقترب يوم ذكرى وفاة ماما. كم أخاف، أكثر فأكثر، كما لو أنها في اليوم هذا ستموت ثانية.
*
أقلّ فأقلّ أكتب كآبتي، لكنها في معنى ما تزداد بأساً، بعد انتقالها الى مرتبة الأبدي، منذ أن لم أعد أكتبها.
*
كلّ مرة أحلم بها (أنا لا إحلم إلا بها)، إنما لأراها، لأظن أنها حية، ولكن أخرى، منفصلة.
*
«انتحار»
كيف لي ألا أقاسي أبداً، لو أنني متّ؟
_________
*الحياة 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *