*هالة صلاح الدين
فازت الألمانية جيني إربينبيك (1967) بجائزة الإندبندنت للأدب الأجنبي لهذا العام عن روايتها “نهاية الأيام”، والفائزة بجائزة هانز فلادا. ترجمت الرواية إلى اللغة الإنكليزية الأميركية سوزان بيرنوفسكي مدرّسة الترجمة الأدبية ومديرة مركز الكتابة الإبداعية في كلية الفنون بجامعة كولومبيا. وهو الكتاب الرابع الذي يجمع المؤلفة بالمترجمة، وجميعها كتب موجزة تميل إلى التجريب.
وتدير الجائزة مؤسسة بوكتراست الخيرية، ويدعمها مجلس إنكلترا للفنون وجريدة ذي إندبندنت ومؤسسة شامبانيا تيتانجيه. والجائزة كثيرا ما تلقي الضوء على إبداع الكتاب المنفيين. وقد شملت قائمة هذا العام القصيرة رواية “الجبل يحترق بحلول الليل” لخوان توماس أفيلا لوريل، الذي أضرب عن الطعام عام 2011 اعتراضا على الفساد المتغلغل في غينيا الاستوائية، ورواية “تسوكورور تازاكي عديم اللون وسنوات رحلته الطويلة” للياباني هاروكي هوراكامي.
عمل عبقري
رواية إربينبيك “الطفلة العجوز” حكاية رمزية عما قد يلازم الطفولة من رعب غير مسبوق، وسرد بشع لهوس طفلة يتيمة بوزنها ونومها وجنسها وانتمائها المجتمعي. أمّا رواية “كتاب الكلمات” فتتناول أيضا الطفولة، وإنما على نحو سوريالي لا يخلو من انطباعية.
وعلى العكس من الروايتين الأخيرتين تنهل رواية “الزيارة” من التاريخ لتركز على الهوس الأول والأخير للكتّاب الألمان، ألا وهو الهولوكوست. تقص حادثة انتحار لا تنشأ من أية ضغوط نفسية، وإنما من ضغوط ثقافية. والبادي أن هدف إربينبيك كان شجب جماعة عتيقة التقاليد على شفا جنون الحداثة.
لا يباري نثر إربينبيك الرائق إلا ترجمة بيرنوفسكي المشعة التي نجحت في القبض على منحنيات الفكر واللغة الدقيقة. كانت المترجمة قد ذكرت في أحد حواراتها أن “أسلوب إربينبيك العاطفي يضمر نقاط تشابه غريبة مع كتاباتي بالإنكليزية. وحين أنهمك في ترجمة نثرها، أشعر دوما وكأني أعود إلى بيتي”.
استهلت إربينبيك حياتها المهنية كمديرة للأوبرا قبل أن تتجه إلى الكتابة في تسعينات القرن الماضي. ولدت في برلين الشرقية لأم مترجمة من اللغة العربية وأب فيلسوف، ولعل تأثيره هو ما نراه في نصوصها الحافلة بتأملات فلسفية شعرية. كانت إربينبيك قد ترشحت للجائزة نفسها عن رواية “الزيارة” عام 2011، وهي أول روائية ألمانية تفوز بالجائزة خلال حياتها. قبلها فاز جيرت هوفمان ودابليو جي سيبولد لكن عقب وفاتهما. وكان الناشرون البريطانيون قد أولوا في العام الماضي كل عناية بالأدباء الألمان بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لانهيار حائط برلين.
وصفت لجنة التحكيم رواية “نهاية الأيام” بأنها “عمل عبقري” فيما أشادت الروائية البريطانية وعضوة لجنة التحكيم إيه إس بيات “ببنية الرواية المحكمة وأسلوبها النثري المتلون؛ فهو واضح وحاد تارة، ومراوغ ومتعرج تارة أخرى. ينير مجريات الزمن ومزالق الحب والعائلة، كاشفا لنا عن أن ما يصطلح عليه بأنه «قدر» أو «حظ» قد يتكل على أتفه الظروف، ولكنه يحمل أعظم الآثار خلال الحياة، أو ربما يقوض أركان الحياة ذاتها”.
كما صرح أمس بويد تونكين، الكاتب في جريدة الإندبندنت وأحد أعضاء لجنة التحكيم، بأن الرواية “اكتظت على مدى قصير بقرن مترع بالثوران، قرن متجذّر دوما في حظوظ حياة امرأة وخياراتها. الرواية مكتوبة ومترجمة بجمال لا يضاهى. والجمال لا ينبع من مفاهيمها التاريخية التجريدية، وإنما من صدمات الحياة اليومية وآمالها، ومن سعينا المشترك إلى السلام والبيت والحب. وحين أعيد قراءة هذه الجوهرة، أشعر وكأن دابليو دي سيبولد وفيرجينيا وولف سيجدان فيها روحا مشابهة”.
ودون أن تصرح المؤلفة بالمعلومة، نعلم أن سيبولد هو أحد أكبر المؤثرين في أدبها. تخط عبارات طويلة تتواصل دون أن تعبأ بالفقرات. تدفن عناصر مهمة من الحبكة والتكنيك في تفاصيل تافهة مبتذلة “لا ريب أن المنشفة الخضراء لا تزال معلقة في مبنى الاستحمام. قد يستخدمها أحدهم الآن لينشف جسده. عندما حصل على مبنى الاستحمام من اليهود، كانت مناشفهم لا تزال معلقة هناك. وقبل أن يخطر على بال زوجته أن تغسلها، مضى للاستحمام وحك جسده بواحدة من مناشف الغرباء. مناشف غريبة. صانعو الأقمشة، هؤلاء اليهود. قماش زغب، منتجات ذات جودة ممتازة، لم يطلب الكثير، رفضوا طلبه للالتحاق بأحد مؤسسات الرايخ لأنه أجاب «بنعم ولا» على سؤال يستفسر عن أسلافه الآريين. في أي هجوم من أي نوع، من المحتم أن تهجم على خصمك من الخلف، مناشف زغبة!”
حياة أم موت
“نولد ونموت، ولكن الكثير من الأمور قد تقع بين الحدثين. أي الحيوات ننتهي إلى الأخذ بأسبابها؟” يسأل الراوي ونحن نتتبع في “نهاية الأيام” عقود القرن العشرين من خلال عدة مصائر محتملة لامرأة واحدة تتباين أدوارها، يتدحرج النرد على الطاولة، فتبدأ روح أو تنقضي.
نتأمل رضيعة لا تنجو بعد التقاط أنفاسها الأولى، وتختنق في المهد. ألهمت وفاة أم المؤلفة النص، كما استعارت قبسا من حياة جدتها لتثري تجربة البطلة، “أخبرتها جدتها عند طرف القبر، «أعطى الرب وأخذ الرب». ولكن جانبها الصواب لأن الرب أخذ أكثر مما كان موجودا بالفعل، وكل ما كان يمكن أن تصيره طفلتها أمسى الآن راقدا هناك في قاع الحفرة، في انتظار أن يواريه التراب”.
وانطلاقا من ميتة الطفلة العارضة تتشعب عدة حيوات، أو تنويعات على ما قد يرميه القدر في سبيلنا. ففي سيناريو مخالف لا تموت الصغيرة، وإنما تترعرع في ظل كرب الفاشية والمجاعة في فيينا لتتوج حياتها المضطربة بالانتحار. هل توافيها المنية وهي تنعم بالحب أم تعاني من الخيانة؟ تتلاعب المؤلفة بالذكرى، فترغمنا على السير في أرض الماضي الخطرة الموحشة. هناك تتساقط الكلمات كما الألغاز لتحسر النقاب عن المستور خلسة والمنسي عمدا والممحي غيلة. هل يتذكر الناس الفقيدة بكل إجلال أم ينسونها بمجرد أن يواريها التراب؟
تنتقل الرواية الكئيبة المضنية من بلدة صغيرة في منطقة غاليسيا في مستهل القرن العشرين إلى فيينا قبل الحرب العالمية الثانية وموسكو في عهد ستالين وصولا إلى برلين المعاصرة، مسلطة الضوء على لحظات “تسلك فيها الحياة طريقا معيّنا ليبزغ «القدر» على بغتة من التفاعل الماكر بين التاريخ والشخصيات والصدفة البحتة”.
وهكذا تزخر منعطفات النص المتقلبة ودروبه المتقاطعة بالسؤال الأزلي، “ماذا لو؟” ماذا لو لم نُبْتَلَ بالمرض؟ ما الوضع لو أن الفقيد ترك ثروة أو دينا؟ كيف تتقلب الحياة وتتباين ألوانها بتقلب الحظوظ؟ وكل حدث أو واقعة تحدث بفعل الصدفة فقط لا غير. ومع الشخصي المشؤوم تنبسط سجادة التاريخ بكل ثقلها وميتافزيقيتها.
_______
*العرب