*مريم حيدري
تتوالى الأحداث الحزينة في الحياة، يرحل من أحبهم إلى مناطق بعيدة، وأفكر أننا سنلتقي قريبا؛ يبكي العالم من العنف، والعداء، والضغينة، وأظن أن المستقبل سيكون جميلا؛ تحدثني صديقاتي عن كآباتهن، وكعادتي أسخر منهن، قائلة: “لا وقت للحزن”.
وتتصل صديقتي لتقول إن شاعرنا الجميل في المستشفى، وأظن أنه المرض كالعادة، يأتي ويزول.
أسرع نحوه لأجده في الإغماء الإصطناعي. أحدثه، ماسكة أصابعه، وأظن أن ذلك الضغط الخفيف على يدي معناه أننا سنلتقي ثانية في بيته، ليجلس أمامنا ويضحك بسعادة، وهو في الخامسة والسبعين، بكامل بهائه الإنساني، وبروحه النضرة التي يغبطها الشباب فيه.
أنتظر أن يقاوم مرة ثانية هذه العملية الجراحية، وخروج الماء من رئتيه، ليخرج ضاحكا من المستشفى كالمرة السابقة، وبيده جدول الكلمات المتقاطعة. أخطط لأطبخ له أكلته المفضلة بعد خروجه، وأفاجئه بصورة له أرسلها لي صديق من بيروت، التقطها له لما التقيا منذ سنوات في فرنسا، فطبعتها ووضعتها في بيته.
في ليلة رحيله، وأنا جالسة في بيته مع صديقتي وصديقه القديم، تقول صديقتي بنبرة حزينة: “لن يتعافى”. صديقه يطأطئ رأسه موافقا، وأنا أقول: “لا، سنجلس هنا ثانية، ونشرب معا نخب الحياة”. ولم يحدث ما أقول. توقفت أنفاسه وسط أملي ببقائه.
وها أنا أجد نفسي متساءلة: كيف أصبحتُ متفائلة إلى هذه الدرجة؟ تفاؤل يتراءى لي اليوم أنه قد يكون ممزوجا بشيء من الطفولية، دون أن أنتبه. بقيت طوال هذه السنوات أقاوم الأحداث السيئة بالأمل، بحب كبير للأغصان الخضراء، وتحية خالصة للشمس، كأنها طقوس عبادة لها أمارسها في كل صباح، ظانة أنها تتعاطف معي، تحبني، وتحرسني كل يوم من السوء والحزن.
أستنشق هواء العالم بسرور وأنا أجوب الشوارع كل يوم، وأشعر بسعادة –قد تكون جوفاء- بأشياء جميلة صغيرة، أراها في البيت، في الشارع، وفي سلوك الناس، بينما تصل الأخبار المحزنة يوما بعد يوم.
طالما رأيت نفسي واقفة أمام الكون كله، أتفاعل معه، أتحدث إليه، أزعل منه أحيانا، ثم أعود متصالحة معه؛ وهكذا أقضي أيامي، بفلسفة بسيطة للحياة: أن أبقى في سلام مع الكون.
غير أني أجدني اليوم أمام تساؤل كبير: كم كان مجدياً هذا الأمل؟ ماذا فعل؟ ماذا سيفعل؟ وإلى أي مدى يمكنني الحفاظ عليه، وقد غدر بي هذه المرة بطريقة لم أتوقعها؟
شعاع الأمل هذا أو كما يقول جلال الدين الرومي “الأمل الباذخ” الذي كان يرافقني دائما، أراه متدليا أمامي الآن. هل أتمسك به ثانية، أم أتركه وأسير وحيدة في عتمة العالم.
______
*العرب