ريتشل كاديش تكتب حول وهم الهولوكوست



*هالة صلاح الدين

في قصتها “نساء يحلمن بالقدس” الفائزة بجائزة بوشكارت تشير الكاتبة الأميركية ريتشل كاديش إلى أشكال متباينة من “الانتماء”، وتطرح مفاهيم من الحكم تتبرأ من الدولة القومية المنغلقة، مناصرة فكرة “أمّة” منفصلة تمام الانفصال عن الدولة والأرض. أمّة لا تطفح بمهاجرين يأملون ببيع خردتهم القديمة، وإنما فيدرالية علمانية تضم اليهودي والعربي، وتصب في دعوى السيادة الوطنية وكذا الأنطولوجيا الفردية.

حرب مع الرحمة
تعترف ريتشل كاديش أن أهل البلد أنفسهم ضجرون من الخدمة العسكرية، ضجرون من دوريات تجوب المناطق الفلسطينية. يهتف دوف العائد من الجيش الاحتياطي في القصة بأن لا مبرر بعد الآن للتمسك بحقول الآخرين وبساتينهم، لا حرية في منزل متهدم.
“فليمنحوا الأرض اللعينة مقابل السلام، من يرغب في الأرض بمثل هذا الثمن؟”، مرددا صدى كلمات الشاعر الكندي ليونارد كوون، “إسرائيل، وأنت الذي تطلق على نفسك اسم إسرائيل، الكنيسة التي تطلق على نفسها اسم إسرائيل، والثورة التي تطلق على نفسها اسم إسرائيل، وكل أمّة اختيرت لتصبح أمّة، لا أرضا من هذه الأراضي ملككم، كلكم لصوص القداسة، كلكم في حرب مع الرحمة”.

الهولوكوست ليس استثناء
في هذا السياق تتشكك المؤلفة في الصهيونية، معتبرة إياها نوعا آخر من أنواع الفاشية، وإن كانت لا تخلط بين الاثنين. إن تجريد المواطنين من دولتهم ليست مشكلة يهودية في رأيها، وإنما أزمة تكررت في القرن العشرين عند تكوّن الدول القومية.
وما جرى لليهود على يد هتلر لا ينبغي النظر إليه كحادثة استثنائية، وإنما مثال على ضرب معين من التعامل مع الأقليات، ولكن اتضح بعد الحرب أن القضية اليهودية، التي اعتبرها السياسيون وقتذاك متعذرة على الحل، تم حلها بالفعل، ولكن باستعمار منطقة أخرى واحتلالها، وهكذا لم تحلّ الإمبريالية الصهيونية قضية الأقليات ولا المواطنين المجرّدين من الدولة.
على النقيض، لم يسهم الوضع إلا في إفراز فئة جديدة من اللاجئين الفلسطينيين، ومن ثمّة زيادة مئات الآلاف من البشر ممن لا أرض لهم ولا حق لهم، “إنها قومية مهينة” كما تقول. والطين يزداد بلة مع كارثة عدم الفصل بين الدين والسياسة.
لا تدبر الرب
تنتهي كاديش في قصة “الجدال” الصادرة في كتاب “قبيلة مفقودة: أدب يهودي حديث من الهامش” إلى أن ما جعل اليهود عظماء ذات يوم هو إيمانهم غير المنقوص بالرب، ووضعهم ثقة به علت على أيّ خوف، “ترفقوا بدوفيديل وهم يعلمونه الوضعية السليمة للصلاة الأسمى: ثلاث انحناءات، خطوة إلى الخلف عند إتمام الصلاة، فالمرء لا ينبغي قط أن يدبر الرب”. تستنكر، والآن لا يؤمن اليهود إلا بأنفسهم. بهذا المعنى تؤمن كاديش بالرب ولا تؤمن بفكرة “الشعب اليهودي”، إنها لا تنتمي إليهم إلا بحكم المولد.
ترفض كاديش اليهودية المهووسة بالفناء، راغبة في دين يساعدها على الحياة، فبمقدورها الموت دون مساعدة. والبيت اليهودي مثله كمثل شيء تقطعه، ومهما بدر منه بعدئذ، لا يفتأ جزءا من القبيلة، “حتى لو خرج من المنزل ليتناول سجقا من لحم الخنزير ويسيغه باللبن طوال الليل، حين ينزل سرواله ليبول، سيجد الرسالة لا تزال منقوشة هناك على عضادة الباب: لا أزال يهوديا”.
الهوة بين الحقيقة والزيف
ولا يفوت كاديش انتقاد ما يكنه الأصوليون اليهود من عنصرية تجاه السود، فابن الحاخام في قصتها تزوّج بفتاة سوداء، “لا يجب أن يتزحلق السود، فليس بإمكانهم التناغم مع لون الثلج، اليهود أيضا -تفكر كرويتسر- لا يجب أن يتزحلقوا. لو أراد الرب لهم تزحلقا، لاصطفى النرويج أرضا موعودة، لكتبه في واحد من كتبه، كتاب الزحاليق”.
في عالم القرن الحادي والعشرين تتعالى كاديش على معتمري القبعة اليهودية بوصفهم “ديناصورات”. تتهم الابنة أباها بأن عنصريته ضد النساء صاعقة. إنه معذور، يحسب أن العنصرية تنطبق على الزنوج والبيض فقط! يلتزم الحرص في ما يخص الزنوج، يصحح لنفسه، “في ما يخص السود؛ الأميركيين الأفارقة”.
لم تفرغ الابنة من تقريعها، “هل لديك أيّ خطط أيا كانت لزيارة العصر الحديث؟” وعلى المنوال نفسه يتسلح المتطرفون بالدين وهم يتعاملون بمنطق العضلات مع من يعتبرونهم أعداء، “أفضل أن تهشم وجوههم يدي على أن يخيب أمل الرب في واحد من عباده”.
تندفع رواية كاديش “من حجرة موصدة” بنبرة حادة لتسبر طبيعة الهوة بين الحقيقة والزيف، الماضي والحاضر على خلفية من الشتات اليهودي العتيق. تتنقل من مشهد أدبي يشجب حرب الخليج ويرصد أحداث الشغب العنصرية في مدينة لوس أنجليس ويضع الهولوكوست في نصابه الصحيح إلى التجول في شوارع بروكلين والقدس الممزقة بالأطراف المتصارعة. الرواية في مجملها نظرة فاحصة إلى المعاناة والجلد ومحاولة المداواة، مما يجعلها تتحلى بحكمة تتجاوز أعمار أغلب الأميركيين، فكاديش تضفر من الصفحة الأولى وبمنتهى النزاهة التاريخ والدين والعائلة والحب.
تتقاطع في الرواية ثلاث قصص لثلاث يهوديات من أجيال مختلفة: طالبة مغامرة في كلية بنيويورك، وربة منزل إسرائيلية منغلقة على نفسها، وناجية هشة المشاعر من الهولوكوست. ناظم الترانيم هنا امرأة، ومع الاستماع إلى أناشيدها، تفكك المؤلفة الصراع بين أمن الدولة من جانب، وخنق الأيديولوجيا للإسرائيليين من جانب آخر، بين سلطة الحرية وخطرها. وهكذا ننفذ إلى نفسية البطلات لنعيد إحياء طرق نفهم بها أجيالا مختلفة بثقافات مختلفة، ومعطيات الحضارة والساخطين عليها؛ “تدهشني براعتها في استخدام الفروق الدقيقة والحكي وسلطة العاطفة”، هذا ما قالته الكاتبة الأميركية توني موريسون عن الرواية.
الشتات الأثيوبي والروسي
تتأمل كاديش كذلك اليهود القادمين من روسيا وقرى أثيوبيا -قرى عبارة عن تراب وحصى- ممن تقاطروا على دولة إسرائيل ليعموا العيون من فرط كثرتهم ويزيحوا أهل الأرض الحقيقيين. إن الوافدين الجدد جاهلون كل الجهل بطبيعة الشرق الأوسط وأولى مفردات الدولة المدنية، ولم لا، والأبواب مفتوحة على مصراعيها في سبيل التفوق الديمغرافي على الفلسطينيين؟
تقفز بطلات كاديش، الأثيوبيات العجائز، من نوافذ المباني، فهن لم يدلفن قط إلى عمارات، لم تقع أبصارهن البتة على مرحاض، يجنّ جنونهن ويخبطن الجدران كالحيوانات حين يدخلن مصعدا لظنهن أن أحدا سوف يحبسهن في قفص! “يقبض بإحكام على امرأة تضربه كطائر مرعوب كي لا تنبشه بأظافرها وتسيل دماؤه”.
تقبل هذه الشخصيات إلى إسرائيل ونفوسها تنطوي على إيمان بأن هذا المكان سوف يداوي كل شيء، “سارت تامار عبر أعمدة من الغبار. رأت أمام عينيها إسرائيل: امتدادا من الخضرة، جدولا عامرا بالصخور، سلالم مكللة بالظلال تفضي إلى الهيكل”.
وهكذا، وبدافع من الأمل، يتوافد المهاجرون وسط امتداد لا نهائي من البشر، في مثل كثافة نجوم السماء، عدد من الناس لم يقع عليه النظر مطلقا، وفي الوقت ذاته يصيح بائع مصابيح بفلسطيني يعتمر غطاء رأس أبيض ويسدد عين الصدمة إلى أنقاض منزله المتهدم في القدس الشرقية، “أعرف مكانا يمكن أن تقيم فيه أسرتك لفترة”.
إيواء كل اليهود
لا تعتقد كاديش أن الصراع القائم بين المهاجرين الأثيوبيين والروس في الأرض الموعودة منبعه العرق. المشكلة هي أن الروس غيارى والأثيوبيين غيارى.
في قصة “نساء يحلمن بالقدس” تستدرك الأخصائية الاجتماعية، “لا للإيحاء بأننا لا نرحب بالروس، ألم تتعهد البلد بإيواء كل اليهود؟” الأمر وما فيه هو أن شيئا من الضجر يحل بالإسرائيليين.
لا أحد يودّ الاعتراف بأن المهاجرين عبء. الروس معتادون الطرق الروسية، يطالبون الحكومة بكل شيء. بل إنهم يطالبون بأشياء لا يحظى بها الإسرائيليون: وظائف، إعانات، خدمات؛ “ويجلبون معهم سوقا سوداء تنجرّ خلفهم كالرائحة النتنة.. الأثيوبيون على الأقل شاكرون”.
استمعت تامار الأثيوبية إلى صمت الصحراء المحيطة بهذه المدينة الإسرائيلية، بئر السبع. أيقنت أن جمالا يقبع في مكان من هذه البلد غير أنها فتشت عنه دون أن تعثر عليه. لم تلتق عيناها إلا بظلال ساكنة طرحها هذا المنزل بجدرانه المشيّدة من الجص.
ما رأت إلا أنها امرأة من دولة أجنبية ترقد بلا حراك.
أفزعتها تنهيدة فرت من تجاويف عظامها لأنها كانت صوتا أجنبيا، مغناة بلغة أجنبية، لا تستحق ملجأ في هذا المشهد، مشهد تنتثر فيه الصخور.
أمّا زوجها العالة، فهو يقف أياما في طوابير مع آخرين في منتهى اللهفة على نيل الاستحسان حتى أن إيماءات ندّت من رؤوسهم إلى كل إسرائيلي رأوه. أبلغته المرأة الجالسة إلى المكتب أن لغته العبرية يجب أن تتحسن قبل أن يصبح مستعدا للتدريب على النجارة، وبعدها تلت عليه عددا من الخطب الإضافية عن التاريخ واليهودية والسلوك القويم؛ “في هذا البلد الصارخ المتدافع وكأنه معدوم التربية والعادات الحميدة”.
يتساءل في قرارة نفسه، “حتام يجب أن يتحمل رجل قبل أن يتمكن من مغادرة هذه المدينة الملعونة المنعزلة انعزالا؟ هذا البلد بتصاريف أفعاله الملعونة”. على الأقل في أثيوبيا لا يوجه العدو إليه ابتسامة.
يحتل ملجأ النساء المضروبات في القدس موقعا سريا في القصة، انتقل بالفعل مرتين، وربما ينتقل مجددا كي لا يعثر عليهن الأزواج. خطوط الهاتف في الملجإ غير مزودة بخدمة معاودة الاتصال. ومن حين إلى آخر يقترح أحدهم قطع الاتصال الهاتفي عن الملجإ كلية: هؤلاء النساء لسن أهلا للثقة، سوف يتصلن بالعالم الخارجي ويفضحن موقعهن.
ولكن المسؤولين لم يقرّوا هذه السياسة، شعروا أن انتقال الملجإ من وقت لآخر إلى أماكن لا علامة عليها كاف كي لا يعثر عليه الخارجون، ولا يعرف الداخلون موقعهم بالتحديد، فلا يتسنى لهم التسبب في اضطراب لا داعي له، “وقد سرى كلام عن إقرار هذه السياسة في ما يتعلق بدولة إسرائيل”.
عكس الزهايمر
سوف يهرول يهود كاديش في البداية نحو قدمي الحاخامات لكي يتبعوا وصيتهم، “إياكم والنسيان”. ما الذي لم يستطع اليهود أن يكونوه من غير الألفي سنة الأخيرتين؟ يسأل أحد أبطال كاديش بلهجة صارمة “ما هو عكس الزهايمر؟” فترتعش عينا الحاخام الشاخصتان اضطرابا مجيبا، “يهودي!”.
سرعان ما تخيّب إسرائيل آمال المهاجرين، “إنها جحر من القذارة” ينبس أحدهم في مرارة.
تهزم القدس كل فرد من أفراد جيل الصحراء، هؤلاء الزاحفون جوعى وعطشى إلى أرض الربّ لتكتظ بهم قرى الفلسطينيين ويشربوا النخب “في صحة أيّ مكان يسمح ليهودي شارد بالمضي إليه”.
وبعد فوات الأوان يلفّونها صيحة غادرة للمّ الشعث، ويعقدون العزم على محو الذكرى المؤلمة لمحاكم التفتيش والمحرقة. يتخيل كرويتسر بطل “الجدال” شعبه والزهايمر يحيق به، فتذهب ألف عام من المشاق في لمح البصر.
وفي أدب كاديش يقود هذا الشعب ذاته موكب النسيان ليحتشد في إثره كل من عرفت المعاناة إليه سبيلا، كل من انخرط في هذا الشتات الطوعي المعاصر؛ معا سيبيتون أبرياء، أطفالا، لا محل في قلوبهم لأيّ تذكرة بالأسى.
_________
*العرب

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *