عُلا الشيخ
في الأيام القليلة الماضية تلقى العالم خبر وفاة البروفيسور «دون ناش» هو وزوجته اثر حادث سيارة أثناء عودتهما من المطار إلى المنزل، ناش الذي حصل في عام 1994 على جائزة «نوبل» في الاقتصاد عن عمله بشأن نظرية الألعاب وحسابات اتخاذ القرار، التي لها استخدامات كبيرة في الاقتصاد والتفاوض التجاري، والذي أهدى هذه الجائزة إلى زوجته «اليشا» التي رافقته في مرحلة مرضه النفسي المتعلق بانفصام الشخصية، من الممكن أن لا يعلق اسمه في ذاكرة كثيرين يتلقون العلم كدرس في محاضرة، لكن السينما عندما تكون حاضرة وتقترب من أناس لهم علاقة مباشرة بتغيير الكون، سيكون وقع الخلود له معنى، وهذا ما أكده فيلم «عقل جميل» المبني على حياة ناش، والذي شاهده ملايين الناس من مختلف الأعراق والمنابت، هنا أصبح لناش معجبين من كل الطبقات العلمية والاجتماعية، واستطاع ومن مجرد وصول خبر وفاته أن يجعل شبكات التواصل الاجتماعي تذخر بأخباره، وليس غريبا أن يكون أكبر دليل على عبقريته الإشارة الى الفيلم وإلى بطله راسل كرو الذي قدم دورا استثنائيا أهله للترشح للأوسكارعن فئة أفضل ممثل، عام 2001 تاريخ انتاج الفيلم الذي أخرجه (رون هاورد) ولعب دور البطولة فيه الى جانب كرو، جينيفر كونيلي و بول بيتاني، ومع أن الفيلم يذخر بالمصطلحات الرياضية حتى في طريقة الأحاديث بين الطلبة وبين نكاتهم وألعابهم، إلا أن طريقة السيناريو والحوار الذي كتبه (أكيفا غولد سمان) والمأخوذ عن قصة كتبتها « سيلفيا نصار» استطاعت أن تدخل في تفاصيل حياة ناش، الذي يظهر في أولى المشاهد وهو طالب في جامعة (برينستون) إلى جانب طلاب في حضرة استاذهم، يظهر عليه التململ، والانزعاج، ومن اللحظة الأولى ستعي أنك أمام شخصية غريبة الأطوار في تعاطيها مع محيطها، فهو معروف في ذكائه، إلا أنه لا يعتبر المحاضرات الجامعي ذات قيمة وعنها يقول «هي تستنزف وقتك في البحث الذي من الممكن أن يغير الكون»، تراه يصف نفسه كالذئب الوحيد، كي يبتعد عن وصف أن الناس لا تحبه، مع أن كثيرين حاولوا الاقتراب منه لكن ردود أفعاله الغريبة كانت دائما حائلا بينه وبين تكوين علاقات اجتماعية، حتى في ما يخص النساء، فالاقتراب منهن يشبه اي معادلة رياضية لا احساس فيها، لذلك تسقط منه المفردات الحميمية مقابل نظريات لها علاقة بالدماغ.
خلال الجزء الأول من الفيلم تدخل إلى عالم ناش الذي ستضيع فيه خاصة عندما تظهر الحقائق وراءه، فهو يبني علاقة دائمة مع النوافذ التي تثير فيه معادلاته الرياضية، في سكنه الخاص يظهر في حياته شخصية عكسه تماما يصف نفسه بشريك السكن واسمه «تشارلز» ، لعوب، يحتسي الخمر باستمرار، غير مبال، وبالرغم من كل هذه الصفات الا أن ناش يعتبره الصديق المقرب، ويستشيره بكل شيئ، خصة أن تشارلز يحفزه دوما وينتشله من احباطه باستمرار،ي هذه المرحلة يجب على ناش ان يقم مشروعا يؤهله للدخول الى معامل «ويلر» التي تعنى بفك الشفرات من الأعداء، وحينها كان العدو هو الاتحاد السوفييتي، ناش يعي تماما أن علم الرياضيات جزء لا يتجزء من كل تصيلة في الكون، حتى في ما يتعلق بالحرب والسلام، هنا يستطيع ناش فك شيفرة سوفييته تحكي الولايات المتحدة من خطر كان وشيكا، في هذه الأثناء يظهر رجل ذو قبعة يطلقون عليه لقب «الأخ الأكبر» وبعد التعرف بأنه ضابط في وزارة الدفاع وان الوطن بحاجة إلى أمثاله من العباقرة ليتخلصوا من الروس، يقرر ناش قبول المهمة وقبول دمغ رقمي يتم وغزه في جلده تجعله يرسل البريد الى وزارة الدفاع دون أن يشك به أحد، ومهمته فك شيفرة فئة منشقة عن الاتحاد السوفييتي لها أعوانها في أمريكا، وتصل اليهم عبر أخبار منوة تنشر في الصحف والمجلات المحلية، تتضمن رسائل مشفرة تهدد أمن البلاد، وهنا تبدأ رحلة ناش مع المجلات والصحف ومحاولة كشف الكثير من الشيفرات، إلى أن تظهر في حياته «اليشا» الطالبة المعجبة بأستاذها والمبهورة فيه، والقادرة على استخراج بضع عبارات رومانسية بسهولة.
كل هذه المشاهد التي تأخذ حيزا من وقت الفيلم ما هي سوى عبارة عن مقدمة لحالة ناش الصحية التي يتضح فيما بعد، أنه مصاب بانفصام الشخصية، وكل الأشخاص الذين يتكلم معهم باستمرار مثل تشارو الأخ الأكبر، وابنة شقيقة تشارلز الطفلة الصغيرة التي يحبها هم عبارة عن شخصيات وهمية من بناة خيال ناش، وهذا الأم يتضح بعد زواج ناش واليشا، وحملها ، فيقرر ناش أن يستقيل من مهمة وزارة الدفاع، فيتعرض للتهديد من قبل الأخ الأكبر بأن يشي عليه الروس، ويبيت ناش بتوهم ان ثمة من يلاحقونه ليقتلونه، فيقرر أن يبعد زوجته عنه ليعيش مع تخوفاته وحيدا ، فهو وصل الى مرحلة اعتقد فيها فعلا أنه مطلوب من الروس بأي ثمن، فعقله بالنسبة لهم دمار شامل.
تنتقل الحكاية من أروقة الجامعات والأماكن المتخيلة الى أروقة مستشفى نفسي، وجلسات كهربائية مكثفة وابر انسولين وغيرها الكثير من الأدوية، لتقرر اليشا الزوجة وجوب وقوفها إلى جانب ناش، بل تسعى لكشف الحقيقة أمامه بأن كل ما إشيع عبارة عن وهم، فتشارلز صديقه المقرب لم تشاهده بحياتها حتى أنه لم يحضر زفافهما، أما بالنسبة للأخ الأكبر فقد سألت عنه دون اجابات واضحة، والبريد الذي كان يرسله مدموغا بالشمع الأحمر لم يصل ولم يتم فتحه، هنا يدخل المشاهد نفسه في نظرية مؤامرة، يصدق ناش حينا ويصدق علم النفس حينا، يحاول أن يحمل وزارة الدفاع المسؤولة لما آل اليه ناش حينا، وفي نفس الوقت يربط التسلسل الزمني للأحداث ليعي ا ناش فعلا مصابا بانفاصام الشخصية.
توهان بين الحكايات والشخصيات، يحاول ناش والمشاهدين أن يستذكروا بعض الشخصيات الحقيقة على الأقل كمنافس ناش البروفيسور مارتن، ومساعدي ناش بندر وسول ، وطبعا زوجته اليشا.
ينتشر خبر مرض ناش، ولم يعد بمقدوره العودة الى التدريس، وبنفس الوقت كمية الأدوية التي يأخذها كبيرة وتأثيرها على عقله وحياته كبير، تدخل حاليا في مرحيلة ما بعد المستشفى، وقد أصبح لناش طفل وزوجة تتحمل فوق طاقتها بهدف الحب حينا والواجب الأخلاقي أحيانا اكثر، لم يعد ناش كما عرفته كمشاهد، اصبح ثقيلا، سارحا، لا يبذل أي مجهود للتفكير، حتى علاقته الزوجية تأثرت، مما بدأ بخلق فجوة بين الزوجين، و بما أنه يؤكد دوما أن الرياضيات قادرة على حل كل المشاكل، يقرر أنه سيعالج نفسه عن طريق الامتناع عن أخذ الدواء دون أن يقول لزوجته، وبالفعل من سلوكيات معينة يلمس المشاهد أن ناش عاد الى رونقه، لكن اصدقائه الوهميين عادوا معه ايضا، وتكتشف اليسا هذا الشيئ عندما تترك طفلهما معه، و وافقت أن يحممه، واثناء قيامها بأعمالها المنزلية، سمعت صوتا من مخزن قريب من منزلها ذهبت إليه لتجد صوت راديو وقصاصات من صحف ومجلات، فأدركت أن ناش عاد الى وهمه، هرعت إلى المنزل لسمعه يتحدث إلى صديقه تشارلز وطفلهما على وشك الغرق قي الحمام، تقرر التحدث الى الطبيب مرة أخرى ، فتظهر شخصية الأخ الكبير يجبره على قتل زوجته لأنها باتت تعرف سره، في هذه اللحظة أدرك ناش فعلا أن الشخصيات عبارة عن وهم ، خاصة عندما شاهد ابنة شقيقة صديقه تشارلز أنها ما زالت صغيرة ولم تكبر.
وعد ناش إليسا بأنه سيعمل جهده لتجاهل الشخصيات الوهمية، مقابل أن لا تزج به في المشفى النفسي مرة أخرى، هنا تجلس الزوجة اليسا أمامه وتقول له «الجزء الذي يفصل بين الواقع والوهم ليس بالضرورة أن يكون من الدماغ بل هو من القلب، وأنا أصدقك دائما لأن قلبي يريد ذلك وهذه حقيقة».
وبالفعل ينجح ناش في كل لحظة بتجاهل أصدقائه الوهميين مع أنه يردد بين الحين والآخر اشتيقاه لهم، خاصة لصديقه تاشرلز، يكبر ناش، وهو ما زال يحاول العودة إلى حياته الطبيعية، فيقصد منافسه الذي أخذ مكانه في جامعة بريستون كي يساعده للعودة الى الجامعة، يقبل مارتن بذلك، بل تصل الأمور الى حد سماع بعض الطلاب بوجود ناش دائما في مكتبة الجاعة، ويبدء عددهم يكبر، ويعود ناش لالقاء المحاضرات لهم، بل ويتطواطأ الطلاب معه أحيانا كثيرة اذا ما حاول محاربة الشخصيات الوهمية في حياته، الى أن تأتي اللحظة الحاسمة وهو يخرج من احدى محاضراته، ليرى شخصا ينتظره يقول له أنه من قبل جائزة نوبل التي قررت منحه اياها هذا العام، يستنجد باحدى طالباته لتؤكد له أن ثمة شخص يتحدث معه، فتجيبه بنعم، يعوه الى تناول الشاي في رفة مخصصة للعلماء، يتردد ناش لحظة ، ويقبل في النهاية يجلس، ويتلقى الدعم الكبير من قبل جميع هؤلاء العلماء بعرف بينهم عبارة عن اهاء كل عالم قلمه الخاص للشخصية المؤثر بحياته، فجمع ناش عدد كبير من تلك الأقلام، لينتقل المشهد مباشرة الى مسرح جائزة نوبل، يقف ناش ، موجها حديثه الى زوجته فقط ويقول لها «طوال حياتي وأنا اعي أن الأرقام وحدها قادرة على حل جميع المسائل، الى أن اصبحت أمام حل معنى مصطلح المنطق، فوجدت أن المنطق هو الحب ، الذي لا يخضع لأي رقم، وبسببك أنا هنا»
من الجميل أن تشاهد فيلما أنصف العالم الراحل جون ناش وأنصف زوجته ودورها في تغيير حياته للأفضل وصبرها، استطاع راسل كرو وجينيفر كونيلي فعلا أن يجسدا دوريهما بكل التعقيدات فيها، فناش كان يمثل دور العقل واليشا كانت تمثل دور القلب، حتى في نهاية المشهد وقت مغادرتهما قاعة استوكهولم لتوزيع جوائز الأوسكار تنتبه اليشا أن ناش ينظر الى اصدقائه الوهميين وكأنه يودعهم ، تسأله « ماذا حدث» ليجيبها « لا شيئ اطلاقا».
_________
* الإمارات اليوم