أنا والشمس


*أزهار أحمد


خاص- ( ثقافات ) بالاتفاق مع مجلة (الفجيرة الثقافية)
الآن وفي هذه اللحظة بالذات أمتلئ بالكلمات، ولا يمكن أن أهرب من مثل هذه اللحظات. أكتب وفي خاطري أن أكتب لمن يحب الكلمات مثلي، وسيحب كلماتي فيما بعد، ولمن يعرف ماذا يعني انفراط الكلمات من روح شغوفة بتفاصيل الحياة.
أحب الصباحات، خاصة تلك الصباحات التي استيقظ بها وأنا أشبه جرة مملوءة بالماء على رأس عجوز ريفية عائدة من نهر، أو لنقل كما ينسكب على ذاكرتي الطفولية الآن مثل امرأة من قريتي اعتدت أن أراها تحمل ” الهاندو” فوق رأسها عائدة من مصب الفلج. 
بيتنا يقع على الطريق مباشرة، بيت كبير يشبه الحصون القديمة ويقع على طرف جبل، به غرف مرتفعة كنت أحب أن أختلس النظر من النافذة اراقب الناس وهم يعبرون الطريق الضيق الذي يتوسط البيوت من جهة والبساتين والمزارع من جهة أخرى بمسافة 300 متر تقريبا ثم يبدأ الطريق باتساع أكثر لمنطقة اسمها ” الشوار”. كان النساء في ذلك الوقت يجلبن المياه للطبخ من مصب الفلج، لم تكن الحياة الحديثة قد طالت القرية بعد باستثناء بعض البيوت.
أحاول ان أسابق الوقت الآن كي لا تهرب الأفكار مني، وأراني أرنب صغير هاربا من فهد سريع يبحث عن جحر يرمي بنفسه فيه. هذه الصفحة ستكون جحري، إلا أن لهاثي ينقطع من الصفحات الأولى.
كنت قد قررت ألا أذهب للعمل، إذن لا داعي للعجلة والتوتر الصباحي. وبانتظار الأولاد في خضم استعدادهم للمدرسة أمسكت احد كتبي الجميلة ” أين كانوا يكتبون” وبدأت فيه. قرأت عن جان كوكتو ومارك توين وفرجينيا وولف والبرتو مورافيا. كانوا يعشقون منازلهم التي شيدوا كل قطعة فيها حسب ذوقهم، وكانت بيوت فاخرة فارهة أعطتهم الالهام في كتابة كتبهم العظيمة. استوقفت نفسي قليلا وقلت أين أحب ان أكتب أنا؟ وما الذي يلهمني؟؟. لم أشيد بيتي بحسب ذوقي ولم يكن ذلك ممكنا، ولم أؤثثه كاملا بطريقتي، لكنني أعرف أنه يحمل روحي. واكتشفت ان الروح التي زرعتها فيه هي ما يلهمني، داخل البيت هو ما يلهمني. أخشى الآن أن يطرق أحد علي الباب أو يرن الهاتف برسالة أو اتصال فينقطع تفكيري. أكتب في غرفة نومي، وفي الصالة بالطابق العلوي وصالة الطابق الارضي. اكتشفت أيضا أنني أكتب على الكرسي الماروني بغرفتي والكنبة التي تحمل نفس اللون على الصالة. من أين اتى هذا اللون إلي؟ لماذا يحتل بيتي بهذه الطريقة. هل هي القوة التي يوحي بها؟؟ ربما.
من قراءتي اليوم عرفت أن مارك توين كان اسما مستعارا وليس اسمه الحقيقي، وأن هذه الاسم استعاره من رحلة على سفينة بنهر الميسيسبي، ومعناها العلامة المزدوجة وهي اشارة تطلقها السفن لمعرفة منسوب المياه خين تقترب من مكان رسوها. أعجبتني هذه العبارة التي اوحت لعاشق الميسيسبي باسم محفور في ذاكرتنا منذ الطفولة.
أعجبني أيضا البرتومرافيا الذي اشترى منزله بمنطقة آسرة تحيط بها بحيرة هادئة من جهة وكثبان رملية تتلاشى عنها الامواج من جهة أخرى. وهو الذي كان يرافق حبيبته التي تركته أينما تذهب، كان يذهب معها هي وصديقها، ويقول: ” حب امراة لا يعني أن يكون المرء عاشقا على الرغم من أن قصص الحب لا تنتهي”، ولقائه بكارمن الفنانة التي توسل إليها أن تتزوجه وهو في الرابعة والسبعين وهي في الثلاثين، وبالفعل تزوجته وانتقلت معه إلى البيت الذي يعشقه. 
كم أتمنى لو أملك “آلة كاتبة” من تلك التي كان يستخدمها هؤلاء الكتاب في كتبتهم؟؟ كم تمنيت لو أن عندي آلة كاتبة قديمة أنقر عليها وكل نقرة على كل حرف تأخذني معها في رحلة طويلة. حتى في الأفلام كنت أعشق الحكايات التي تروى عن كتاب يجسدون فيها شخصية الكاتب وهو وراء الته ينقر الحروف بأطراف أصابعه. ربما أمتلك تلك الآلة يوما وأنا ما أزال أعشق الكتابة.
أنا لا أشبه فيرجينيا وولف كثيرا، إلا في الجنون. فيرجينيا امرأة أحبت حياكة السجادات، انا لا أحب هذا، وفيرجينيا امرأة تكتب بالقلم الأخضر على أوراق زرقاء وأنا لا أحب هذا، وفيرجينيا قوية تمكنت من التخلص من حياتها حين شعرت بأنها لا يمكن أن تستمر وأنا لن أقوى على ذلك.
آه، هنا تذكرت قصص الانتحار التي حاولتها حين كنت صغيرة، كنت أتمنى أن تصرخ بي أمي كي أجد سببا للموت واليأس، كنت أتمنى لو ان حياتي تعيسة، وطبعا هذا كان نتاج القصص والروايات التي كنت ألتهمها في طفولتي. أذكر مرة أن أمي صرخت علي فأخذت ثيابي في صرة صغيرة وهربت إلى بيت أخي المجاور لنا والذي يقع على بستان صغير وهو أيضا بيت صغير جدا لم يكن البيت الذي يعيش به وانما حين كان يزورنا في الصيف هو وزوجته. أخذت صرتي واختبأت تحت السور في البيت. كنت اقسم الأيمان على عدم العودة وظللت وقتا هناك حتى تعبت ورجعت وكأن شيئا لم يكن. حسنا، أن فترة هروبي تلك لم تتجاوز الساعة ولم يفتقدني أحد.
من العجيب أن عدم الرغبة بالحياة تعطيك حياة من نوع آخر، يشتعل برأسي الهروب والضجيج والحزن وصور أبي وأخوتي الراحلون ورغبة البقاء في البيت فقط والقراءة. لا اشتهي سماع الموسيقى ولا مشاهدة الأفلام ولا حتى سماع أصوات الناس بل أشتهي الانطواء في غرفتي وبداخلي حماسة من نوع آخر. 
أنظر إلى غرفتي التي أكتب بها الان:
سأبدأ من الجدران، عند مدخل الغرفة زاوية مثلثة على جدارها لوحتين لأم كلثوم ولوحتين لرينوار ورف عليه ثلاث صور للأولاد وتمثال خشبي لامرأة سوداء من المهاجرين للبرازيل وكوب صيني وأرنب زجاجي ملون وتمثال خشبي صغير لامرأة على قارب ممتلئ بالفاكها. 
بالجهة اليسرى من الغرفة هناك لوحتين من العصر الواقعي نسيت اسم الفنان الآن، احد هذه اللوحتين رأيتها أول مرة في عام 2001 في بيت العائلة التي أقمت معها في مدينة يورك ببريطانيا، كانت لوحة كبيرة جدا فوق المدفأة وأغرمت بها ومنذ ذلك الوقت وأنا أفكر بها، حتى وجدتها عام 2006 باحد المواقع الفنية على الانترنت فنسختها وعلقتها. تحت هاتين اللوحتين مباشرة طاولة صغيرة عليها جهاز تسجيل بسيط وقديم، فوقه 7 كتب، وإلى جانبها أباجورة غبية لا احبها و10 كتب أخرى، إلى جانب الطاولة أيضا خزانة رفوف مستطيلة طولها متر وربع تقريبا، هذه أحبها جدا، بداخل رفوفها الضيقة سيديهات الأفلام التي أحبها والاغاني وكما أراها الآن فهي كثيرة جدا تكفي أن أعيش عليها حين أكبر وأصبح عجوزا لا هم لها سوى انقضاء الوقت.
حين أكبر سأعيش في غابة كثيفة بها نهر طويل وسأصنع كوخا بغرفة وصالة سأملأؤه بكتب وأفلام وأوراق وشاشة كبيرة جدا وكنبة وثيرة ومهترئة؟؟ هكذا أفكر نعم، ولذلك لا يهمني إن لم أستطع قراءة كل كتبي الآن، لأنني واثقة من يوم سيحدث فيه كل ما أريد. ولذلك أيضا أجمع الدفاتر الصغيرة التي تباع في محلات التذكارات أو النوتات التي تحمل صورا ومناظر مختلفة أشتريها حين أسافر من المكتاب أو المطارات أو المتاحف. نوتات صغيرة احتفظ بها كي لا أحمل نفسي هم الكتابة على أوراق كبيرة وانا عجوز. على الجهة الأخرى لوحتين أيضا لفنان جزائري، لا تلهمني هاتين اللوحتين كثيرا لكنني احتفظ بهما لقيمتهما. تحتهما طاولة زجاجية فوقها 10 كتب أخرى وسلة صغير بها نظارتي وأدوية وشموع وكريم لليدين ومسبحة. أعرف أني فوضوية قليلا لكنني أحب فوضاي ولا أعرف العيش بدونها. هذه الطاولة بطبقتين زجاجتين الجزء الأدنى عليه كتب أيضا ومجلات وأوراق.
هذا الكلام الذي أكتبه الآن ألهمني به الكتاب الذي قرأته، مع أنني نسيت فكرتي الأساسية التي أردت كتابتها. ربما يأتي يوم آخر وأكتب كل ما يدور برأسي.

شاهد أيضاً

كأس وظلال

(ثقافات) كأس وظلال عبد القادر بوطالب تلك الظلال التي طوت تفاصيل أجفاني سارت خلفي ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *