*باسم القاسم
في خضم كتابة سائدة في الشعرية العربية أصبح منحى الاختلاف فيها نمطياً، نجد الشاعر السوري المغيرة الهويدي في كتابه «الحب لا يغادر البلاد» يُقدم على محاولة للجنوح عن هذه النمطية أيضاً ولكن بإدراك لغوي لقضية أن الاختلاف عن شكل المختلف هو عودة إلى ريادة الأدب الطليعي، الذي انتهجه شعراء أواخر القرن العشرين من العرب بكل تربتهم اللغوية المتشربة بأسمدة الفكر الاختلافي من مختبرات دريدا ولارويل وفراسوا ليوتار.. ولكنها عودة فريدة بقصديتها تتورطٌ بكتابة الماضي بناءً على المستقبل السيئ الذي فكر به الماضي الإبداعي الـ «ما بعد حداثي» للمنتج العربي الشعري عموماً، ولا تبدو كمراجعات مصححة أو ناقدة، كما أعتقد فإن فيها هدم لمداميك الكتابة المعيارية المعنيّة بمآل المعنى:
حقل عشب أخضر أنا
استحال لقيمات تُجترّ
وتلمع أعين الذكريات في ليل الحظيرة
وجهي ضاع في ازدحام المقهى
«أظنُّ»
كان معي عندما ابتسمت به للنادلة ..
لست أذكر
لكنني عندما عدت إلى البيت انشغلت بالوحدة طويلاً ..
ورغم الزخم في توالي نصوص الكتاب تعتني لغة الكتابة وشكلها بأهمية أن تبدو اللغة الشعرية وكأنها تمر بحواضن استنبات، ابتداءً بـ (في الوحدة وعن ..) وما يليها من ثمانية فصول /رؤى محنطة/والأمّ../الحب لا يغادر البلاد /في مديح جسدها/دمشق الهامش والمتن/وطن وعلم ومقبرة «حفر على الزنك» /الحرب لا تقول الحقيقة كاملة/أوراق على طاولة مواطن مفقود/ .. وتنجح في تجنب استنساخ توليد المعنى، وفق ذلك الجين الوراثي لذهنية التلقي الشعرية العربية المواكبة للحروب وكوارث الصراع الثوري، هذه التي ربما تأخذ دور كونها محور التوتر الدلالي الذي تنتظم حوله دورانية المفضوح والمكبوت والمسكوت عنه في الكتابة الشعرية داخل النص:
أيها الموت!
ارفع قدمك اللعينة عن أديمي
أريد أن أكتب العشب الطري تحت حذائك.
ليس ظلماً أن نكون هناك
في متن المدينة
شقة صغيرة
أصلّح مجفف الشعر صباحاً
وأنت قربي
هناك
تمشطين صوت الضفيرة
ثم تعبرنا الكتابة إلى سوانا
خاوية ً مما تظنُّ
ثم نُنسى..!
وعلى الرغم من تبني تقنيات عالية اللياقة لغوياً في طريقة العرض، خصوصا ما بات يعرف بشعرية التفصيل، أو كتابة التفصيل اليومي وتضمين الغنائي في سياق النثر، إلا أن هذه الحواضن تحاول مسخ هذا الجين الوراثي في تأثيث المعنى داخل هذه الأشكال الكتابية، فنستطيع أن نمضي في النصوص نحو سمة انقلابية في المدلولات التي تخلت عن هيمنة الدوال، تهدف إلى إنكار نماذج ذات معنى داخل النص أو أن شيئاً مكتشفاً كحقيقة قارة لا يعدو أن يكون خداعاً توهّم به القارئ منذ زمن طويل:
الشيخ مازال في البحر
كيف لم يمت من شدة الوحدة
كالبرد؟
همنغواي..!
أعرني بندقيتك الليلة..!
ولعل في تناولي للحواضن التسعة في الكتاب محاولة في الإشارة إلى الهم الكتابي اللغوي الذي يهيمن على نزق الكتابة لدى الشاعر مغيرة الهويدي في كتابه الأولى، إلا أن درجة توتر هذا الهم اللغوي ربما لن نختبر سلوك تحركات خطه البياني، إلا على محوري الدهشة والمجاز لنجد أنه يأخذ ذروته في مواضع كثيرة:
كنت أظنّني أبي!
وكبرت حتى هرمت «قبل اكتشاف التاء في الشهوة»
وكيف ولدت وأنا أبي؟
وهل إذا عدت إلى ثدي أمي أعود أنا..!
من أنا
هو ذاته الرجل الذي جاء في ذاك المساء وقبّل أمي
وتناول العشاء معي..؟
أيها العابر إلى الموت
رفقاً به،
بنافذة انتظارك
بسرب حمام يطير إلى هامش اللوحة
بوجوه كلّ النساء اللاّئي ما استطعن اللحاق بك
وفي سلوك كتابي عام يلف المجموعة الشعرية «الحب لا يغادر البلاد»، خصوصاً أن الشاعر له خلفية أكاديمية نقدية وفي الوقت نفسه هو ابن المرحلة الشعرية العالمية السائدة، يلاحظ أنه يسلك سلوكا كتابياً خطراً، لأنه يمارس مناورة بنيوية تتمثل بالإيحاء إلى إغلاق أفق التوقع الاحتمالي لدى المتلقي، ومن ثمة يعود ليمارس فتح أبواب هذا الأفق على مصارعها.. فالمادة التي يشتغل عليها في تخليق درجة الشعرية والشاعرية في الأنساق وحتى في السياق العام مكررة مثل / الأم / الوطن/ الكتابة/ الحرب /دمشق / جسدها…
وكما نعلم بأن أفق التوقع الاحتمالي لدى القارئ العربي صار مكتظاً بما تأخذه الانزياحات الدلالية لهذه المواد اللغوية نسقاً وسياقاً.. ولكن ما يبرر هذه المناورة هو لزوم حضور هذه المواد الدلالية في كتاب شاعر هو ابن بلاد تمزقها الحروب، وعلى ذلك نتلمس جهداً وعناء بنيوياً في كتابة النصوص، يحسب للشاعر في المناورة على هذه المواد وفتح ثغرات جديدة على تخوم جمالية التلقي لدى المتلقي، وأفق توقعه وجل ما يمكن أن نجده من إخفاق لهذه المناورة هو في مواضع قليلة فقط كانت بعض الأنساق تدخل حيّز التناص، إلا أنه كما أعتقد كان ينجو برأس النصوص من الإغلاق في كل مرة ليجد تفرداً جدياً يحسب له ضمن هذا السلوك الكتابي:
معلّقٌ على الأسلاك الشائكة
كأن الوطن جهة الريح منذ يومين
ثم إذا تشبّثت بالحديد الناتئ
ورحت أكتب تاريخي الشخصيّ بالغبار والصدى
تغير اتجاه الريح
وطرتُ ..
أنهض من نومي، أغسل سريري أرتّبُ أسناني
أشرب الجريدة، أقرأ قهوتي، أرتدي حقيبتي،
أحمل ثيابي
أنظر إلى الجدار، أغلق ساعتي وأدخل إلى الشارع
أبتسم في وجه السيارة، أفتح وجه جاري، أشعل الشاخصة
أنظر إلى سيجارتي، أرتّبُ وجهكِ، أتذكر مواعيدي …
ألغي وجهك وأوغل في تذكر مواعيدي ..
ختاماً:
من الممكن أن المتابعة في قراءة مجموعة «الحب لا يغادر البلاد» قد تفضي بنا إلى مآلات فلسفية وفكرية تمت مناقشتها في النص وتفكيكها والبناء على أنقاضها أيضاً، فهناك لوغوس أعلى تمت مناقشته بل ومواجهته أيضاً في أنساق متعددة ضمن الأنساق التي حاولت بتراتبية عناوينها الإيحاء بترابط بنيوي وبنائي، ليكون عنوان المجموعة بمثابة حوض دلالي تصب فيه فيبدو العنوان (الحب لا يغادر البلاد) توقيعاً للكتاب أكثر من كونه نصاً مفتاحياً للمجموعة الشعرية. . «الحب لا يغادر البلاد» توقيعاً للمأخوذ منا ونريد أن نسترده لنهجوه مرة بعد مرة ومن ثم نصالحه بكلمة أحبك.
_________
*القدس العربي