سأكتب لكم ..


*رتيبة كحلان

خاص- ( ثقافات )

قلت سأكتب لهم .. سأحدثهم عن أشياء كثيرة : 
عن مدن الخيال التي أدخلها بقدمين حافيتين .. 
عن المكان الذي أحب .. 
عن أعشاش الحياة التي أسرق بيضها ليصير لي سربي من البدايات المتناسلة .. 
عن الشموع التي أخبئ لهيبها بين ضلوعي حتى لا تنطفئ ..
عنّي .. 
عن الكتب التي أحب .. 
عن الأحلام التي أسرّبها لحصّالة العمر .. 
وربما .. عنهم .. 
وعن قطع الحلوى التي ألتهمها وأنا أحاول جاهدة تجاوز مرارة العالم .. 
عن البشاعة التي أغمض عنها عيوني فتطاردني بكوابيسها .. 
عن أصوات القصف التي تسحب من حلقي أي كلمة تدل على أنني بخير .. 
لكنني لا أكتب .. أُسقط سين الوعد .. أتماهى مع كل الأشياء التي لا تشبهني وحين أجلس إلى كرسي مكتبي أشعر بحضن أمي ينغلق عليّ .. تطوقني ذراعيها فأنتبه إلى عروق يديها وأتذكر -رغم أنني لم أنس- أنه لولا أمي لما جلست على هذا الكرسي راحلة إلى عوالم بعيدة، تلك التي لم تُتِحْ ثورات الحياة لأمي أن تطرق أبوابها فقفلت راجعة ومن ثم هيأتني للعتبات الكبيرة ومشيت خلفها .. كنتُ قطعة القطن خاصتها التي حمتها من كل ما قد يلوث البراءة البيضاء فيها .. 
أمي لا زالت تتقن رسم القلب وتعرف طريق تدفق الدم وتجيد الحساب وتحفظ في ذاكرتها تواريخ كل الأحداث المهمة .. 
وتعرفني .. 
وتعرفكم .. 
لا أناديها “ماما” بل أقول “يمّا” كأني بالياء والميم أجمع فيها كل الأمهات .. 
علمتني أمي ألا أترك جيوبي مثقوبة وألا أتناول وجبات باردة .. وأن أفتح قلبي للحياة أكثر مما أستطيع لأن الإنسان إذا ما قيد نفسه تهالك عليه النقص وأعماه وانكسرت مراياه دون أن يدري .. 
علمتني أمي أن أرتدي الملابس التي بمقاسي فقط وألا أعتمد على أحد حين أمد يداي للرفوف العالية .. وألا أهجر الوطن 
علمتني أمي أن أَعُدَّ البيوت الدافئة -المبنية بالحجارة الآتية من بعيد- لأنها قليلة وألا أنام إلا إذا شعرت أني فعلت أقصى ما أريد وأن أودّع أحبتي مخافة ألا أستيقظ من جديد 
وكانت أمي البعيدة التي التهمتني العزلة في غيابها .. فاحتضنني الكرسي وآوتني السطور وربتت على قلبي الكتب التي طلعت لي منها الآن مرثية حنا مينة لأمه الراقدة في تابوت الوداع إذ قال :
“وقبّلت يديها الباردتين ! أنا لم أقبّل عظما ولحما ميّتين، بل جهدا بُذل، ودمعا سُكب، وتضحية كانت” بهذه الكلمات شعرت بوخز في الصدر فعدت راكضة إلى مأواي الحبري أُتأمل قائمتي وأفكر إن كنت سأسامح حنا مينة الذي نسف كل ما كنت أفكر فيه بجملة .. 
أتودد إلى الكرسي .. أرفع سين الوعد التي أسقطتها .. أتنهد :
سأكتب لكم 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

تعليق واحد

  1. رحمة الله عليها وأسكن روحها الطيبة بجوار الصالحين والمحسنين
    شكراً على كل كلمة وحرف . ننتظرلنقرأ لك بشغف
    دمت سالمة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *