سبعةُ وجوهٍ للانتحار


*شوقي بزيع

الى ليال، على طريق العودة

1
جوفاءُ هذي الأرضُ
إلا من أنينِ السائرينَ على طريقِ الموتِ،
نبضُ الماء في الأنهار أجوفُ
والأرائكُ، حيث تعجز ركبتايَ عن النهوضِ
لكي أنظّف رغبتي في العيشِ
من أوساخها،
جوفاءُ
والندمُ العييُّ يجرُّه الكابوسُ
في نقّالة الظلماتِ،
أجوفُ
والقصائدُ إذ تحاولُ أن تروّضَ
ما تبقى من عواءٍ في غياهبِ وحشتي
جوفاءُ
شاعرةُ الظّلال أنا،
وأنا مقارنةً مع الأشجارِ،
لم أرغبْ بغيرِ يدٍ
ٍتمرِّر فوق صدري دفءَ ملمسها
وترعى بالتفتّح برعمَيْ نهديَّ،
لم أرغبْ من الرّجلِ الذي أحببتُ
إلا أن أُحَبَّ كما أُحِبُّ،
وأن يدلَّ عليّ أرضاً غير هاويتي
لأظفر مرّةً أخرى
بموسيقى الدّمِ الجذلى،
فأسلَمَني إلى الليلِ البهيميّ
الذي يرعى بآلاف العيونِ
جماليَ الذّاوي،
وحيث اليأسُ راح يمدُّ لي عجلاتِهِ التّعبى
لأغفوَ فوق سكّتهِ،
التففتُ على حياتي
مثلما تلتفُّ شرنقةٌ على أحزانها
حتى إذا مرّ القطارُ
زففْتُ لحمَ أنوثتي لصفيرهِ
وعقدتُ مع موتي قراني
2
لو كان للموتى سبيلٌ للرجوع إلى الحياةِ
لما توانى شاعرٌ في مثلِ سنّي
عن تنكُّب أرضه السوداء ثانيةً،
ليعثَرَ،
حيثُ تستترُ القصيدةُ خلف حفْرتِها،
على ضوءٍ بتوليٍّ
يقلُّ خطاهُ أبعدَ من خواءِ الحبرِ،
ليس بفعلِ زهدٍ في التّشبثِ بالجمالِ
ولا قصورٍ في اقتناصِ طرائدِ الكلماتِ،
ذلك أنني أوتيتُ
أكثرَ ما نشدتُ من الوسامةِ،
والتهمتُ قرىً بكاملها من الأردافِ،
لكنْ كان ينقصني الركونُ
إلى ظلامٍ حاسمٍ
لأذود بالكفَّين عن رأسي الذي ينشقُّ
تحت صداعهِ النصفيِّ،
بتُّ أحسُّ أن الأرضَ أوهى
من وجودي فوقَها حياً،
وأن هواءها المصروعَ يلمعُ في النوافذِ
كالمعادنِ،
والجبالَ أخفُّ من جسدي المقيتِ،
لربما حمّلْتُ نفسي فوقَ طاقتِها
ولم أعثُرْ على صمَمٍ يحرِّرني من الإصغاءِ
للصوتِ الذي يهوي على صدغيَّ
مثل مطارقٍ،
ولربما آنستُ من عينيَّ أشباحاً
تزَيِّن لي بهاءَ الموتِ،
بتُّ إذا رنوْتُ إلى خلاءٍ ما
أرى صُوري معلّقةً على الجدرانِ،
والأشكالُ ترجعني إليَّ مضاعفاً،
ولذا بحثتُ عن الحقيقةِ
في تجرّعِ سُمّها الأشهى
لأدركَ ما جهلتُ من المعاني
3
تجري الفصولُ بعيدةً عني،
النجومُ تدورُ في أفلاكِها
وتضيءُ أفئدةً سوى قلبي،
العناقاتُ التي أعددتُها لسريريَ الورديِّ
تذبلُ فجأةً،
وتشيخُ قبل أوانِها،
عينايَ لا تريانِ إلا نصفيَ الخاوي
وفي السّاعاتِ ما قبلَ الأخيرةِ
من جنوني
كنت آملُ أن أقايضَ باكتئابي
وردةً تنمو،
بعيداً عن أكاليلِ المقابرِ،
أن أقايضَ بارتيابي نظرةً
تكفي وداعتُها لتضميدِ العظامِ
من الكسورِ،
وأنْ أعرِّفني إلى جسدٍ أقلَّ برودةً
من جسميَ المحمولِ في سيّارة الإسعافِ،
لم أطلبْ من الدنيا الكثيرَ،
فقط صبوتُ إلى يدَيْ رجلٍ
تبرِّئ رغبتي من شطحِها الهوسيِّ لَمْسَتُهُ،
إلى شفتينِ تتّحدان مع شفتيَّ،
في ليليهما،
كيما أؤلِّف قبلةً لخياليَ المحمومِ،
لكنْ،
حيث تُطفَأ آخرُ الأضواءِ في رأسي
وتخذلُني كعادِتها القصيدةُ،
لم يكن أحدٌ يُشاطرني براءتَهُ
سوى النيرانِ،
تنهضُ من رمادِ أنوثتي
كيما أبادَلها امّحاءً خالصاً
من كلّ شائبةٍ،
وأولدَ من دخاني
4
لن تفهموني، قال مبتسماً،
لأني لستُ فيَّ
لكي تروا أسفي على ما لم أكُنْهُ،
ولستُ في غيري
لأُعفيني من الجرَيان نحوَ حقيقتي،
ما كان ينقصُني هو التّجوالُ
في أبديةٍ أخرى،
أحرّرُ في مراياها جمالي النرجسيِّ
من الجلوسِ أمامَ صورتِهِ،
لذا وحَّدْتُ ماءَ النّهرِ مع لغتي الغريقةِ
كي ألامسَ نشوةَ الأعماقِ عن كثبٍ
وغصتُ إلى الأرومةِ،
حيثُ أخلي للفقاعاتِ التي تطفو بعيداً
ما خسرتُ من المكانِ
5
أما أنا،
فرأيتُ جسمي مغلقاً مثل المربّعِِ
حولِ عتمتهِ،
فلا أبوابَ تفتحُ،
لا نوافذَ للحنينِ لكي أعودَ إلى صبايَ،
ولا صدىً يأتي من الماضي
لترسيمِ الحدودِ، ولو مبعثرةَ المعالمِ،
بين أسئلتي وهاويتي،
وفي الممشى الأصمِّ إلى حياتي
كانتِ الأشياءُ تمحو نفسَها
لأَبينَ أكبرَ في معادلةِ الظّلالِ،
وفي ذرى الهذيانِ،
في أوْجِ القطيعةِ مع فسادِ الدّمِّ،
كان الموتُ يجدلُ من ورائي
حبلَ مشنقتي،
لألفظَ ما تبقّى لي
من اللغةِ التي أخليتُها متعمِّداً،
وأمدَّ للدنيا لساني
6
أعددتُ لاسمي كلّ ما يتوسَّم الشعراءُ
من أقلامهم ليقاوموا النسيانَ:
بئراً للخفاءِ،
جهنَّماً للدّمِ،
أوديةً لرجْعِ الصوتِ في الأوزانِ،
جرْساً للتماثلِ بينَ قافيتينِ،
ماءً جارياً للذكرياتِ،
ولم أقصّرْ في اجتراحِ مسالكٍ للشعرِ
أصفى في العيونِ من الدموع،
ولا قصّرتُ في أن أستدرَّ من النّساءِ
عذوبةً تكفي لمنحِ الموتِ أعذاراً مناسبةً
ليتركَني وشأني،
غيرَ أن البذرةَ السوداءَ للمأساةِ
كانت، دون أن أدري،
تهيّئُ لي كمائنَها،
لأسقطَ فجأةً في فخِّ أسئلتي،
كأنْ لم أبنِ معجزتي على صخرٍ
كما فعلَ المسيحُ،
فلا لعازرُ قام حياً من حضيضِ نبوءتي،
(لا بحرَ في بيروتَ)
يُرسيني على برٍّ
لكي أهدي ملوحتَه جبالاً للحنينِ
أشدَّ صلابةً من نظرةِ الغرقى
إلى الأحياءِ،
لا نهرٌ لتزجيةِ الرّمادِ،
ولا أبالسةٌ تردُّ عن القصيدةِ
ما اعتراها من نضوبٍ،
صرتُ شبهَ مثلّثٍ متساويَ الأضلاعِ
للألمِ الذي اشتدّتْ ضراوتُهُ عليَّ،
وحينَ غضَّ الموتُ عنّي طرفَهُ
متعمّداً،
ناديتُهُ بمكبّراتِ الصوتِ كي يأتي
لأهدي صرختي مثوىً يليقُ بعُقمها
وبطلقةٍ في الرأسِ
أسدلتُ السّتارَ على زماني
7
هو لم يكنْ يسعى إلى هدفٍ
لتنتظرَ العشيّاتُ التي لم تأتِ بعدُ
وجودَه فيها،
فلم يُحزنهُ أو يُسعدْهُ
أنّ الشّمسَ تشرقُ أو تغيبُ،
وأن بلداناً ستُنزعُ من أماكنِها،
ورسامينَ جوّالينَ سوف يلمّعونَ
بأكثرِ الألوانِ زيفاً
ما تبقّى من حطامِ الأرضِ،
ذلكَ أن رؤيتَهُ إلى الأشياءِ،
وهو على شفا السّتينِ،
كانتْ لا تُقاس بغيرِ خفّتِها،
لذلك راحَ ينهبُ ما استطاعَ
من الشوارعِ،
والقصائدِ،
والمطابخِ،
والكؤوسِ،
وعائداتِ الذكرياتِ من النعومةِ،
تاركاً لرؤاهُ أن تزِنَ المسافةَ
بينَ ما أخلاهُ من طرقٍ
تضيءُ مغائرَ الماضي
وما سيظلُّ طيَّ الغيبِ من خطواتِهِ،
لا شيءَ لم يفعلْهُ بعدُ إذنْ
ليرقبَ تحت أشجار مخلّعة الجذوع
مجيءَ غودو،
هكذا آخى طوالَ الوقتِ،
متّصلاً ومنفصلاً،
خرائبَ نفسِهِ،
ورمى المحاصيلَ الضئيلةَ للسعادةِ
في براميلِ القمامةِ،
وحدَه اللاشيءَ كان يديرُ
ربعَ حياتِهِ الخالي،
ويمحو ما تبقّى في ملامحهِ
من الذكرى،
فلم يقرَأْ على لوحِ المفاتيح
الصغيرةِ للغيابِ
سوى عبارةْ:
«مُتْ لكي تنجو»
وحينَ تساوَتِ الأضدادُ في عينيهِ
بات لفرطِ خفّتِهِ عديمَ الوزنِ،
فيما، من وراءِ وجودِهِ الأرضيِّ،
كان الموتُ يأخذُ شكلَ مرتفَعٍ
ويدفعُهُ إلى الطيرانِ
نحوَ الضفّةِ الأخرى من الأيامِ
حيثُ يمدُّ له ملائكةٌ سماويونَ
أحزمةَ الأمانِ
________
*السفير الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *