*د. جودت هوشيار
( ثقافات )
تبوأ ايليا اهرنبورغ ( 1891 – 1967 ) مكانة بارزة وفريدة في الأدب الروسي، وفي الثقافة الأوروبية عموماً في القرن العشرين، لا يدانيه فيها أي كاتب روسي آخر، من المعاصرين له، فقد كان الكاتب الروسي، الأكثر شهرة في الغرب، طوال أكثر من نصف قرن من حياته الإبداعية الخصبة، أنتج خلالها أكثر من مائة كتاب في شتى أنواع الأدب، من رواية وقصة ونقد وبحث، ولكنه يعد في المقام الأول، روائياً رفيع المستوى.
ترجمت أعماله إلى أهم اللغات الحية في العالم ومن بينها اللغة العربية. وكان له- كخالق للأشكال الأدبية الجديدة في الشعر، والرواية، وأدب المقال – تأثير واضح في كتّاب وروائيين وشعراء طليعيين من جيله والأجيال الروسية اللاحقة. ويعتقد بعض النقاد الروس، أن اهرنبورغ أسهم أكثر من أي أديب آخر في تشكيل الأدب الروسي المعاصر بصورته الحالية، وأنه لا يمكن فهم تأريخ هذا الأدب، ولا التأريخ السوفييتي عموماً من دون اهرنبورغ .
بداية المشوار – من السجن إلى باريس
ولد ايليا اهرنبورغ في كييف في 27 كانون الثاني سنة1891، في عائلة روسية متنورة، من أصول يهودية ، تنتمي إلى الطبقة الوسطى، وبعد أربع سنوات، انتقلت العائلة (الوالدان مع ايليا وشقيقاته الثلاث) إلى موسكو، حيث عمل والده مديراً لأحد مصانع البيرة. أما أمه فقد كانت ربة بيت هادئة وحانية ولكن معلولة الصحة، سافرت إلى ألمانيا عدة مرات للعلاج مصطحبة معها ابنها الوحيد.
واجه ايليا الصعوبات في مقتبل العمر، حيث فصل من المدرسة الإعدادية واعتقل في أيارعام 1908 ، بسبب انتمائه إلى الحزب البلشفي ونشاطه الثوري، بتأثير مباشر من صديقه (نيكولاي بوخارين) الذي كان يكبره بثلاث سنين. وبعد أن أمضى في السجن ستة أشهر، أطلق سراحه بكفالة والده، وغادر إلى فرنسا – وليس إلى ألمانيا، كما أرادت أمه – ولم يحضر إلى المحكمة عند النظر في قضيته، في أواخر تلك السنة، واستقر في باريس. هنا عاش ابن السابعة عشرة، الرقيق الحالم في أجواء مدينة الحب والجمال والموجات الجديدة في الأدب والفن.
التقي اهرنبورغ في مقهى “روتوندا ” في مونبارناس – الذي كان معظم رواده من الكتّاب والشعراء والفنانين والمهاجرين من جنسيات شتى، بينهم العشرات من اللاجئين السياسيين الروس – بفلاديمير لينين، وزاره في بيته عدة مرات. ولكن سرعان ما خاب ظنه في البلاشفة، الذين وصفهم، في ما بعد ، بأنهم كانوا حوالي أربعين مهاجرأ، ارتسمت على وجوههم الحزينة، علامات البؤس والملل والكسل.
كان بطبعه إنسانا ساخراً، يتمتع بموهبة فريدة في التقاط المواقف العبثية سواء لدى الساسة او الثوار المهاجرين، أو من يلتقي بهم في باريس، وقد تجلت موهبته في المجلة الساخرة، التي أصدرها بعنوان “الناس السابقون ” في نهاية عام 1909 ، والتي لم تدم طويلاً، ثمّ أصدر بعدها مجلة ساخرة أخرى بعنوان “الأسرة الهادئة”. كانت معظم صفحات المجلتين تتضمن كتابات وكاريكاتيرات، تتهكم على الجوانب السلبية للحياة فيما حوله، مما أثار استياء ليني . وكان ذلك بمثابة القشة التي فصمت علاقة اهرنبورغ بالحزب البلشفي، خاصة بعد أن سمع من تروتسكي كلاماً أثار سخطه الشديد ، عن توظيف الأدب والفن لخدمة اهداف سياسية، في حين أن الشاب الحالم، كان يعتقد، أن الثقافة أسمى من أن يستخدم لأي غرض كان. فالثقافة – كما كان يرى – هي التي تسمو بالإنسان وتقرّب بين البشر بصرف النظر، عن الجنس والعرق والدين واللون، وهي جسر حقيقي للتقريب بين الشعوب. وقد ظل طوال عمره متمسكاً بهذا الرأي وواجه جراء ذلك في بلده خلال السنوات اللاحقة الكثير من المصاعب والمحن .
أصبحت باريس مدينته المفضلة، وعاش في الحي اللاتيني، وتعرف في مقهى “روتوندا” على العديد من المبدعين الشباب، أصدقاء العمر، الثائرين على الأساليب التقليدية في الأدب والفن، الذين أصبحوا، في ما بعد من أهم كتاب وشعراء وفناني القرن العشرين (غيوم أبولينير، ماكس جالوب، أندريه موروا، بيكاسو ، موديلياني ، ليجيه ، ريفيرا، مارك شاغال ،وغيرهم ) .
كانت حياة اهرنبورغ في باريس بائسة وشاقة مادياً، وثرية فكرياً وروحياً. كان مفلساً وجائعاً في أغلب الأحيان، يقرأ كثيراً، ويزور المعارض والورش الفنية لأصدقائه الفنانين، ويكتب الشعرالعاطفي والفلسفي، في أجواء “روتوندا ” البوهيمية الصاخبة، حيث يجلس لساعات طوال، إلى أن تأتي شاعرة فرنسية ناشئة، كان يترجم شعرها إلى اللغة الروسية، لتدفع ثمن كوب القهوة التي شربها. وعندما يستلم مبلغاً من الما ، الذي كان والده يرسله، بين حين وآخر، يصرفه على الفور مع أصدقائه المفلسين والجائعين مثله. ويقول عن هذه الفترة من حياته: “كانت رائحة الطعام، المنبعثة من المطاعم الباريسية – التي كنت أمر أمامها – تصيبني بالدوار”.
وفي عام 1911 أصدر ديوانه الشعري الأول تحت عنوان “أنا أعيش”. وكان ينشر بمعدل ديوان واحد كل عام . ولعل أهم ديوان أصدره في هذه الفترة ، هو “قصائد عن العشايا”، في عام 1916 ، الذي لفت إليه الأنظار، وأشاد به كبار الشعراء الروس ( بريوسوف ،غوميلوف، غوروديتسكي، ) وكان له صدى واسع في الصحافة الأدبية الروسية . كانت قصائد اهرنبورغ نوعاً جديداً من الشعر الحر، قلده عدد من الشعراء الشباب من جيله. وكتب الشاعر الروسي الكبير الكساندر بلوك مقالاً تحت عنوان “الروسي المدهش” يقول فيه عن شعر اهرنبورغ أنه أصبح موضة . وكان في الوقت ذاته، يكتب مقالات هجائية لاذعة يسخر فيها من البلاشفة ومن النظام الرأسمالي في آن، ويترجم الى الروسية قصائد الشعراء الفرنسيين الشباب بينهم صديقه، غيوم أبولينير (1880 ـ 1918) . وقد جمع اهرنبورغ هذه الترجمات في انطولوجيا الشعر الفرنسي، الذي أصدره في باريس عام 1914 تحت عنوان “شعراء فرنسا بين عامي 1870 –1913” وضمت هذه الأنطولوجيا (74 ) قصيدة لـ ( 29 ) شاعراً ، من مالارمي الى دورسينيوس .
خلال الحرب العالمية الأولى، عمل مراسلاً حربياً في الجبهة الفرنسية – الألمانية لعدة صحف روسية واسعة الانتشار، وسافر الى الجبهة الغربية وشهد سفك الدماء والموت والقسوة غير المبررة، واستخدام الغاز السام لأول مرة في تأريخ الحروب . وأدرك أن الحرب تعد مصدراً لمآسي وويلات جماعية، وظهر تأثير هذه الحرب الدموية، في ما بعد في نتاجاته .
العودة إلى روسيا
بعد ثورة شباط 1917، التي سبقت ثورة اكتوبر، صدر عفو عام عن السجناء السياسيين والمهاجرين، وعاد اهرنبورغ إلى روسيا في يوليو من السنة ذاتها . وكان الوضع معقداً للغاية ، والأحداث تتلاحق بسرعة ، وقدر له أن يكون شاهداً على اندلاع ثورة اكتوبر 1917البلشفي ، التي استقبلها بامتعاض شديد، ووصفها بأنها ( كارثة بالنسبة إلى روسيا )، وانعكس ذلك في مجموعته الشعرية “الصلاة لروسيا” التي اعتبرتها السلطة السوفيتية معادية للثورة، خاصة أنه نشر في الوقت ذاته مقالات ينتقد فيها بشدة النظام البلشفي والعنف المفرط المستخدم ضد شرائح واسعة من المجتمع الروسي، و ضد الأنتلجنسيا الروسية على وجه التحديد، ما أرغم عدداً غفيراً من العلماء والمفكرين والفلاسفة والكتاب والشعراء والفنانين الروس اللجوء الى الدول الغربية وبعضهم الى تركيا.
حاول اهرنبورغ العودة الى باريس ولكنه أخفق في الحصول على جواز سفر سوفييتي يسمح له بمغادرة البلاد، حيث كان البلاشفة قد منعوا السفر الى خارج روسيا، إلا للأغراض الرسمية .
وفي عام 1918 سافر الى مدينة (بولتافا) حيث كانت أمه تحتضر. وبعد وفاتها استقر في مدينة كييف، مسقط رأسه. وكان الوضع الأمني قلقاً في المدينة، التي كانت تنتقل من يد الى يد، في الحرب الأهلية الضروس بين الجانبين المتحاربين ( البلشفيك والبيض ).
وفي عام 1919 استولى البلشفيك على المدينة ولكن ذلك لم يدم طويلاً، حيث وقعت بعد فترة وجيزة، تحت سيطرة القوات البولونية، ورافق كل ذلك قتل عدد كبير من اليهود ونهب وسلب ممتلكاتهم، على أيدي المحتلين، وكتب أهرنبورغ مقالاً في جريدة ( كيفسكايا جيزن ) أي ( حياة كييف ) يقول فيه : “لو كان الدم يشفي، لكانت روسيا اليوم دولة مزدهرة ، ولكن الدم لا يعالج ولا يشفي ، بل يشحن الحياة بالغضب والشقاق”.
تزوج اهرنبورغ في كييف فنانة تشكيلية موهوبة اسمها ( لوبوف كوزنيتسيفا) ، التي أثر ابداعها الفني كثيراً في ذائقته الجمالية . وفي عام 1920 رحل مع زوجته الى موسكو عن طريق شبه جزيرة القرم، وكان السفر في ظروف الحرب الأهلية محفوفاً بالمخاطر، وبعد وصولهما عانيا من صعوبات معيشية جمة. وواصل اهرنبورغ نقده اللاذع للبلاشفة، وضاقت السلطات ذرعاً به، حيث اعتقل مرة أخرى، بعد بضعة أشهر من عودته الى موسكو، ولم ينقذه من السجن والنفي الى أصقاع سيبيريا، سوى زميله في المدرسة الأعدادية وصديقه “بوخارين” الذي كان قد أصبح أحد القادة البارزين في النظام الجديد، وأوسعهم علماً وثقافة، ونشر بعد الثورة عدة مؤلفات قيمة في الاقتصاد .(تم إعدام بوخارين من قبل ستالين بتهم مفبركة بعد محاكمة صورية عام 1938).
في عام 1921 تمكن اهرنبورغ ، بشق الأنفس وبمساعدة (بوخارين ) من الحصول على جواز سفر والعودة الى أوروبا ، بشكل شرعي هذه المرة . عاش في البداية في فرنسا وبلجيكا، ثم انتقل الى برلين – التي هاجر اليها عدد كبير من المثقفين الروس – وأقام فيها لمدة ثلاث سنوات حافلة بالنشاط الأبداعي ،أصدر خلالها كتاب “وجه الحرب ” ( مقالات عن الحرب العالمية الأولى)، ثم روايته الأولى الرائعة “المغامرات غير العادية لخوليو خورينيتو وتلاميذه” التي نشرت في برلين عام 1922, وفي موسكو عام 1923, وكتب بوخارين مقدمة جميلة للرواية.
ويرى مؤرخو الأدب الروسي الحديث ، أن هذه الرواية الطليعية الفلسفية الساخرة، هي خير ما كتبه اهرنبورغ من روايات، وإحدى أفضل الروايات الروسية في الربع الأول من القرن العشرين. إنها حقاً رواية مدهشة من حيث المضمون والبناء والأسلوب، لأديب حر في عالم غير حر، حيث يسخر فيها الكاتب من النظم التي كانت قائمة في أوروبا آنذاك، وبخاصة من النظام البلشفي. وعندما نقرأ هذه الرواية سنفهم ماذا يعني أن يكون الإنسان حراً! .
ومن الملفت للنظر أن الكاتب وصف لينين في هذه الرواية بأقذع الأوصاف وأقساها، ومع ذلك فإن لينين عندما قرأ الرواية أعجبته للغاية – كما كتبت زوجته ( كروبسكايا ) في مذكراتها – وقال لها: أتذكرين ذلك الشاب الأشعث؟
ظهور رواية “خوليو خورينيتو” أثار جدلاً واسعاً في الأوساط الأدبية الروسية. بعض النقاد اتهم المؤلف بالعدمية وبعضهم الآخر بالتشاؤم. اهرنبورغ نفسه اعتبر الرواية بدايةً لمسيرته ككاتب وكتب في مذكراته يقول: “منذ ذلك الحين اصبحت كاتباً، وألفت حوالي مائة كتاب في شتى الأجناس الأدبية ( روايات، دراسات، مقالات، ووصف رحلات، وغيرها . هذه الكتب مختلفة من حيث النوع ( الجنس ) الأدبي . لقد تغيرت أنا وتغير الزمن أيضاً . . ومع ذلك أجد شيئاً مشتركاً بين خوليو خورينيتو وبين آخر كتبي . لقد حاولت منذ مدة طويلة أن أمزج العدالة والشعر من دون أن أعزل نفسي عن العصر . حاولت فهم الطريق الكبير لشعبي، والدفاع عن حق كل انسان في شيء من السعادة”.
قدّم اهرنبورغ في “خوليو خورينيتو” صورة فسيفسائية ممتعة ومشوقة للحياة في أوروبا خلال الحرب العالمية الأولى وفي روسيا البلشفية ، ولكن الأهم من ذلك – عرض مجموعة مذهلة من التنبؤات المستقبلية الدقيقة، التي تحققت في العقود التالية لصدور الرواية، ومن هذه التنبؤات ، وصول النازيين الى السلطة في ألمانيا، والفاشيين في ايطاليا، واختراع القنبلة الذرية .
لم تكن تلك التنبؤات مجرد مصادفات – بل كان ثمة عقل جبار وإدراك سريع للظواهر الجديدة في أوروبا ، اللذان سمحا للكاتب الشاب، التقاط الملامح الأساسية لشعوب بأكملها وتوقع مسارات تطورها اللاحق، خلال العقود اللاحقة .
وتجدر الإشارة إلى ما حدث في أثناء احدى ندوات الكاتب مع القراء في موسكو، حيث حاول صحفي ياباني، ان يعرف من اين حصل اهرنبورغ في عام 1921 ( زمن كتابة الرواية ) على معلومات حول القصف الذري القادم لهيروشيما وناغازاكي؟ .
كتب اهرنبورغ ذات مرة يقول : “ما أن يقول الكاتب شيئاً قبل حدوثه بخمسين عاماً أو بيوم واحد ، قبل أن يصبح حقيقة معروفة للجميع، حتى تنهال عليه الانتقادات . ان الكتّاب الذين يرددون بعناية بديهيات معروفة، ليسوا سوى طفيليات عادية.”
وقال أيضا : “أن ترى الحقيقة قبل الآخرين، أمر مفرح، حتى لو تعرضت الى اللوم. وليس ثمة ما هو أسهل من ارتكاب الخطأ مع الآخرين”.
واصل اهرنبورغ خلق روايات جديدة بموازاة عمله الصحفي مراسلاً لجريدة ( ازفستيا ) السوفيتية ، حيث أصدر في عام 1923 رواية “حياة وموت نيكولاي كوربوف” . بطل الرواية يفقد فرديته، ويتحول الى برغي صغير في الماكنة الثورية، وينهي حياته بالانتحار، بعد صراع نفسي طويل، بين اخلاصه الرومانسي للمرأة الحبيبة وبين المهمات القاسية المكلف بها من قبل المخابرات السوفيتية . وعلى هذا النحو أسهم اهرنبورغ في التشريح الفني للنظام الشمولي البلشفي، على غرار الكاتب الروسي ” يفغيني زامياتين ” في روايته “نحن”.
في عام 1924 زار اهرنبورغ الاتحاد السوفييتي، حيث ألقى محاضرات عن الثقافة الأوروبية . وفي العام نفسه غادر الى باريس، التي أصبحت في واقع الأمر مكان اقامته الدائمة الى عام 1940 . وخلال هذه الفترة كان يزور موسكو بين حين وآخر، محتفظاً بالجنسية السوفيتية .
ربما كانت هذه السنوات من أخصب مراحل حياته، أصدر خلالها العديد من الروايات والمجاميع القصصية والدراسات، منها رواية “مجموعة شركات اي دي” التي كان لها صدى كبير. ثم روايات ” صيف عام 1925″ و “ممر التدفق” و”اليوم الثاني” و”الحياة العاصفة للازيك رويتشفارتنز” و “قصة حب جين ناي” و “الانتهازي”، ومجموعة قصصية تحت عنوان “ثلاثة عشر غليونا” وهي مجموعة “نوفيلا” أي القصة الطويلة القصيرة حسب المصطلح العربي، وهي، تدهش القارئ، بسعة نطاقها وتشابك المصائر البشرية فيها وفهم التأريخ والطبيعة البشرية، كما أصدر في الفترة ذاتها مجموعة مقالات عن الفن تحت عنوان “ومع ذلك فإنها تدور” . وكتاباً تأريخياً تحت عنوان “مؤامرة المتساوين” المكرس للمؤامرة التي تزعمها الشيوعي الطوبائي ( غراكخ بابيف 1760 – 1797 ) في فرنسا في نهاية القرن الثامن عشر .
وكما فعل غوركي عندما كان يقيم في أوروبا، بذل اهرنبورغ جهوداً كبيرة لنشر هذه الكتب في روسيا، حيث جمهوره الواسع من القراء، وأفلح في ذلك أحياناً بفضل جهود “بوخارين”، وفي الوقت ذاته، تم نشر معظمها في أوروبا أيضاً مترجمة الى اللغات الفرنسية والألمانية والأنجليزية. وحسب علمي، لم تترجم هذه النتاجات الى اللغة العربية لحد الآن .
موقف اهرنبورغ من معاداة السامية
في العديد من نتاجاته ثمة اشارات الى أصله اليهودي، رغم جهله للغة العبرية وعدائه الواضح للصهيونية، كشكل من اشكال العنصرية . ففي عام 1927 نشر مقالاً تحت عنوان “ملعقة من القطران” لفت انتباه القراء والنقاد ، أشاد فيه بالتشاؤم كأهم محرك للتطور الثقافي في المجتمع اليهودي ، الحامل على الدوام روح الشك والبحث ، وهذا هو السبب الرئيس لأسهام اليهود العظيم في الثقافة العالمية .
كان اليهود أبطال روايتيه “ممر التدفق و “الحياة العاصفة للازيك رويشفانيتس” ومن اللافت للنظر أن تنقل “لازيك” في أراضي الإتحاد السوفييتي، كانت تلك الخلفية التي سمحت للكاتب استخدام قلمه الهجائي اللاذع للسخرية من النظام البلشفي، وكل من يمثل هذا النظام بشتى أصنافهم- البيروقراطيين، ومنتسبي القضاء، الذين مارسوا الاضطهاد بحق الأبرياء من اجل مصالحهم الشخصية، وأخيراً الكتّاب والنقاد والمنافقين المهتمين بسلامتهم الشخصية والحصول على فتات الموائد .
إحساس مبكر بالخطر النازي الداهم
في أوائل الثلاثينات راقب اهرنبورغ بقلق عميق كيف يتوثب الفاشست الألمان للقفز إلى السلطة، وكيف تتراجع الأحزاب الديمقراطية أمام ضغطهم الشديد، وكيف يقع الشعب الألماني العظيم – الذي منح العالم روائع الثقافة والفكر والفلسفة والموسيقى والأنجازات التكنولوجية، التي اسهمت في تقدم البشرية – على نحو متزايد، تحت رحمة قوى الظلام والهمجية ومعاداة السامية.
وأحس، قبل غيره، بخطر النازية الداهم, وكان أمامه خياران احلاهما مر: اما البقاء في باريس في ظل مستقبل مجهول محفوف بالمخاطر، أوالرجوع الى الوطن. لم يدم تردده طويلاً، خاصة أن نظام ستالين لم يكن قد كشر عن أنيابه ولم يكشف عن طبيعته الدموية بعد. وكان الكاتب كدأبه، يتطلع نحوالمستقبل، الذي يبذل الشعب الروسي العرق والدماء في سبيل بنائه ، مضحياً بمباهج الحياة.
زار اهرنبورغ موسكو في أواخر عام 1931، وقام في صيف وخريف عام 1932 بجولة في ارجاء روسيا، زار خلالها مواقع المشاريع الإنشائية والصناعية العملاقة في مدن كوزنيتسك، وسفردلوفسك، ونوفوسيبيرسك، وتومسك ومنها مشروع بناء الطريق السريع موسكو – دونباس. ورأى كيف ان الشعب الروسي الكادح يتحمل عبء الحياة ومتاعبها، ويضحي بكل شيء ، بما يفوق طاقة البشر، في سبيل بناء المستقبل الجديد الموعود.
صوّر اهرنبورغ كل ذلك في رواية “اليوم الثاني” التي كتبها خلال عامي 1933 ، 1934. وفي الفترة نفسها انشغل بتأليف عدة كتب غير روائية، عن الحياة الجديدة للشعب الكادح: “خبزنا اليومي” و”دون التقاط الأنفاس” و”كتاب للبالغين” .
أسلوب اهرنبورغ البرقي
ربما كان اهرنبورغ أول من استخدم الأسلوب البرقي في الكتابة، وتجلى ذلك بكل وضوح في رواياته ومقالاته، خصوصاً في كتابيه ” خبزنا اليومي” 1932 و “باريس مدينتي” 1935. هذا الأسلوب الجديد تعرض الى نقد شديد في الصحافة السوفيتية، لأنه يتناقض مع اساليب الكتاب الكلاسيكيين الروس، الذين اعتادوا على استخدام الفقرات الطويلة للتعبيرعن فكرة ما ، والتي تظل مع ذلك غير واضحة للقارئ . الفكرة الذكية ، لا ينبغي تغليفه بغطاء سميك من الفقرات، لأن ذلك يربك القارئ، والفكرة تبدو تقريبية وغير دقيقة، في حين ان الأسلوب البرقي، والجمل القصيرة الفعالة، التي تعبر عن فكرة واضحة بكل دقة، أكثر تأثيراً في القارئ .
أخذ عدد من الكتاب الروس الشباب يقلدون الأسلوب البرقي . خاصة بعد اطلاعهم على هذا الأسلوب لدى كتاب غربيين ايضاً وفي مقدمتهم ارنست همنغواي .
اما كتاب “باريس مدينتي ” فإنه فريد في نوعه، ويتألف من صور باريسية بارعة التقطها اهرنبورغ بكاميرته الشخصية، دون أن يحس به أحد، ويصاحب كل صورة، نص ذكي، بالأسلوب البرقي ذاته. المزج بين الصورة والنص، كشف عن المبدأ الرئيس للمؤلف في هذا الكتاب: كل الصور جانبية، ولم يكن أحد من الذين ظهروا في الصور، يعلم أن العدسة موجهة نحوه. وهذا الأسلوب في التصوير، يعرف في ايامنا هذه بالكاميرا الخفية ..
أما “خبزنا اليومي” فإنه مبني على مبدأ مماثل. ويعتمد على الحقائق والوقائع، منها مثلاً – كما يقول المؤلف – “إن في الغرب الغارق في النعم والرفاهية ثمة أناس يموتون من الجوع.”.
اهرنبورغ في اسبانيا
كان اهرنبورغ، أحد أنشط منظمي القطار الأممي المتوجه الى اسبانيا والذي حمل عدداً كبيراً من أشهر كتّاب وشعراء وفناني وصحفي العالم بينهم ( أندريه مالرو ، وجورج أورويل ، هيمنغواي ، وبابلو نيرودا، وغيرهم .) وذلك للالتحاق بالجمهوريين ومقاتلة قوات فرانكو الفاشية بالبندقية والقلم في آن واحد .
ومن اسبانيا أرسل اهرنبورغ تقارير وريبورتاجات وحوارات ومقالات صحفية، تتحدث عن بطولات المقاتلين الوطنيين، ومآسي الحرب الأهلية، وتعد – حتى اليوم – نماذج رفيعة المستوى للفن الصحفي، بجدة مضامينها، وعمق أفكارها وجمال لغتها، والأهم من ذلك بحرارتها العاطفية المشبوبة، وقد جمعت هذه المواد في وقت لاحقً في عدة كتب منها “تأشيرة الزمن “. ويقول ناقد روسي ان لا أحد يكتب اليوم على غرار اهرنبورغ ، لأنه لا أحد يمكن أن يصل الى مستواه.
وبموازاة عمله الصحفي كتب في عام 1937 مجموعة قصص قصيرة بعنوان “خارج الهدنة” ورواية “ما الذي يحتاجه الإنسان “الذي ترجم الى العربية تحت عنوان ” اذا أردت أن تعيش “..
بعد هزيمة الجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية، انتقل اهرنبورغ الى باريس، وشهد الاحتلال الألماني لفرنسا في عام 1940 . وكاد أن يقع في ايدي الجستابو الألماني ، فقد كان كاتباً وصحفيا معروفاً ، شجب في تقاريره الصحفية ، النظام الفاشي بشتى صوره ( الأسبانية والألمانية والأيطالية )، ولكنه استطاع الإفلات واللجوء الى السفارة السوفيتية في باريس والاختباء فيها. ويقول أهرنبورغ، عن الأيام الأولى للحرب، أنه كان يعمل لساعات طويلة ، اكثر من أي وقت مضى ، حيث كان يكتب ثلاث أوأربع مقالات في اليوم الواحد للصحف السوفيتية ، وبعد عدة اسابيع من اختبائه ، استطاع بمساعدة السفارة العودة الى بلاده.
كان سقوط باريس كارثة شخصية حقيقية لاهرنبورغ ، باريس المدينة الرائعة ، التي احبها بعمق وقضى فيها أفضل سنوات عمره ، مدينة السحر والجمال والفنون والآداب والفكر والعلم تقع تحت أقدام الفاشست ! يا لها من مأساة مروعة !. وفور عودته الى موسكو شرع بكتابة رواية عظيمة تحت عنوان (سقوط باريس)، التي صدرت عام 1942 . وتصدرت على الفور قائمة الكتب الأكثر رواجاً في بلدان التحالف المناهض للنازية، وسرعان ما ترجمت الى اللغة الإنجليزية في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، والى الفرنسية في موسكو وباريس والعديد من اللغات الأوروبية والآسيوية، بضمنها اللغة العربية .
في عام 1944 عندما زار الجنرال ديغول موسكو، التقى اهرنبورغ وأنعم عليه بوسام جوقة الشرف .
من المعارضة إلى تأييد الجوانب الإيجابية للحياة السوفيتية
منذ أوائل الثلاثينت ظهرت بوادر تأييد اهرنبورغ للجوانب الإيجابية من الحياة السوفيتية، وتعززت هذه البوادر في السنوات اللاحقة ، ولكن دون التضحية باستقلالية الكاتب الروحية – السياسية ، ودون اللجوء الى كيل المديح للنظام أو لستالين شخصياً ، كما كان يفعل معظم الكتّاب السوفيت .اهرنبورغ ركز على مناحي الحياة المثيرة لاهتمامه وتجاهل المناحي الأخرى عن عمد، لكي لا يصطدم بالنظام الاستبدادي والذي يؤدي حتما ، ليس فقط الى منعه من النشر ، بل حتى تصفيته جسديا ، كما حدث لأصدقائه من رجال الدولة والكتاب والشعراء الفنانين الروس الكبار (بوخارين ، بابل ، ماندلشتام ، ايزنشتين ، وغيرهم ) .
ورغم حذره الشديد، فإنه اصطدم أكثر من مرة بالرقابة الحكومية المتمثلة ليس فقط ، في الرقباء الرسمين على النشر، بل برؤساء تحرير الصحف ودور النشر ، والأهم من ذلك بالقسم الأيديولوجي في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي . وكان في كل مرة يعتقد أن نهايته قد قربت وان ( زائر الفجر ) سيدق باب منزله قريباً ، ويصادر كل ما هو موجود في مكتبه من نتاجاته غير المنشورة وأرشيفه الثري ، واللوحات الفنية الرائعة ، المهداة إليه من أصدقائه الفنانين ( بيكاسو ، شاغال ، مودلياني ، ليجيه ، وريفيرا وآخرين . وانه سيرمي في زنزانة مظلمة وخانقة ، ويقوم الجلادون ، بانتزاع الاعترافات منه بالتعذيب الوحشي ، الذي تفننت فيه المخابرات السوفيتية . ولم يكن يهمه سلامته الشخصية بقدر ما كان يخشى عار الأعترافات المفبركة والكاذبة التي ستنتزع منه ، كما حدث مع أصدقائه .
الحياة علمت اهرنبورغ أن يكون دبلوماسياً مراوغا، وكان في كل مرة يصطدم فيها بأيديولوجي الحزب وممثلي السلطة، يلجأ الى المخاطرة بحياته وكتابة رسالة خطية الى ستالين نفسه، يشرح فيها موقفه، وكان يعرف نفسية الطاغية ستالين، أكثر من علماء النفس ، ويعرف كيف يقنعه برأيه ، ويكسبه الى جانبه . ومن يقرأ هذه الرسائل، لا بد أن يدهش لجرأة هذا الأنسان الحر ومخاطرته بحياته اكثر من مرة . وينبغي القول هنا أن كل رسالة من هذه الرسالة قطعة من الأدب السياسي الرفيع ، حيث كان أهرنبورغ يشير الى اخطاء بعض ممثلي الحزب والسلطة وتداعياتها السلبية ويقترح البدائل للمضي قدماً في بناء ما يتطلع اليه الشعب الروسي . لقد أصبحت رسائله الى ستالين مادة دسمة للباحثين ومؤرخي الأدب الروسي الحديث .
بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، عاد من بقي على قيد الحياة من النقاد الذين كانوا يعتاشون على فتات موائد الستالينية، الى نشر سمومهم، ولكن هذه المرة ليس اتهام اهرنبورغ بمخالفة تعاليم ستالين والواقعية الاشتراكية ، بل ألحوا في التساؤل : كيف بقي أهرنبورغ على قيد الحياة ولم يقم ستالين بتصفيته كما فعل مع العديد من زملاءه وأصدقاءه من الكتاب والشعراء والمسرحيين ؟
أعتقد أن اهرنبورغ نجا بأعجوبة من مقصلة ستالين ، لأن الطاغية كان بحاجة اليه ، كممثل للأدب السوفييتي في الغرب ، وعلاقاته الواسعة مع الأنتلجنسيا الأوروبية .
أما اهرنبورغ نفسه فإنه كتب في ختام مذكراته يقول :
“أريد أن أقول مرة أخرى للقراء الشباب، أنه لا يمكن شطب الماضي. خلال ربع قرن من تأريخنا حوّل شعبنا روسيا المتخلفة الى دولة حديثة قوية. ولكن مهما كان فرحتنا بنجاحاتنا ومهما أثارت القوة الروحية لشعبنا الموهوب إعجابنا ، ومهما كان تقييمنا لعقل وارادة ستالين ، لم نتمكن من العيش في وئام مع ضمائرنا وحاولنا عبثاً عدم التفكير في أشياء كثيرة .”
مقالات أقوى تأثيراً من البنادق
مع بداية الهجوم الألماني على الاتحاد السوفييتي في 21 حزيران 1941، أخذ يكتب المقالات النارية من جبهات القتال ضد الفاشستية الهتلرية، للصحف والإذاعات السوفيتية ، مقالات تلهب حماس المقاتلين والتي وصفها أحد قادة الجيش الأحمر، بأنها كانت أكثر فعالية من البندقية الآلية . وكان الضباط يقرأون كل مقالة جديدة للكاتب لجنودهم قبيل خوض المعارك .
ومن الطريف أن الجنود السوفييت ، الذين لم تكن السكائر متوفرة لديهم ، كانوا يلجأون الى تدخين اللف المصنوع من أوراق الجرائد. وقد أصدرت قيادة احدى الفرق العسكرية أمراً موجهاً إلى منتسبيها تقول فيه، أنه يسمح بتدخين اللف المصنوع من ورق الجرائد ماعدا تلك، التي تحتوي على مقالات أهرنبورغ . ويعلق الكاتب السوفييتي الشهير قسطنطين سيمونوف على هذا الأمر قائلاً : “هذا أقصر وأفضل تقييم سمعته في حياتي، والذي يغمر قلب أي كاتب بالفرحة “. .
في سنوات الحرب كان اهرنبورغ غالباً ما يلقي المحاضرات على المراسلين الحربيين الجدد . وقال في محاضرة له : ” يا زملائي الجدد، تذكروا، ليس بوسع أي شخص أن يصبح صحفيا . كما ان سنوات من المثابرة لا تجعلك صحفيا ، اذا لم تكن لديك الموهبة والاحتراق الروحي الداخلي، ولم تعشق هذه المهنة الرائعة، الأكثر تعقيدا، وشمولاً .. جامعاتي لا تتعدى ست سنوات في الإعدادية والناس، والكتب، والمدن، والبلدان، والجبهات، والطرق، والقطارات، والبواخر، والدراجات، والكراسي، والمتاحف، والمسارح، وحياة النباتات والسينما . ستعودون الى وحداتكم العسكرية قريباً، وسيبدأ عملكم في الصحافة الجبهوية. اعلموا انكم ستعانون من ضيق الوقت دائماً، ولكن قبل اعطاء أي مادة للنشر ، سواء كانت – مقالة ، أو حواراً ، أو قصة ، أو معلومات – الى يد رئيس التحرير المجهد ، أقرأوا المادة بعناية مرة أخرى ، وفكروا ، هل سينشرها ويقدمها ، كمشروب منعش ، الى الجنود المرابطين في الخنادق. تجنبوا في نتاجاتكم الشعارات الصارخة غير المبررة –كل شعار ينطوي على مناشدة ، ينبغي ان يصاغ دائما في قالب أدبي وبشكل مركز ووجداني.
كان اهرنبورغ غزير الإنتاج ويكتب يومياً أكثر من مقال مؤثر ومشحون بالعواطف الجياشة ، وهي بمجملها تبلغ أكثر من 1500 مقال ، يفضح فيها الجرائم البشعة التي ارتكبتها قوات هتلر في الأراضي السوفيتية المحتلة ، ولعل أشهر هذه المقالات هي سلسة ( فريتس ) اللاذعة ، التي يسخر فيها من الجنود النازيين . وقد أصدر هتلر أمراً حربياً موجهاً الى جيشه يأمر فيها بإعدام اهرنبورغ ، فور إلقاء القبلض عليه بعد ( احتلال ) موسكو . ولكن موسكو صمدت، ولم تتمكن القوات الهتلرية من دخولها. وقبل بضع سنوات صدرت هذه المقالات في ثلاثة مجلدات. ولم تفقد اهميتها حتى اليوم.
في السنوات التي اعقبت الحرب العالمية الثانية نشرروايتان ، هما ” العاصفة ” ( 1946) و” الموجة التاسعة ” ( 1950 ) اللتان أثارتا جدلاً واسعاً في الأوساط الأدبية السوفيتية ، وتزامن صدور الرواية الثانية مع بدأ حملة ستالين الدموية ضد “الكوسموبوليتية ” التي ذهب ضحيتها عدد كبير من خيرة الكتاب والشعراءالروس . شظايا هذه الحملة كادت أن تودي بحياة اهرنبورغ ، حيث قام عدد من النقاد الانتهازيين ، بما زعم أنه ” فضح” لمحتوى أدب اهرنبورغ المودرنزمي ، وأعادوا الى الأذهان رواياته القديمة الحداثوية ومنها على وجه الخصوص ” قصة حب جين ناي ” و ” حياة لزيك رويتشفانتس الصاخبة ” و كتابه عن الرمزيين والمستقبليين الروس ” صور الشعراء الروس ” و” بيان للدفاع عن البنائية في الفن ” .
محاكمة أدبية
في الاجتماع الشائن، الذي عقد في مقر اتحاد الكتّاب السوفييت عام 1949، لإدانة اهرنبورغ ، شن عدد من كتّاب السلطة هجوماً عنيفا على الكاتب وأنحوا عليه باللائمة في كل شيء، ووصل الأمر حتى إلى شجب مقالاته المناهضة للفاشست .
قام أولئك الكتّاب، باستجواب اهرنبورغ، بطريقة أشبه بالمحاكمة. ونحن ننقل هنا محضر ذلك الاجتماع – الذي تم كشف النقاب عنه في زمن البريسترويكا وبعد سنوات طويلة من وفاة اهرنبورغ . وثيقة قاسية من العهد السوفييتي القريب ، حينما كانت المدارس السوفيتية تعلم تلامذتها أن يكتبوا في دفاترهم بخط كبير : “نحن لسنا عبيداً ، نحن لسنا عبيداً” .
لم يكن من السهل تلقي ضربات المصير في ظل نظام شمولي ، وكان على الكتاب الأحرار أن يكونوا بصلابة الفولاذ ، لكي يتمكنوا من تجاوز المحن، ومن كان يمتلك مثل هذه الصلابة هم وحدهم ، الذين لم يخونوا ضمائرهم وحافظوا على كرامتهم الأنسانية ، وهم يخاطرون بحياتهم . وكان بين هؤلاء أو بتعبير أدق في مقدمة هؤلاء الكاتب الأنساني ايليا اهرنبورغ . هذا المحضر مادة نفسية مثيرة . ويحمل عنوان :”النظر في النشاط الأدبي للكاتب غير الحزبي ، ايليا غريغورييفيج أهرنبورغ “.
نص المحضر
سيتحدث في الاجتماع كل من سوفرونوف، غريباتشيف ، سوروف ، كوجيفنيكوف ، والناقد يرميلوف .
أناتولي سوفوروف : “أقترح فصل الرفيق أهرنبورغ من اتحاد الكتاب السوفييت بسبب النزعة الكوسموبوليتية في نتاجاته . ” .
نيكولاي غريباتشيف : ” أيها الرفاق ، هنا ، قيل الكثير عن اهرنبورغ ، ككاتب بارز ، خلال الحرب الوطنية ( يقصد الحرب العالمية الثانية ) وكتب مقالات مطلوبة وضرورية للجبهة الداخلية ولجبهات القتال . ولكن في روايته ، المتعددة الأوجه ” العاصفة ” ، دفن ليس فقط البطل الرئيسي للرواية ، ¬بل ايضاً كل الأبطال الأيجابين الروس من شخوص الرواية.
الكاتب أعطى الأفضلية على نحو متعمد للفرنسي مادو . ويستنتج القارئ على نحو عفوي : دع الناس الروس يموتون ، والفرنسيون يستمتعون بالحياة.
إنني أؤيد الرفيقين سوفوروف و يرميلوف ، إن المواطن اهرنبورغ الذي يحتقر كل ما هو روسي ، لا يمكن ان يكون له مكان في صفوف ” مهندسي الروح البشرية ” هكذا علمنا معلمنا الحكيم جوزيف فيساريونوفيج ستالين .”.
ميخائيل شولوخوف : ” اهرنبورغ – يهودي ! الشعب الروسي غريب عنه روحياً ، ولا يهمه اطلاقا ، هموم الشعب الروسي وتطلعاته . وهو لا يحب ولم يحب روسيا قط . الغرب الموبؤ ، الغارق في القيء ، أقرب اليه . انا اعتبر ان اهرنبورغ لا يستحق المديح الذي اغدق عليه لمقالاته في زمن الحرب . الأدب الروسي المقاتل ، ليس بحاجة الى هذه الحشائش الضارة ، بالمعنى الحقيقي لهذه لهذه الكلمة .”
ايليا غريغوريفيج اهرنبورغ : ” أنتم للتو – بحدة وقحة ، لا يقدر عليها ، سوى اناس حاسدون -حكمتم بالموت ليس على روايتي ” العاصفة ” فقط ، ولكن حاولتم أن تمرغوا بالوحل ، كل نتاجاتي الأبداعية دفعة واحدة..
ذات مرة في سيفاستوبول جاءني ضابط روسي ، وقال لي لماذا اليهود هم هكذا أذكياء؟، على سبيل المثال كان ( ليفيتان ) قبل الحرب يرسم المناظر الطبيعية ، ويبيعها للمتاحف ولهواة الفن التشكيلي لقاء مبالغ كبيرة ، ولكنه في أيام الحرب بدلا من أن يلتحق بالجبهة ، عمل مذيعاً في اذاعة موسكو . وعلى خطى الضابط الشوفييني الجاهل يسير أكاديمي شبه جاهل ومتحذلق . ومما لا شك فيه أن أي قارئ ، له الحق أن يتقبل أو يرفض أي كتاب .اسمحوا لي أن أن اقدم تعليقات
بعض القراء على تلك الرواية . وأنا أتحدث عن ذلك ، ليس من أجل استمالتكم للعفو عني ، بل من أجل أن اعلّمكم ، أن لا ترموا في وجوه الناس كومة اوساخ . إليكم مقتطف من رسالة المعلمة نيكولا يفسكويا من فيرخو يانسك البعيدة : ” قتل زوجي وثلاثة من أبنائي . خلال الحرب . بقيت وحيدة . يمكنكم ان تتخيلوا، مدى عمق حزني ؟ . لقد قرأت روايتكم ” العاصفة ” . هذا الكتاب ، عزيزي ايليا غريغوريفيج ، ساعدني كثيرأً . صدقوني، فأنا لست في عمر يسمح لي أن اهدر كلامي في المجاملات . شكرا لكم ، لأنكم تكتبون مثل هذه النتاجات الرائعة . ”
وهذه سطور من رسالة الكساندر بوزدنيكوف : ” أنا معوق من الدرجة الأولى . نجوت من حصار مسقط رأسي ، مدينة سانت بطرسبورغ ، وأصبت في الحرب عام 1944 . في المستشفي بتروا كلتا ساقي . أمشي على ساقين اصطناعيين . في البداية كان ذلك صعباً ، ثم عدت الى مصنع كيروف ، الذي عملت فيه منذ يفاعتي . كنا نقرأ روايتكم ” العاصفة ” بصوت عال في الأمسيات ، وخلال استراحة الغداء ، وفي فواصل التدخين . بعض الصفحات كنا نعيد قراءتها مرتين. ” العاصفة ” رواية صادقة حقاً . في المصنع عمال قاتلوا ضد الفاشية في صفوف المقاومة الفرنسية الباسلة . لقد كتبتم ما كان يجري فعلا ، ومن اجل هذا ننحني لكم احتراماً . ” .
وهذه رسالة أخرى، وهي الأكثر أهمية بالنسبة إليّ : ” عزيزي ايليا غريغوريفيج ! لقد قرأت للتو روايتكم الرائعة ” العاصفة ” . شكراً لكم. مع خالص الأحترام . ي .ستالين . “
نهض جميع الحضور وقوفاً ودوّت عاصفة من التصفيق المتواصل .
حصل اهرنبورغ على ارفع جائزة أدبية في الأتحاد السوفييتي وهي جائزة ستالين من الدرجة الأولى ثلاث مرات ، عن رواياته ( اليوم الثاني ) و ( سقوط باريس ) و ( العاصفة ) .
ويمكن القول ان اهرنبورغ ، كان عبقري العنوان – ان جاز التعبير – والدليل على ذلك هو روايته الشهيرة ” ذوبان الجليد ” . ليس العنوان هنا مجرد مصادفة موفقة ، بل يعبّر عن القدرة على رؤية الظواهر الجديدة في المجتمع ، والأحساس الآني السريع بالتغيرات التي تحدث فيه والتعبيرعنها قبل الآخرين .
لقد أصبح هذا الاسم عنواناّ لعصر بأكمله في التأريخ الروسي. ويقصد به فترة حكم نيكيتا خروشوف ، التي تميزت بحد معقول من الحرية الفكرية والسياسية ، ومن المؤسف ، ان انقلاب القصر على خروشوف في عام 1964 حول الجليد الذائب الى كتل صماء من جديد .
الدفاتر الفرنسية
كتاب اهرنبورغ الموسوم ” الدفاتر الفرنسية ” الصادر عام 1957 ، أثار اهتمام القراء وأصبح حدثاً مهماً في الحياة الثقافية في روسيا ، بمعلوماته الغزيرة الجديدة ، والذي تناول فيه الانطباعية في الفن التشكيلي ، وتحدث عن سيزان ورينوار ومانيه وبيكاسو…ودافع عن ابداع تشيلر وكونجالوفسكي وساريان…وترجم مختارات من الشعر الفرنسي ، وأكٌد على ضرورة تنوع الاشكال في الفن .
أثارالكتاب ، رد فعل غاضب في القسم الأيديولوجي للحزب الشيوعي ، الذي أصدر قراراً بشجب فيه آراء الكاتب واعتبارها ” مضرة ايديولوجياً ” .وكان ذلك ايذاناً ببدأ حملة جديدة ضده ، شارك فيها نقاد يأتمرون بأوامر الحزب، ولكن بعض أصدقاء الكاتب في الغرب وبخاصة في فرنسا ، هبّ للدفاع عن اهرنبورغ وكتابه ومنهم أراغون . واليوم لا أحد يتذكر النقد الموجه للكاتب ، في حين ان تحليله الذكي للفن الفرنسي ما يزال يحتفظ بكل قيمته .
لم يكن هدف الكاتب التعريف بالثقافة الفرنسية فقط، بل التعبير عن آرائه في الأدب والفن ، التي لا تتفق بأي حال من الأحوال مع ” الواقعية الأشتراكية ” التي تبدو غريبة وغير منطقية على الأطلاق : هل يمكن أن نكون هناك واقعية رأسمالية أو بورجوازية ، أو مسيحية ، أو أية واقعية أخرى ، لكي تكون هناك ” واقعية اشتراكية ” ؟ .
كان اهرنبورغ الجسر الثقافي الذي كان يربط بين روسيا وفرنسا ، طوال خمسة عقود تقريباً ( 1908 – 1967 )، سواء بعلاقاته الواسعة مع الكتاب والشعراء والفنانين الفرنسيين ، أو بنتاجاته المتنوعة الأشكال ، التي كرسها للثقافة الفرنسية .
الناس والأعوام والحياة
رغم أن اهرنبورغ أخرج ما لا يقل عن مائة كتاب أدبي وفكري وسياسي، الا أن عمله الإبداعي الأهم وأروع ما كتبه في حياته بشهادة النقاد، هو مذكراته الموسومة “الناس والأعوام والحياة”، وهي مذكرات بآلاف الصفحات كتبت بين عامي 1859 – 1967 ، وتتألف من ستة أجزاء، ولم تصدر دفعة واحدة ، بل ان الكاتب كان يدفع جزءاً واحداً للنشر في كل عام ، غير أن الرقابة كانت تضع عراقيل كثيرة مع محاولة الكاتب نشر جزء جديد منها ، وتشترط عليه حذف هذا الفصل أو ذاك أو تعديل فقرات معيتة ، غير ان اهرنبورغ قاوم وعاند ، وكادت الضغوط ان تصيبه بالأحباط ، لولا إرادته القوية ، ومن جهة أخرى ، فإنه كان يدرك أن الإصرارعلى موقفه ، يعني بكل بساطة منع نشر أهم نتاج له في روسيا ، لذا وافق على حذف ( أو بتعبير أدق تأجيل نشر بعض الفصول ) ولجأ الى تعديل أية فقرة تعترض عليها الرقابة ، ويعيد صياغتها على نحو جديد أجمل واحكم من الفقرة السابقة ، وتنطوي على المعنى نفسه تلميحاً أوبين السطور، بيد أن الرقباء الحزبيين بجهلهم المركب ، لم يكتشفوا الخدعة ، ومرت عليهم مرور الكرام . ومن الفصول المحذوفة ، الفصل المكرس لرجل الدولة البارز ” بوخارين “. كما أن فصولاً أخرى ارتأى عدم نشرها ، خلال حياته ، وذكر ذلك في مقدمة مذكراته قائلاً : ” إن بعض الفصول تتعلق بشخصيات لا زالت على قيد الحياة ولم تصبح جزءاً من التأريخ بعد .” ..
كان من اليسير عليه نشر كتبه ومذكراته في الخارج ، كما فعل آخرون ولكنه لم ير ذلك أمراً صائباً، لأن النشر داخل البلاد كان أمراً بالغ الأهمية بالنسبة إليه، وإن كانت كتبه تترجم إلى اللغات الأجنبية فور صدورها في موسكو . فقد أراد بمذكراته، التأثير في الوعي الجمعي الروسي، والكشف عن حقائق مذهلة عن النظام الستاليني.
مذكرات اهرنبورغ تختلف من حيث المضمون والشكل والأسلوب عن تلك التي يكتبها المشاهير في خريف العمر . فقد فتح في هذه المذكرات امام القارئ، المشهد الثقافي العالمي على مدى حوالي ستين عاماً وعالماً بأكمله – عالم العباقرة والمبدعين في الأدب والفن والفكر والعلم في النصف الأول من القرن العشرين ، بينهم من الفنانين ( بيكاسو ، موديلياني ,ليجيه ) ومن الشعراء ( ابولينير ، ايلوار ، نيرودا ، باسترناك ، تسفيتايفا ) ومن الكتّاب ( موروا ، وجيد ، وهيمنغواي ) ، ومن العلماء ( اينشتاين وجوليو كيوري ) ، الذين عرفهم عن كثب ، وكانوا من أصدقائه المقربين .
والأهم من ذلك أنه كشف النقاب لأول مرة عن حياة ونتاجات عدد من الكتاب والشعراء الروس الكبار، وفي مقدمتهم ( بابل ، وزوشنكو ، ماندلشتام ، كولتسوف و المخرج المسرحي ايزنشتين وغيرهم) ، الذين أعدمهم ستالين بعد محاكمات صورية بتهم ملفقة .وبعد تصفيتهم سحبت كتبهم من المكتبات وتمّ منع تداولها وازيلت اسمائهم ونتاجاتهم من المناهج الدراسية ومنع عرض المسرحيات التي اسهموا في كتابتها أو اخراجها .
كما كشف اهرنبورغ عن عدد آخر من المبدعين الروس، الذين حجبت نتاجاتهم عن الجمهور العام بأوامر من الرقابة ، لأنهم حافظوا على استقلاليتهم ورفضوا أن يتحولوا الى ابواق للدعاية وأن يكتبوا وفق أيديولوجية الحزب. كل هؤلاء سواء المعدومين منهم أو الممنوعين من النشر، لم يكن الجيل الجديد من القراء الروس مطلعاًعلى نتاجاتهم ولم يسمع عنهم شيئاً ، الا عن طريق هذه المذكرات ، وبعد مرور سنوات طويلة على رحيلهم عن الحياة ، حين كشف اهرنبورغ النقاب عنهم بكل موضوعية وجرأة ، واطلع القراء للمرة ألأولى على اسماءهم وسير حياتهم ، وجرى البحث عن كتب ودواوين الكتاب والشعراء الذين تحدث عنهم اهرنبورغ ، وتداول نتاجاتهم المستنسخة سراً ، بين المثقفين الروس . ويمكن القول بكل ثقة ان ” الناس ، والأعوام ، والحياة ” أصبحت التربة الفكرية ، التي انبثقت عنها حركة ( المنشقين ) الروس .
كانت لمذكرات اهرنبورغ أصداء واسعة ، في داخل البلاد وخارجها وتلقفقتها الأيادي ونشرت عنها مئات المقالات النقدية، معظمها تثمن عالياً بانوراما الحياة والثقافة التي رسمها اهرنبورغ وتشيد بشجاعته الأدبية .
غير أن البعض ممن في قلبوبهم مرض ، أخذوا يحرضون السلطة ضد الكاتب . ولكن مكانته العالمية منعت السلطات من حجب نتاجاته أو المساس به شخصياً ، وان كانت تضيق عليه الخناق بين آونة وأخرى . فالزمن تغير وتغير القادة أنفسهم الى حد كبير ، وأخذوا العبرة من الضجة التي اثيرت في العالم الغربي عام 1958 ، عندما اضطر باسترناك الى رفض جائزة نوبل ومنعت السلطات السوفيتية نشر روايته ” دكتور زيفاكو ” داخل البلاد . ولم يتم نشر مذكرات اهرنبورغ كاملاً وبضمنها الأجزاء المحذوفة ، إلا في عام 1990.
مؤتمر لينينغراد الأدبي
كان تأثير اهرنبورغ عظيماً على المثقفين الروس . وأتذكر – وكنت حينذاك طالباً في موسكو –المؤتمر الذي عقدته جمعية الكتاب الأوربيين ، حول قضايا الرواية المعاصرة في لينينغراد ( بطرسبورغ حالياً ) في الخامس من اغسطس عام 1963 ، وضم أشهر الروائيين الأوروبيين ، بينهم (جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار ) والقي فيه اهرنبورغ كلمة أثارت اعجاب كتاب أوروبا ، وفي الوقت نفسه امتعاض السلطة وكتابها المشاركين في المؤتمر، مثل شولوخوف وسيمنوف وآخرين ، الذين لم يكونوا يتجاسرون على تجاوز الخطوط الحمراء لـ(الواقعية الاشتراكية ) أو ذكر اسماء الكتاب الغربيين الذين منعت السلطات دخول نتاجاتهم الى الأتحاد السوفييتي أو ترجمتها الى اللغة الروسية .
قال اهرنبورغ في كلمته : كيف يمكن لمن لم يقرأ نتاجاً أن ينتقده ! ، وكان يقصد بذلك النقاد السوفيت ، الذين لم يقرأوا روايات كافكا واورويل وغيرهما ،ومع ذلك كانوا يتهجمون عليها وينعتونها بأسوأ الألفاظ المبتذلة . وبعد القاء اهرنبورغ لكلمته التف حوله الروائيون الأجانب المشاركين في المؤتمر ، وكذلك بعض الكتاب الروس الشباب ، وقدموا له التهنئة على كلمته المؤثرة . صورة اهرنبورغ محاطاً بعمالقة العصر، ما تزال عالقة بذهني، وأتذكر أيضاً كيف خرجت الصحف السوفيتية في اليوم التالي وهي تشن حملة هوجاء ،على الكاتب ، الذي نطق بالحقيقة ، متهمة اياه بمجاملة الغرب الأمبريالي وبالكوسموبوليتية ، وبأنه يحب فرنسا أكثر من وطنه ، لأنه عاش فيها نصف عمره وتشبع بالثقافة الغربية . وكانت تلك التهم متهافتة الى أبعد الحدود ، لأن احدا من كتاب القرن العشرين ، لم يظهر قبح الرأسمالية مثلما فعل اهرنبورغ ، ثم قال لكتاب الغرب: أنتم كذلك لم تقرأوا الأدب السوفييتي الحقيقي ، فكيف يمكنكم الحكم عليه ؟ .
أهرنبورغ : الكاتب الأممي
كان اهرنبورغ كاتباً انسانياً واخلاقياً، قل نظيره، ويؤمن ايماناً عميقاً، ان الثقافة تقرّب بين الشعوب ، وكان يكره أي تعصب ، أوتمييز قومي أو ديني أو ثقافي ، ويرى “أن مثل هذا التعصب كان وراء حروب كثيرة ، وأنه لا يوجد شر أسوأ من الحرب وويلاتها ، وأن الناس في جميع انحاء العالم يمكن ان يفهموا بعضهم البعض ، حتى لو كان الطغاة يحاولون عزل شعوبهم عن العالم الخارجي “. ويقول بهذا الصدد : ” الكتاب أيضاً يمكن يمكن أن يناضل من أجل السلام ، والسعادة ، والكاتب بوسعه أن ينحى مخطوطة كتابه جانباً ، كي يسافر ، ويتحدث ، ويقنع ، ويناقش ، وكأنه يواصل تأليف كتابه ، الذي لم ينته بعد من كتابته . الكاتب مسؤول عن حياة قراءه ، وعن حياة الناس ، الذين لن يقرؤا كتبه أبداً ، وعن كل الكتب التي كتبت قبله ، وعن تلك التي لن تكتب أبداً . وحتى عندما ينسون اسمه تماماً.
لقد قلت ما أفكر فيه عن واجب الكاتب والأنسان . أما الموت فأنه يجب أن يدخل الى الحياة على نحو جيد ، ويصبح تلك الصفحة الأخيرة التي يتعذب من اجلها الكاتب الى أن يتوقف قلبه عن النبض. ينبغي أن نحب بعنفوان الشباب ، وأن ندافع عما هو عزيز علينا ، ونناضل ونعمل ونحيا ما دام القلب ما يزال ينبض .”.
توفي اهرنبورغ في 31 آب (أغسطس) عام 1967، عندما كان في حديقة منزله، يسقي الورود ، التي كان يحبها ويعتني بها . وتقول ابنته الكاتبة والمترجمة ( ايرينا اهرنبورغ ) في مذكراتها ، إن قوة من المخابرات السوفيتية ، حضرت الى الدار ، فور تسرب خبر وفاته ، ونقلت جثمانه الى مكان مجهول ، وحين حاولت عائلته الاحتجاج على هذا التصرف الغريب ، قال أحد الضباط المكلفين بنقل الجثمان : “إن اهرنبورغ ملك للدولة وليس لعائلته”. وحاولت السلطة عدم الإعلان عن يوم تشييعه ، غير أن الخبر سرى سريان النار في الهشيم، وشيع الكاتب الكبير إلى مثواه الأخير في مقبرة العظماء ( نوفو ديفيتشي ) أكثر من عشرين ألفاً من المثقفين الروس، إضافة الى أفراد عائلته وأصدقائه .