* منى شكري
قضى معظم حياته محرضاً يبحث عن التغيير، عبر بطولة البسطاء الذين خلدهم في إبداعاته الحكائية العديدة، بلغة بعيدة عن ترف التنظير والمواربة، وتقصد مواكبة الصراعات الأدبية إلا عند الضرورة التي تفرضها حاجة الرسالة التي يريد إيصالها، كما كان في حياته تماماً، ما جر عليه رحلة المسافات الطويلة التي قضاها ذلك “المواطن العربي” في غير بلد، وعكسها بامتياز في رواية المدينة والبادية والقرية، غائصاً في ملح رمال الصحراء مرة، وأخرى فلاحاً يتأمل اقتلاع أشجاره، أو متنفساً مع السجناء هواء القهر، ملتقطاً في كل محطة من محطاته زاداً فنياً بعبق التاريخ لمعاركه التي لا تنتهي ضد طبائع الاستبداد والجهل.
لكنه رغم كل هذه الهواجس، وجد فسحة لقصة حب مجوسية، غير عابئ، وهو يحرك شخصياته بالملاحقة والتخفي الثيمة الأبرز في أعماله التي تتوارى خلفها فلسفته الوجودية في الحياة.
ولد عبد الرحمن إبراهيم منيف في عمّان عام 1933 من أب سعودي وأم عراقية، قضى بداية حياته في الأردن حتى حصوله على الشهادة الثانوية، ليلتحق عام 1952 بكلية الحقوق بجامعة بغداد، وهناك قادته أحلامه للانخراط سياسياً عضواً في حزب البعث، ولكن ما لبث أن طردته السلطات العراقية وعدداً من زملائه عام 1955 إثر الاحتجاجات على حلف بغداد.
احتضنته مصر عبد الناصر لإكمال دراسته، وفي عام 1958 توجه إلى بلغراد، حيث تابع دراسته حتى حصوله على الدكتوراه في اقتصاديات النفط، ومنها انتقل إلى دمشق ليعمل في الشركة السورية للنفط حتى عام 1973، وخلال تلك الفترة وتحديداً في عام 1963 كلفته ميوله اليسارية لسحب جنسيته.
في عام 1973 غير مساره المهني إلى الصحافة، وكانت البداية مع مجلة البلاغ البيروتية، ثم عاد إلى العراق مرة أخرى عام 1975، ليعمل في مجلة النفط والتنمية التي تولى رئاسة تحريرها حتى عام 1981م ، ثم سافر إلى فرنسا التي مكث فيها حتى عام 1986، ليقفل عائداً ثانية إلى دمشق عام 1986 ويمضي فيها بقية حياته حتى وفاته عام 2004.
يعترفُ منيف ذات حوار صحفي، أنّه آمنَ في عز المد الناصري أنّ المؤسسة السياسيّة يُمكن أنْ تكونَ أمينةً في قناعاتها ومَقولاتها السياسيّة، لكنه “خُدعَ واكتشف أنّ الواقعَ غير ذلك. ولهذا بدأ بالبحث عن أشكال جديدة لمواجهة العالم ومحاولة تغييره.. سواء أكان ذلك في العمل السياسيّ أو العمل الفنيّ. ومن هنا كان الاقترابُ منْ أداة أخرى من أدوات التّعبير والتّغيير، هي الرواية”.
بدايته مع هذا العالم الأدبي، كانت مع “الأشجار واغتيال مرزوق” عام 1973 صرخة ضد أنظمة الاستبداد، مكتفياً فيها بخيوط شخصيتين جمعتهما الصدفة في “بلد عربي ما”، فاتحة لتساؤلاته وحيرته التي نثرها في أعماله التي توالت بعد ذلك بدأب لا يفتر: قصة حب مجوسية 1974، ثم مع بداية “أدب السجون” برواية شرق المتوسط 1975، ثم رواية المنولوج الداخلي “حين تركنا الجسر” عام 1976 ، ثم رواية البادية “النهايات” عام 1977، ليصدر له في عام 1979 “سباق المسافات الطويلة” التي استلهمها من “لعنة النفط” إبان حكومة مصدّق في إيران، الثيمة التي سيعود ليتكئ عليها روائياً في رائعته الصحراوية النفطية “مدن الملح”، ومع جبرا إبراهيم جبرا كتب “عالم بلا خرائط” عام 1983 في تجربة روائية مشتركة فريدة في تاريخ الأدب.
ثم جاء عقد الثمانينات بملحمة “مدن الملح” الخماسية: التيه 1984، الأخدود 1985، والأجزاء الثلاثة الباقية (تقاسم الليل والنهار، المنبت، بادية الظلمات) عام 1989، ويقرأ فيها التغيّرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية الصادمة التي عمت بلدان النفط العربي، ودور صراعات الدول الكبرى على الذهب الأسود عبر امتداد زماني من بداية القرن العشرين إلى سبعينياته في صحراء الجزيرة العربية، مطلقاً أبطاله إلى دمشق وعمّان وبيروت والإسكندرية، وباريس وسان فرانسيسكو ونيويورك في بانوراما شخصياتية مذهلة ضمت عرباً وأجانب من شتى الأصول.
وعلى الرغم من بعض سهام النقد التي طاولت هذا العمل لجهة ابتعاده عن “الانحياز الإيجابي” في رواية تاريخية، إلا أنها تظل في نظر العديد من النقاد واحدة من أهم الروايات التي كتبت بالعربية.
في عام 1992، عاد ليستكمل “شرق المتوسط” مع “الآن هنا” ليعيد القارئ مرة أخرى إلى عالم غياهب السجون البائسة. ثم ليسرد ذكريات طفولته في الأردن التي منحته لهجتها عبر “سيرة مدينة – عمان في الأربعينيات” عام 1994.
وجاءت خاتمة مشواره الروائي مع أنشودة حبه للعراق “أرض السواد” عام 1999 بأجزائها الثلاثة التي تدور أحداثها كعادته بضبابية زمنية في القرن التاسع عشر.
حاز صاحب “مدن الملح” عام 1989على جائزة سلطان بن علي العويس للرواية، وعلى جائزة القاهرة للإبداع الروائي في دورتها الأولى عام 1998 .
إضافة إلى إنتاجه الروائي، كانت لعبد الرحمن منيف مجموعة من الدراسات الأدبية والسياسية والفنية منها: الكاتب والمنفى، الديمقراطية أولا .. الديمقراطية دائما، بين الثقافة والسياسة، تأميم البترول العربي، جبر علوان: موسيقى الألوان، وله أيضاً مجموعتان قصصيتان: أسماء مستعارة، الباب المفتوح.
في عام 2007 ، تعرضت أجزاء من قبره في مقبرة الدحداح بالعاصمة السورية دمشق للتخريب، وفي عام 2015، خرجت أرملته سعاد قوادري، لتعلن في خبر صادم عن سرقة ونهب مكتبته بالكامل، التي كانت تضم مخطوطات كتاباته المنشورة بخط يده، ومخطوطات بخط يده غير منشورة، ويومياته التي كتبها وكانت تحضر لطبعها وإصدارها.
ظل صاحب الملامح الصحراوية السمراء ذلك الروائي الثائر، الذي يواقع محرمات السياسة والتاريخ دون وجل، مصراً على الانحياز الدائم للمهمشين الحالمين بالحرية والكرامة الإنسانية ضد كل أشكال القمع والاستلاب. يقول عنه الناقد الفلسطيني فيصل دراج: “آمن عبد الرحمن منيف، كغيره، بأن في الكتابة المتمردة ما ينصر الأحياء والأموات العادلين، وبأن في كتابته ما يعزّز مواقع معركة قديمة. ولعل وضوح الرؤية، منذ البداية، هو الذي جعل منيف يواجه مدة ثلاثين عاما التاريخ السلطوي الذي يخادع من لا سلطة لهم” .
_______
* ذوات