*لطفية الدليمي
1
وأزهرت شجرة اللوز
وانت تعبر الجبال المكسوة بالصنوبر والصخوروتحج إلى معابد آلهة الاغريق وتنصت لهدير الموج وضجة الزمن وتفتح نوافذك على الربيع المبكر لأرض كريت ، ترى الفصول كلها ، النحل وعناقيد العنب وأزاهير الزنبق وتنتشي بالطبيعة وتحضر لك ايليني ،معشوقة عمرك ، قدح الحليب ورغيف الخبز الريفي ، فتمتلئ بالنشوات العظيمة وتخرج الى الحديقة دامع العينين . ذلك الصباح قلتَ لشجرة اللوز :حدثيني عن الله .. فأزهرت شجرة اللوز ، تفصح عما في أعماقك وتكتب عبارة مفتاحية : روحي صرخة وأعمالي كلها تعقيب على الصرخة.
نيكوس كازانتاكيس الاغريقي الكريتي ، أنت أحد المعلمين الكبار الذين مجدوا الطبيعة والأرض والجذور والكلمة والعقل ، احبوا الجوهر المتصارع في أعماق البشر ، وطرحوا السؤال تلو الآخر دونما كلل ، وكابدوا الحج الى متاهات الحياة مرارا مترنحين بين نعمة الهدوء وفورة الثورة ،وانت من انجز ترجمة معاصرة لاوديسة هوميروس بالانكليزية وأطلقت النموذج الزوربوي ذا النزعة الأبيقورية المعنية باللذة اللحظية ، ثم انت المشغول بتخليق الحياة كل لحظة لترد على الصرخة الممتدة التي تقول: ان هدف الحياة الموت ونحن نكتب ونعزف ونرقص ونؤلف الملاحم ونولد كل لحظة ، ذلك أن هدف الحياة هو الخلود.
– تقول في كتابك “الحديقة الصخرية” إن في داخل الكائن الحي ذلك الاصطدام المستمر بجدولين متضادين يمثلان الفناء والحياة، كيف ترى هذا الصراع المؤبد ؟؟
– في داخل كل منا تتصارع قوتان أو جدولان، الأول هو شهوة الارتقاء نحو التكوين والتشكل والتطور الروحي والاتجاه نحو الحياة والخلود ، اما الثاني فهو الانحدارنحو التفكك نحو المادة، نحو الموت ، وينبع كلا الجدولين من أعماق جوهرنا البدائي..
– يؤخذ عليك أحيانا انك ترينا الظلام والقسوة والدم لكي نعتنق النور او نفهم جوهر الضياء، فتقول اننا نجيء من هاوية مظلمة وننتهي إلى هاوية مظلمة ونسمي الفاصل المضيء حياة ، هل أنت مع نظرية العود الأبدي النيتشوية؟؟
– قد لايعنيني طرح نيتشة لكنني أعلم اننا حالما نولد تبدأ رحلة العودة والانطلاق نحو الرجوع فنحن نموت كل لحظة ويصاب الكثيرون بالهلع ويصرخون بالسؤال المؤبد لماذا نولد لنموت ؟؟ هل هدف الحياة الموت.؟
– لكن الحياة ذاتها تبقى مصدر دهشتنا فهي تبدو مقاومة لكل قانون ومضادة للطبيعة وأنها بلا بداية كالموت ،ماذا نفعل لنخلق الانسجام بين هاتين القوتين المتصارعتين في أعماقنا ..؟؟
– ان نهيئ انفسنا ،أن نقوم بمهمة التحضير لعبور الهاوية وعلينا ثلاث واجبات لابد من ادراكها والقيام بها ..
– ماهي تلك الواجبات التحضيرية ؟؟
– في كتابي ” الحديقة الصخرية ” ، وهو نص عن عقيدة الزن والحدائق الرمزية اليابانية المشكلة من دوامات الرمل والصخور الموزعة في تناغم وانسجام مع بعضها ومع الطبيعة المحيطة بها ،اكتشفت عندما تأملت حديقة الزن الصخرية ان واجبنا الأول الإقرار بأن كل ماحولنا هو من ابتداع أذهاننا ..
– تعني أن كل ماحولنا هو محض وهم ؟؟
– هذا هو الواجب الأول : ان نتأمل العالم بهدوء ونقول ان كل مانراه ونسمعه ونتذوقه ونشمه ونلمسه هو من ابتداع اذهاننا فالشمس تشرق في راسي والنجومتشع في دماغي مع الافكار وتملؤني الأغاني والنحيب ، بوسع دماغي محو كل شيء وتخليقه.
– وماهوالواجب الثاني ؟؟
– علينا أولا أن نتفهم تفاصيل الواجب الأول وكيف نؤدي مهمتنا ،علينا أن نميز هذه الحقائق الانسانية.
__________
2
الانضباط أعلى أشكال الفضيلة
ولأنك جمعت في دمك بين النار والتراب- بين أسلافك القراصنة الدمويين من جهة والدك واجدادك المزارعين المنكبين على الارض والبذور في انتظار المطر من جهة امك – كيف انعكس هذا المزيج المتناقض على واجباتك لعبور الهاوية ؟؟
-كان واجبي أن اوفق بين هذين المتناقضين، أن اسحب الظلمة السلفية من اعماقي وأحولها بكل طاقتي إلى ضوء ولهذا ساحدثك عن الواجب الثاني الذي ينبغي للانسان أن يهيئ نفسه له كي ينجو قليلا : ان يعبر الهوة المظلمة إلى النور ،سيدتي تذكرين ان الواجب الاول هو ان نؤمن بأن مانراه هو محض وهم من صنع اذهاننا .
أجل ان لانصدق مانشم ونسمع ونرى لأنه من ابتداع اذهاننا.
-نعم فداخل القيود التي تكبلنا يكون العقل هو الملك ولاتوجد قوة اخرى تنافسه في مملكته، فاذا عرفنا القيود وصارعناها واخضعناها ،عندئذ نجبرها على ان تصبح أداة لعقولنا،انظري إلي انا كائن بريّ ابتهج بالنباتات والحيوانات والانسان والالهة واعتبرها اولادي فيجتمع الكون كله حولي ويلحق بي .
الاتشعر بـأنك تفرط في اللعب بهذا؟
-اجل اشعر بعبثية اللعبةالتي بلا نهاية فأقيد نفسي إلى عجلة الضرورة الملزمة، فيدور الكون حولي مرة أخرى ،حياتنا كلها لعبة صراع.
كيف بوسعك السيطرة على هذه التحولات الذهنية وعلاقتك بأشياء الحياة؟
– بالانضباط ،الانضباط هو أعلى أشكال الفضيلة ، انا كائن منضبط وإلا ماكنت لأنجز ما انجزت مع انني كنت اتوسل الى الله ان يمد في عمري عشر سنوات أخرى فلدي الكثير مما لم أقله بعد. بالإنضباط تستطيعين موازنة الرغبة والقوة فتثمر جهودك.
هذا كله يقع في مدى الواجب الأول ،فما هو الواجب الثاني الذي تراه مهما لنعبر الهاوية؟
– أن لا أتقبل الحدود ،وأتألم وأن لاتستحوذ المظاهر عليّ فأختنق ، الواجب الثاني هو ان انزف في هذا الالم وأعيشه بعمق ، العقل صبور وبوسعه المناورة ويحب اللعب والمخاتلة، اما القلب فإنه يغدو متوحشا ولايتنازل للمشاركة باللعب، إنه يندفع بقوة ويمزق أغلال الضرورة،
وماذا تصارع في هذه الحالة والقلب نافر متمرد؟
– أصارع لأخطو وراء الكائن اللامرئي الغارق في الوحل فيتعالى صوت من أعماقي : احفر فماذا ترى ؟؟ أرد : ارى رجالا و طيورا وأشجارا وأحجارا.
احفر أعمق فماذا تشاهد؟ أشاهد افكارا وأحلاما ووميض ضوء..
احفر اكثر عمقا فماذا تجد ؟؟ لاأرى شيئا ، ليل ساكن ثقيل كأنه الموت ، لعله الموت.
احفر عميقا اكثر واكثر، فماذا امامك ؟ لا استطيع اختراق الحاجز المظلم واسمع اصواتا وبكاء ،اسمع رفيف اجنحة على الضفة الاخرى ، نحيبا ورفرفة اجنحة .
لا تبكِ ، لاتبكِ ، ليست على الضفة الأخرى : الأصوات والأجنحة هي قلبك..
إذن أيها الإغريقي ،تقول أن القلب هو وسيلتنا لمعرفة انفسنا والعالم؟
– اجل هو جوهرنا المقاتل الذي لايستسلم أبدا.
هل نقصي العقل نهائيا وهو ينادينا ويتساءل لماذا نبدد انفسنا وحياتنا في ملاحقة المستحيل؟ لابد ان نعترف بحدود امكانات الانسان ونستجيب للعقل.
– لا ياسيدتي ، فثمة صوت آخر في اعماقنا، انه القوة السادسة ، صوت يقاوم ويصرخ :لا، لا , لاتعترف بالحدود ،دمّرْ الحدود والعوائق ،انكر ماتراه كل لحظة وقل : الموت غير موجود وواجبي أن اعتلي المسرح وأتدخل بمجريات العالم.
من أنت ؟؟
-انا الدرويش صانع العجائب الذي يجلس ثابتا على مفترق طرق الحواس ويراقب العالم وهو يولد ويفنى….
__________
3-
كلمة سر الحياة: لنتحد، لنوحد قلوبنا
3
أيها الاغريقي المنبثق من الأوديسة كجواد جامح ، ها أنت تخبرني بأنك في لحظة ما تستحيل درويشا متأملا ، تجلس على قارعة طرق الحياة وتتأمل ولادة العالم وفناءهُ ،تراقب الرعاع وهم يهتاجون ويصرخون ويدمرون معالم الحضارات وتود ان تبوح بكلمة السر لرفاق حياتك ، تقول ان لديك كلمة سر مثل جميع المتآمرين ، هلّا همست لي بها لأكون من فئة المتواطئين معك ؟
– لنتحد ، لنمسك بعضنا بشدة ، لنوحد قلوبنا ، لنخلق للأرض دماغا وقلبا ونمنح معنى انسانيا للصراع الخارق المتواصل ونتألم ثم نبتهج معا ، كما قلت لكِ : الألم واجبنا الثاني.
وماهو الثالث ايها الناسك الابيقوري ؟؟
– إنه الأصعب ، وليس بوسع الكثيرين اجتياز امتحانه ، قلت ان العقل يكيف نفسه ،ويريد ان يحفر الأعمال البطولية على جدران زنزانته : الجمجمة ويترك اثرا للزمن القادم ويرسم على أغلال زنزانته أجنحة الحرية ..
وما دور القلب في هذا الواجب ؟؟
– القلب يقف عاجزا لبرهة ، ففيه صرخات ايروسية ، وثمة ايدٍ من الخارج تضرب بقوة على جدران زنزانته فتمتلئ روحه بالصيحات والأمل ويرقص وهو يصلصل بأغلاله متوهما أنها اجنحة ثم يسقط جريحا محفوفا بالمخاوف الكبرى..
فماذا سنفعل إزاء محنة العقل والقلب معا ؟؟
– نفهم اللحظة المؤاتية ، لحظة النضج ونمضي قدما ندع العقل والقلب وراءنا.
تترك العقلانية والنظام وصيحات القلب المتشهي المفتون وتمضي قدما ؟؟
– أجل ، لأنني أصنع الإغراء الأخير : الأمل وهو الواجب الثالث لعبور الهاوية، العقل والقلب يقيدانني إلى الحدود ، أحرر نفسي من الرضا بمايقوم به العقل من وضع الاشياء في نظام واتساق واحرر نفسي من هلع القلب الذي يرجو العثور على جوهر الأشياء .
وماذا بعد هذا التخلي وعصيان الرضا ؟؟
– تعلمين أننا نواصل الصراع لاننا نحب التفوق ، نغني رغم انه لاوجود لمن يسمعنا ،ولا أحد يدفع اجورنا ،نكتب الشعر لأنفسنا ولانعمل للآخرين ، نحن أسياد بساتين العالم ، البستان ملكنا ، نحرثه ونشذب شجره ونجمع غلاله ونعصر أعنابه ونحتسي خلاصة خمرها ، بمعنى عندما ننسى الحدود نستطيع فعل المستحيلات ..العقل والقلب يقيداننا .
ماذا بوسعنا أن نفعل آنئذ ؟؟
– نفعل مانشاء ، نرقص ونغني ونبكي ونعشق وتتولد لدينا الأفكار والأحلام ، نعمل كل شيء ، نحرث ، ونروي الشجر ونقطف الغلال ونعصر الخمر ،كل ذلك شيء واحد طالما نحن أسياد البستان ، أسياد حياتنا..أغني وانا أكدح ثملا بما سيأتي ، بما سأعصر من خلاصات العنب.
وماذا ستقول لنا بعد حفل الكدح والحلم بالنشوة القادمة؟؟
– اتركوا جميع الأشياء في كل لحظة ، ثم ثبتوا أبصاركم بهدوء وشغف على جميع الأشياء وقولوا لن تستعبدنا الأشياء مرة اخرى أبدا ..لاتسألوا إلى أين نحن ماضون ، ليست ثمة بداية ولانهاية لاتوجد إلا اللحظة الحاضرة ، فلنعشها بكثافة وعمق وإنجاز . فلنحياها بالمرارة والألم والبهجة والشغف ، فنتمتع بكل ذلك ..
هل نستسلم؟
– لا ، بل نسلم أنفسنا للحب والألم والصراع و حينها سيغدو العالم اكثر سعة وامتدادا وابعد من حدود العقل وتشهيات القلب الايروسية..
وماذا نفعل بالجسد؟
– انظري إلى كل الاجساد ، انها ستتعفن وتفنى ،وليس ثمة من خلاص، كوني قلقة وعيشي وافرحي واحزني واتركي خطيئة الرضا ولاتقتنعي واخرقي العادة دوما.
__________
4-
لست الضوء، أنا الليل
أتكرر فكرتك عن الهاوية المظلمة التي أتينا منها وعبرنا ومضة الضوء التي تسمى حياة في كتابيك : “الحديقة الصخرية” و “تصوف” -عندما قرأت الكتابين أدركت أهمية فكرتك عن “عامل الهاوية” لفهم لعبة الحياة ومواجهة تحدياتها بين الظلمتين ، إنها فلسفتك الخاصة للقيام بواجباتنا الثلاثة : الإقرار بالوهم ومكابدة الألم واجتراح الأمل ، وجدت فكرة الكتابين متداخلة باستثناء رحلتك الى اليابان والصين في الحديقة الصخرية ،سمعتك وأنت تتابع مسيرتك بين معابد اليابان وحدائقها المتقشفة بصخورها ورمالها وكهنتها الصامتين ، سمعتك تهمهم : خائف من الكلام ، أزين نفسي بجناحين مزيفين، أصرخ أغني وأبكي لأغرق صرخة قلبي العنيدة ..
– صدمني اتصالي باليابان ، صدمنى الصمت المهيمن على معابدهم ورقصهم الطقوسي وقلوبهم ، وجدتهم يحيون في الصمت ويشعرون بالعار من صحبة الجنس الأبيض ويقمعون الصرخة في أعماقهم ، بينما كنت اطلق صرخات عرقي الأغريقي وأهتف أمام الكاهن :
“لست الضوء ، أنا الليل ، لكن ثمة لسان لهب يطعن أحشائي ويلتهمني ، انا الليل الذي يلتهمه الضوء..”
وجدتك تتقلب بين حالات متناقضة من التعاسة والسعادة واليقظة الحادة واضطراب الروح ، ترى ما معنى السعادة لدى متمرد صارخ في البرية مثلك ؟؟
– السعادة هي ان نعيش كل انواع التعاسة ..
ومامعنى الضوء الذي يسكن قلبك ؟؟
– ان أرى بعين غير معتمة جميع الظلمات..
وكيف تقوى على ذلك ..؟
– استبقي دماغي مستيقظا ، رائقا واطلقه إلى المعركة بلا رحمة حيث بوسعه التهام ظلمة الجسد بضوئه ،ليست لدي ماكنة أخرى غير العقل لأحول عتماتي إلى ضوء ..
وقلبك المتمرد ، ماهودوره في معركة الضوء والظلمة ؟
– أستبقي قلبي متأججاً جسورا وقلقا ،وفي قلبي أشعر بجميع الإضطرابات والتناقضات ،مباهج الحياة وأحزانها ،لكني أصارع كي أخضعها لإيقاع متفوق كإيقاع العقل ،وأقسى من إيقاع قلبي، أخضعها لإيقاع الكون المتسامي..
تقول ان ثمة صرخة تنطلق من أعماقك ، ماهي هذه الصرخة المجلجلة ؟؟
– إنها ليست صرختي ، بل هناك أسلاف لايحصون ، هناك موتانا الذين لايرقدون في التراب، لقد أصبحوا طيورا وأشجارا وهواءً ونحن نجلس في ظلالهم ونتغذى على لحمهم ونستنشق أنفاسهم ..
سمعتك تردد: لست وحيدا ، لست وحيدا ، من أين ينبثق هذا النداء ؟
-من سلالتي الماضية ، وعليّ ان لا ارتعش خوفا ، لأنني سأهين أسلافي، لست جسدا ماثلا في الحاضر ويائسا ، خلف قناعي الطيني يكمن وجود عمره ألف عام : أهوائي وأفكاري أقدم من قلبي ودماغي.
أفكارك ، إبداعك – أصداء الأوديسة التي تتردد في أعماقك – كيف ترى الإبداع جنونا أيها الكريتي المقاتل ؟
– أليس الإبداع دائما فقدانا للتوازن من أجل إنجاز توازن أكثر سموا ؟ حقا إن الأبداع الحقيقي هو فعل جنون ..
أراك تزهو بجنسك الاغريقي وبانتمائك الأوروبي ؟
– هذه نقيصتنا ،سألت شيخا صينيا مهذبا عندما كنت في الصين : هل أنت بوذي؟ فقال لي : آه منكم أيها البيض، تحتاجون دوما للتصنيفات ، توجدون فقط بقدر ماتنتمون إلى شيء ما أو شخص ما ، رؤوسكم مليئة بالأدراج والملفات ،بوذي ،مسلم ،مسيحي ، أبيض أصفر ، أسود ، كونوا بأنفسكم ، أنا بوذي واحترم كونفوشيوس واتبع وصاياه لكن حقيقتي تكمن في ” التاو ” الذي يتجاوز كل تعريف.
_________
5-
مناجيات مع كازانتاكيس
كافحت بأقصى ما أستطيعه لبلوغ ما لا أستطيعه
وجدتك تهمهم وأنت تنصت إلى الشيخ الصيني البوذي : أنا أعرف التاو الذي كتبه لاوتزو ، ولكن أسلافي اليونانيين قالوا قديماً : إن الروح تمرين مشترك للحواس الخمسة ، فأنا روح كهذه ، حيوان بخمس مجسات تداعب العالم ، حواسي مجساتي لاكتشاف العالم.
– انت المخلوق الذي تنصل من القرد ذات صباح ووجد نفسه عاريا بلا حماية ، بلا انياب او مخالب لا يحمل سوى نار متقدة في رأسه الهش.
– أجل ،ها أنا ممثل البشرية وسلالة الانسان بأجمعها تصرخ من أعماقي ، ففي داخلي تصطخب وتتصايح أجناس لا تحصى من البشر، بيض وصفر وسود ، ولكني تحررت منها ، تحررت من السلالة كلها ، جاهدت كي أحس بالانسان المكافح في كل مكان ، وأتأمله كيف تفوق على سلفه الحيوان ، وكيف يناضل ليبقى واقفا بقامة منتصبة ، وكيف ينظم الصرخات العشوائية ويحمي الشعلة المتوهجة ويحافظ على العقل سليماً بين عظام رأسه.
– هل تشعر بالشفقة على ذلك المخلوق ؟
– أشعر بالأسى والحنان والمشاركة وأحاول أن أفهم ما الذي يريده في مسافة الحياة بين هوة الرحم المظلمة وهوة القبر.
– وهل توصلت الى خلاصة عن هذا الكائن ؟
– أظنني فهمت شيئا عندما تحررت من عبء السلالة كلها فقررت ان لا أطمع بشيء ولا أخشى شيئا ، لقد تخطيت العقل والقلب وصعدت الى أعلى فأنا حر تماماً ، وهذا ما ابتغيته ولا أبتغي شيئا آخر عـداه ، لقد كنت أطلب الحرية وحدها.
وبماذا توصي الكائن البشري كخلاصة ؟
– أتمنى أن نغادر الأرض لا كعبيد ممزقين ومجلودين ، بل كملوك ينهضون عن المائدة وهم ليسوا بحاجة الى شيء بعد ان أكلوا وشربوا حتى الإمتلاء و لكن القلب سيظل يخفق داخل الصدر ويقاوم صارخاً : إبقَ قليلا ..
– وقلبك أيطمح الى تخطي كل شيء لينال كل شيء ؟
– أوصاني جدي حين تراءى لي في حلمي قائلا: توصّل إلى ما لا تستطيعه ، أي لا تستسلم للحدود ، امضِ قدماً ..
– وهل فعلت ، هل كافحت لقهر مستحيل لا تقدر عليه ؟
– كافحت بأقصى ما أستطيعه لبلوغ ما لا أستطيعه ، وجعلت هذا واجبي ، ولا أدري إن كنت نجحت أو فشلت ، لكني لم استسلم للحدود المفروضة على البشر.
تذكر في ما تذكره أن ثمة دم عربيٌ امتزج بدمك الأغريقي ، وتروي ان الامبراطور الروماني نيقفوروس الثاني فوكاس استعاد جزيرة كريت من العرب في القرن العاشر ووزع العرب الناجين من المعركة على قرى عديدة أسموها بارباري وفي احدى هذه القرى عاش أجدادك ..
– نعم إن في آبائي جذورا عربية فهم كالعرب فخورون وعنيدون ، معتدلون في طعامهم ومعادون للجميع ومرتابون ، كانوا يخزنون حبهم وغضبهم لسنوات عديدة ثم فجأة ينفجرون ، كانت العاطفة أهم شيء لدى أسلافي، ولكنهم يكتمون الغضب والغيظ وبينما هم موشكون على الاختناق ، يتحولون فجأة إلى قراصنة أو يفصدون دمهم ، وقد يقتل أحدهم المرأة التي يحب خشية أن يصبح عبداً لحبها.
ماذا ورثت من هؤلاء الأجداد ؟
– جاهدت لتحويل ذلك الثقل القاتم إلى روح ،حولت أسلافي الشرسين إلى روح وطمستهم وأخضعتهم إلى امتحان علوي..
وهل بقيت ثمة أصوات تهب في أعماقك من اؤلئك الأسلاف ذوي الدم العربي؟
– نعم فما زال قلبي يخفق جذلا كلما شاهدت شجرة نخيل.
_________
6-
كازانتزاكي مع عظماء القرن 19: تولستوي ونيتشة ودوستويفسكي
يفرد لك كولن ويلسون مقالا مفردا ويصفك بأنك من سلالة عظماء القرن التاسع عشر ويضعك مع دوستويفسكي وتولستوي ونيتشة لوجود روابط كثيرة مع هؤلاء العظماء الثلاثة الذين تحبهم ،وذلك في كتابهThe strength to Dream )
Literature and The Imagination) وهو الكتاب الذي ترجم الى العربية بعنوان (المعقول واللامعقول في الأدب الحديث) ويتحدث عن صبرك الفريد في ترجمتك لقصيدة الأوديسة لليونانية الحديثة وأنك أعدت كتابتها سبع مرات مابين 1924 و1938فأذهلت القصيدة النقاد ، بماذا تعلق؟
– ذلك أمر ممتع وقد قرأت ماكتبه ويلسون حين وضع اسمي بين عظماء القرن التاسع عشر بخاصة هؤلاء الثلاثة الذين اعشقهم ، أما عن الأوديسة فقد قيل الكثير عن هذه القصيدة التي كتبتها بإملاء جديد للغة اليونانية الحديثة وبلغت ابياتها 33333 بيتا وأثارت تعليقات مختلفة وكتب عنها صديقي بريفياكيكتابا بعنوان “كازانتاكي واوديسته” وهو كتاب بديع ومن أجمل ماكتب عن الأوديسة.
– يقول كولن ويلسون ان أوديسة كازانتزاكي تخلق ذلك التأثير الموسيقي العظيم الذي قيل أن رواية ” الحرب والسلام” قد أوجدته ، هل ثمة حقيقة في هذا التوصيف ؟؟
– رافقتني الاوديسة طيلة حياتي كمشروع عمر وهي تمثل رؤيتي لرحلة يوليسيس ومكابداته ،ولطالما نظمت فصول حياتي معها و كانت تسري مع انفاسي كسيمفونية عظيمة توازن خطواتي وتحولاتي وأعمالي، يسرني أن يكون لها مثل هذا التأثير الموسيقي الهائل الذي كان لـ”الحرب والسلام”.
– يخبرنا كولن ويلسون ان لديك رواية غير منشورة اسمها “إنه يقول ، إنه يريد الحرية ، اقتله” ويصف رواية “الكابتن ميخاليس” بأنها احدى روائعك إذ يقارنها برواية “الحرب والسلام ” لتولستوي ويقول انها مهمة لمن يريد فهم كازانتاكي..
– “إنه يقول ، إنه يريد الحرية ، أقتله” رواية توزعت على اعمال عديدة ، اما رواية “الكابتن ميخاليس” فإن عنوانها في البدء كان ” أبي ” ،الكابتن ميخاليس يماثل أبي في نواح عديدة ، وهي رواية عن ثورة فاشلة قام بها الكريتيون ضد العثمانيين الذين صبوا ظلمهم على أهل جزيرة كريت طوال قرن من الزمان.
– يصفك كولن ويلسون في هذه الرواية بأنك اعظم الفنانين إطلاقا منذ تولستوي لكنك لاتدين القتل والحرب كما أدانهما تولستوي!
– ان حياة الكريتيين والمظالم التي تعرضوا لها من العثمانيين جعلتهم في ثورة دائمة ومواجهات دموية من أجل حرية بلادهم فالكابتن ميخاليس ورفاقه كانوا يفضلون الموت على تسليم انفسهم للاتراك وهذا واقع مختلف عما حدث في روسيا.
– يرى ولسون شبها بين بطلك في “المسيح يصلب من جديد” والامير ميشكين في “الأبله” لدوستويفسكي.
– ربما لأن كليهما ضحيا بنفسيهما من أجل خلاص الآخرين.
– نعرف ان حكومة اليونان اليمينية حرمتك من تجديد جواز سفرك وانت منفي في فرنسا – وفي الوقت الذي كان ادباء اليونان يتآمرون ضدك – رشحك أدباء النرويج بالاجماع لجائزة نوبل وأبدت النرويج استعدادها لمنحك جواز سفر وجنسية نرويجية لكنك رفضت.
– اعتدت أن لا اطلب مساعدة من أحد فضلا عن تمسكي بجنسيتي اليونانية مهما حصل.
– يرى ويلسون انك واجهت ظلما كبيرا عندما لم تنل جائزة نوبل بفارق صوت واحد لصالح الكاتب الفرنسي (البير كامو) سنة 1957 والذي كتب الى زوجتك ايليني انك تستحق هذا الشرف مائة مرة اكثر منه؟
– لقد ارسلت له برقية تهنئة في آخر لحظات حياتي.
________
7-
سعادتي هي الزهرة الأسمى ليأسي
حياتك متطابقة مع ما تكتبه حـد التداخل والتمازج التام – على النقيض من معظم الكتـّاب الكبار- ونعلم انك لم تتحول عن مواقفك بالرغم من جميع المصائب التي حلت بك ، وقد لاقت رفيقة حياتك هيلين او إيليني- كما تنطقونها باليونانية – كثيرا من العنت بسبب إصرارك على ملاحقة المثل الأعلى الذي وضعته نصب عينيك وكنت قد اتفقت معها على ميثاق الايام العشرة التي تلتقيان فيها كل عام بينما تنوب الرسائل الكثيرة عن اللقاء وتستغرق في الكتابة وحيداً مثل أي ناسك في صومعتك ، ولم تتزوجها إلا عندما أصبحت وزيراً للثقافة سنة 1945 وكنت تقول لها :
“بما أنه ليست هناك نقطة نهاية لشيء أبدأه ، سأظل وفياً لك الى الأبد رغماً عنك” وتعترف هيلين ” بأنها أحبت هذا الرجل الفاتن الممتلىء حكمة وأنها أينعت تحت ظلال شجرته المعرفية وأحبته لأنه لم يسعَ أبداً لإثبات تفوقه وترفّعه ولأنه علمّها أن لا تخجل من ضعفها.”
لطالما تمسكت ايها الأغريقي بالمُثل العليا للقرن التاسع عشر وكنت تجهد في البحث عن المثال وترتاد دروبا صعبة وتحج الى مناطق وعرة، وترتضي العيش على كسرة خبز وكأس نبيذ وثمرة من ثمار الأرض ورسالة من ايليني حسب .
– يقول كولن ويلسون انك كنت طوال حياتك تخجل من العيش على التأليف وكنت تميل الى الحياة العملية العنيفة، واعتبر ويلسون هذا الموقف نقصاً في النضج!
– أظنني كنت في منتهى النضج وكنت أجهد نفسي كي اعيش في آن واحد كبرياءَ كل جهد وخلود كل لحظة : كنت اكتب ليل نهار منعزلا ومتمتعا حد الموت بكل كلمة أدونها وهذه هي مكافأتي – كولن ويلسون يتعامل معي باعتباري لا منتمياً، وانا متعدد الانتماءات وكثير الضلالات، أجل كنت أخجل من العيش على التأليف لكنني كتبت عدداً من الكتب المنهجية المدرسية وعشت فترة على ريعها الضئيل وانا مستوحد في مدينتي هيراكليون في كريت ، ولم اكن خجلا من ذلك ..
– تقول ايليني إنك كنت تنام قليلا وتقوم قبيل الفجر تقطّـع أبيات الأوديسة وتعددها على أصابعك وتتركها برهة لتترجم طاغور إلى اليونانية حتى خلال ايامكما العشرة التي تلتقيان فيها – أي جنون هذا؟
– كانت الحرية بالنسبة إلي دائما هي ثمرة الإدراك الإنساني الأشد نبلا ، وآخر أفعال الحب ، كنت احب ايليني أكثر حين أعمل وهي تنام قربي..
– متى كنت تشعر بألق الحب كاللهب يطويك جسداً وروحاً؟
– عندما أرى روحاً باسلة – كمثل روح ايليني- يتملكني احساس مدهش ، اضطرب وأرتبك وأشعر بالجوع والحب معا ، بالجسد والروح معا ،انا لا أهتم بالثروات والهدف والخلاص ، اهتم بالحاجة إلى تأجيج الشرارة ، تلك القوة اللاواعية التي تنطلق من أعماقنا .
– أجد بعض تناقض في اعترافك بأنك لا تجد السعادة إلا في قمة اليأس الأكبر.
– ذلك لأنني ثابرت من أجل الصعود وملامسة القمة وكان كل شيء حولي منظماً ضدي ، وعندما رأيت كل هؤلاء الأعداء، ضاعفت استعدادي وشعرت بالنشاط والتوثب والحقد والصمت وأخيرا النصر. يظن معارفي وأصدقائي أنني سعيد لأنهم يجهلون كم من الصراعات خضت لأبلغ النصر ولا يعرفون ان سعادتي هي الزهرة الأسمى ليأسي وكرهي لكل ما هو أرضي..
– كيف تصف نفسك ؟
– لست متمرداً رومنسياً ولا متصوفاً منعزلا، انا عاشق الحياة والأرض والإنسان .
________
8-
مناجيات مع كازانتاكيس
إننا نسير نحو قرون وسطى جديدة: انطلق التوحش وعلينا أن نوقد شموعنا
تقول : ما العمل ؟ لقد وصلنا القرون المتوحشة الجديدة ( كان ذلك قبيل الحرب العالمية الثانية) مالعمل؟ أعراض القرون الوسطى ظهرت – كم تنطبق كلماتك ايها الاغريقي – على حالنا في منطقة الشرق الاوسط راهنا ، تقول: ما العمل؟ لابد أن نحلم ونخطط من أجل حضارة المستقبل ، الكتابة شمعتنا المضيئة الصغيرة وعلينا ان لانترك شعلتها تنطفئ..
تقول للحبيبة ايليني وهي بعيدة في أثينا وانت معتزل في جزيرة ايجين أنك تكتب ليل نهار وتضيف اناشيد جديدة للاوديسة وتكتب المسرحيات وتدون فصولا تُنشر تباعا في الصحافة عن امبراطورة النمسا ،تخبرها انك لن تعود الى اثينا إلا لتوقع الكتاب حين يصدر “كانت ولاتزال عادة توقيع جميع النسخ من قبل الكاتب سارية في اليونان لحفظ الحقوق” تقول لها : إن الكتابة أمر مبهج ،وتنصح ايليني أن تكتب عن الأرواح العظيمة : كم أنت فرحة ومبتهجة وأنت تؤلفين كتابك عن ” غاندي”، عندما تنتهين منه سوف أساعدك على اكتشاف روح عظيمة اخرى لتكتبي عنها وتحتفظي بالفرح.
– هل حقا انك لم تكن تحب تبديد جهدك في أعمال صغيرة وانك عمدت إلى كتابة رواياتك بأبعاد ملحمية ؟؟
– اجل ، كنت اقول لابد ان نترك وراءنا أعمالا مهمة ، لكني اعترف لك انني كنت امضي أسابيع في تأليف الكتب المدرسية من أجل الحصول على مال قليل ،وأعتبرُ تلك الكتب اسهاما عمليا في تعليم الأطفال ، اضع أمامي تجربة لينين فهو عندما كان يروم الاستراحة كان يترجم القواميس الروسية الى لغات اجنبية او يمضي وقت راحته في تعلم لغة جديدة ..انا كنت ادع روحي تتوغل في بئر او في لجج الروح الانسانية عميقة الغور ..
– عانيتم كثيرا أيام الحرب من المجاعة ونقص متطلبات الحياة؟؟
– كنا نصنع خبزنا بأيدينا ويزودنا اصدقاؤنا الاوروبيون بقطعة صابون ، لكننا اصبنا بالهزال لسوء التغذية ، وقد حصلت على صفيحتين من زيت الزيتون ثمنا لترجمتي كتاب “الالياذة” وقد سمع جورج باباندريو المعارض للحكم الملكي ورئيس الوزراء لاحقا – بالأمر واستشاط غضبا على الناشر المليونير الشهير الذي أهانني واستغلني الى هذا الحد ..
– كنتما انت وايليني قلقين من اجل العيش ،المال شحيح والنشر محدود فكيف واجهتما الضائقة ؟؟
– كنت أكتب مقالات لصحيفة اسبانية، وفصولا روائية لصحيفة يونانية مقابل مبالغ هزيلة ، وقلت لأيليني : لاتقلقي من أجل المستقبل، فلا قيمة عمليةً للقلق، كل مانفعله بالقلق هو إفساد حاضرنا :فالمستقبل قد لايجيء ومن الأفضل استغلال اللحظة الراهنة وافضل مانفعله إنجاز عمل جيد.
– كان قلقكم مستديما ومعاناتكم أيضا، ما الذي كان يثير القلق غير العوز المادي ؟
– الحرب كانت تقترب والخطر وشيك وكان علينا اختيار مكان نلوذ به قبل ان ينطلق اعصار النار.. كنت أترك العمل في الرواية والأوديسة حتى اتفرغ لكتابة مقالات واكتب طوال النهار واقوم باستنساخ المقالات بيدي لأرسل بعضها الى مصر واثينا .
– تقول ايليني انك كنت غاضبا جدا ومهموما في تلك الفترة؟؟
– كانت اليونان تنحدر نحو الهاوية ولابد أن اشعر بالقرف والغضب فالأجواء فظيعة ولايمكن وصف دناءة الحكام ولؤمهم وفسادهم – وكانت هناك روحان تتصارعان احداهما سيئة والأخرى اسوأ منها واحداهما تنقض على الأخرى ولا ضوء في الأفق ولولا دانتي وعوليس وايليني لاختنقت غضبا.
_________
9-
سأصعد الجبل ولن أنزل أبداً
ذات صباح مفعم باليأس والقنوط من العالم والغضب من هجمة معظم أدباء بلدك ضدك من اجل افتراسك ،كنت تردد:
-ليس بيني وبين هؤلاء البشر قواسم مشتركة :لانحتاجهم ولايحتاجوننا ولكنهم يحاصروننا لنستسلم ، حتى الظروف الطبيعية تعادينا ، فلا الهواء ولا الطموحات ولا الفكر الانساني تشكل مناخنا ، نعم ، هذه الهموم كانت تأكلني سرا ، لذلك اعلنت : سوف أصعد الجبل ولن انزل أبدا..
– تقول ايليني : قبل الحرب العالمية الثانية لم يكن الأدباء اليونانيون البارزون يكسبون شيئا من كتاباتهم تقريبا ،وكان كازانتاكي المنعزل في جزيرة ” إيجين” يهب كتبه للناشرين أكثر مما يبيعها وحتى عندما يبيعها يتضايق من المطالبة بحقوقه.
– كنت اكتب كتبا كثيرة ، وليس لدي في اليونان ناشر واحد بسبب محاربتهم لي بينما لدي ثلاثة ناشرين في فرنسا لذا كتبت روايتي عن كريت بالفرنسية وجاءت بخمسمئة صفحة وهذا ما اضطررت إليه :أن اكتب بلغة اجنبية أنا عاشق لغتي اليونانية ومع ذلك أواصل الكتابة ليل نهار لانني سأختنق واموت اذا لم أواصل العمل ، اكتب اناشيد الاوديسة ومسرحية عن الصين ورواية في الوقت ذاته ، ولم اتوقف عند احساسي بالخديعة من قبل الناشرين فقد اخبرني ناشر كتابي عن اليابان أنه سيسدد حقوقي عندما يسترد تكاليف الطباعة وسوف ينسى وسأخجل ان اطالبه .
– تتساءل بمرارة : هل يمكن تفسير هذا الاستسلام للانخداع المستمر بنزعة قداسة خفية لدي ؟ هل هذا هوالسبب لهذا الانخداع الدائم ؟؟
– لا اعتقد ، إن الدفاع عن الحقوق يحتاج إلى خوض صراع وهذا يؤدي إلي ضياع الوقت والروح ..
– كنت تردد دوما أن الوقت هو الروح ، والأفضل أن تخسر كل ماتبقى من الاشياء وتكسب الوقت والروح ..
– لأنني لو بددت الوقت والروح لفقدت التوازن الذي يعزز حالتي الابداعية ، أنها معضلة الحياة والابداع.
-هل تؤمن باللعنة وسوء الحظ في علاقتك مع الناشرين سواء في بلدك او في الخارج ؟؟
– حدثت معي حالات جعلتني أؤمن أن اللعنة هي نوع من سوء الحظ الذي لازمني تلك الفترة مع الناشرين ، فقد صادف أن افلس الناشر الفرنسي (فوركاد) الذي كان ينوي نشر كتابي ( تودا- رابا) وتلاه الناشر (هومنت) بإعلان افلاسه ، ثم نجا الناشر ( رينو دو جوفنال) من موت شنيع بعد ان اتفقنا على نشر الكتاب لديه ، ثم اشتعلت النيران في أفضل ستوديو سينمائي في فرنسا عندما اتفقنا على كتابة سيناريوهات له ، واختفى الناشر روبير فرانس في أوج شبابه وكان يأمل نشر كتاب (تودا –رابا).
– كل هذه الاحداث توالت على كتاب واحد ؟؟
– وفي هذه الاثناء أيضا تراجع الناشر اليوناني عن اتفاقه معي لنشر القاموس وبعض الكتب التي طلبها مني لأن عددا من الادباء الحاسدين تبرعوا ليبرهنوا له انني لا أجيد الفرنسية وترجماتي سيئة ..
– يا لسوء الحظ الذي لازمك تلك الفترة ، تذكر ايليني انك كنت تشجع الأدباء الشباب ، وتضيف انك كنت تفرط بالتسامح مع الكتاّب الشباب؟
– قلت لإيليني : أنا أيضا كنت في سنهم أكتب بشكل رديء ، ليس علينا احباطهم وهم يجهدون في الكتابة ولديهم شغف ابداعي.
– و ماهو هدف شغفك الجامح للكتابة ؟
– هدفي ليس المجد أوالشهرة ولاحتى الرفاهية والثرثرة المطمئنة بل تحويل الطين الى صرخة.
_________
10-
نازيون وفاشيون وجياع
من عزلتك في جزيرة ايجين تكتب لحبيبة حياتك ورفيقة دربك ايليني . تكتب لها وهي تناضل من اجلك وخلاص اليونان من الاحتلال الفاشي والنازي، تقول لها : هنا برد قارس لكنني لا أوقد نارا فلا يوجد فحم ، نأكل الهندباء ، وقد نحصل احيانا على كسرة خبز ، تخبرها ان موضوع( اتحاد المحررين او الكتاب ) وانتماءك اليه أمر في غاية الأهمية بخاصة في زمن مجاعة الحرب ، وكأنك تهمس : يقال انهم سيقدمون لنا قرضا بستة آلاف دراخما –وهذا من شأنه أن ينقذنا .
ايليني تكتب لك : رفض المحررون قبولك في صفوفهم ، لكن ( جورج باباندريو) لم يتوقف عن مساعدتنا ، بعد بضع ساعات من رفض المحررين لك حصلت على مساعدة اثنين من كرماء اليونانيين ومعجبيك ، مانوليس بيناكس ابن رئيس بلدية اثينا ومؤسس متحف مانوليس ، والثاني الجراح الشهير سارونيس المولع بالكتب النفيسة ،اتت منهما هبة مالية ومواد غذائية .!
وللمرة الاولى تحصل على مكافأة عن حقوق التأليف من عرض مسرحيتك (بروتوماستوراس) التي تحولت إلى عمل اوبرالي ، تعترف أنك فرحت جدا بمبلغ المائة وثمانين الف دراخما عن المسرحية المسكينة فبعد كل هذه الاعوام بدأت تثمر، واخذت تتساءل : ترى متى تثمر مسرحياتي الاخرى ؟ ليكن ذلك قبل موتي..
تقول ايليني : ادركت خلال احداث حياتنا المشتركة أن هناك قانونا ثابتا في وجودنا ، فما أن تمنحنا يدٌ شيئا حتى تفتك به يدٌ أخرى قبل أن نتمتع به ، سرقت خادمتنا صوفي هدية الدكتور سارونيس الغذائية وتركت خزانتنا فارغة ..
تصمم على التقشف وتتحمل الجوع وتأكل الاعشاب والزبيب الباقي، ويأتي الانقاذ من رهبان كاثوليك : يسعدنا انك وافقت على ترجمة حياة القديس فرانسوا الأسيسي من اجلنا لذلك سنتكفل بإطعامك من الدير.
وأنت في خضم العوز والجوع تتنبه الى جمال الطبيعة بروح عاشق مستهام ، وتكتب لها : تفتحت زهور الجيروفيلي فتضوع أريجها مساء في البيت حتى ليختنق القلب وقد أزهر الصبار الذي لايزهر إلا كل اربع سنوات وأخرج زهرة عالية مثل شجرة – سأسعى الى تأخيره من أجلك حتى مجيئك.
عندما تفتحت زهرة الصبار بدأ انسحاب الجيشين الالماني والايطالي من اليونان ، وقرر الحاكم المدني النازي لجزيرة ايجين احراق الملابس العسكرية وترك المؤن والادوية وعندما علم السكان بالأمرهجموا على الكنوز ونسوا و اندفعوا في نشوتهم الى نهب مقاعد المدرسة والأبواب والكراسي واخذوها معهم ناسين أنها ملكهم، -ترى كيف برأيك يحصل هذا الصدع وينهب الناس ممتلكات دولتهم اثناء الأضطرابات والحروب؟
• لاتفسير لدي فقد حدث الأمر تقريبا لجميع الشعوب قديمها وحديثها بخاصة في البلدان المحتلة انتقاما من الحكومات التي تواطأت مع الاحتلال وجوعت شعوبها، تحدث عندما تنهار القوانين وتتعطل منظومة القيم وينطلق الوحش القابع داخل الانسان في معركة البقاء ..
وبعد رحيل الفاشيين والنازيين مذا حدث لكما شخصيا ؟؟
• طرق رجلا الدرك بابنا وقالا هيا نمزح معكما فصرخت بهما ايليني : عليكما ان تتحدثا مع نيكوس بتهذيب واحترام.
قلت لها – لابأس جهزي القهوة فهما ضيفانا..
فصرخ بانايوتي الدركي : لانريد قهوة انتما شيوعيان هيا بنا ..امس قتل الانصار الشيوعيون أخي على الجبل فأقسمت ان اقتلكم جميعا..
حبسونا ساعات ثم حررونا ورفضت السيدات الارستقراطيات المحسنات إعطاءنا حصة خبز كالآخرين لأن كازانتزاكي سبق وكان شيوعيا وهددوه بالإعدام.
______
*سلسلة تنشر في “المدى”، اخترنا في ( ثقافات ) نشر كل مجموعة منها دفعة واحدة.