قصّة غرامي مع نزار قبّاني


*بروين حبيب

منذ دخل شهر نيسان/إبريل ونزار قباني يخطر على بالي، لم أنتبه لذكرى وفاته لأنه لم يمت في داخلي أبدا، ويخيل إليّ أنني إن كبست أرقام هاتفه سيأتيني صوته من الجهة الأخرى…

لم أنتبه أن سبعة عشر عاما مضت على رحيله، إلاّ حين قرأت قصاصات جرائد عنه، قصاصات جافة كتبها موظفو إعلام لتذكير الناس بشاعر الحب والمرأة والسياسة. وإن كان طيلة حياته شاعرا كبيرا، فإنه بعد وفاته تقدّم لقب الدبلوماسي على «فخامته الأدبية»، وأصبحت الكتابة عنه واجبا لا رغبة، أو عملا يُنجَز للملاحق الثقافية حتى لا تُتَّهم بنكران الجميل، فقد كان نزار يزيد من مبيعات كل جريدة تنشر حوارا له، أو قصيدة جديدة له. 

طيلة فترة عطائه لم يكن سوى ملك تحيط به جنيات الشعر بألوان مبهرة وأنوار لم تنطفئ في قلوب من أحبوا شعره. ولأن لي حكاية فريدة معه، أحببت أن أتقاسمها معكم اليوم، ليس عتابا على من تعاملوا مع الرجل بطريقة جافة، بل عرفانا شخصيا مني له، ولأنه جزء مني ومن تكويني ومن مسيرتي الأكاديمية والشعرية.

نزار قباني في حياتي رواية…
عشت قصّة حب معه وأنا مراهقة، وكما قال لي ذات يوم صلاح فضل، الناقد المعروف والمشرف على أطروحتي للماجستير، نزار قباني كان تعويذة أصابتني بهوس، وحبي له كان مزمنا إذ لم أُشفَ منه إلى اليوم. كنت في المدرسة رمزا لذلك العشق الأدبي الخرافي، فالجميع كان يعرف أنني أحبه.

دواوينه مثل دفاتري لا تغادر حقيبتي، منذ «قالت لي السمراء»، و»أشهد أن لا امرأة إلاّ أنت» وقصائد كثيرة مغضوب عليها… كنت أملأ حقيبتي بشعره، وأتذكر أغلفة كتبه كلها بطبعاتها الأولى وألوانها، التي تصل إلى البحرين أو أقتنيها من القاهرة. 

استمرّ هذا الحب، لأنني بقيت وفية لعشق شعره، فقد أحببت المسرح، واعتليت خشبته في سن العاشرة، لكنني غادرته لأجل ألاّ أغضب أهلي، غادرته وأنا أردد في داخلي « مجبرٌ أخاك وهو بطل»، ففي نظري إلقاء الشعر أيضا مغامرة بقوة المسرح وأحيانا أقوى وقد عشقت طريقة إلقائه للشعر، وأحببت أن أقف مثله وألقي شعري.. وأظنني نجحت إلى أبعد حد، لأنني حين كنت أقف وألقي شعرا أيام المدرسة والجامعة وكان الجمهور يتفاعل معي بشكل كبير، وكثيرا ما اخترت قصائد لنزار لألقيها، ودوما كنت أفوز بالمرتبة الأولى، حتى أنني لقبت بملكة إلقاء الشّعر…

علاقتي بنزار علاقة غرام، أحببته وأنا على عتبة سن المراهقة، وحلمت أن ألتقيه، واخترت أن أعايشه خلال كل مراحل عمري، كل مرحلة بطريقة مختلفة، حضرت عنه أطروحتي، شرّحت نصوصه، أردت أن أفهم أعماقه، قمت بتفكيك كل سطوره وكلماته ومعانيه، لأكتشف ملكته الشعرية ومشاعره وأسرار روحه… وأظنني كنت محظوظة حين التقيته سنة 93 قبل أن أنهي أطروحتي وأنالها بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف (جامعة عين شمس).
لقائي به كان حكاية أخرى، التقيته في لندن، ولن أنسى فضل الكبير غازي القصيبي لأنه سهّل لي مهمة لقائه، بالتنسيق مع أستاذي علوي الهاشمي، لكنني أيضا كنت أملك شجاعة وإصرارا كبيرين لأحقق رغبتي، كنت عصامية وأعمل بالموازاة مع الدراسة، واستطعت أن أوفر مبلغا لرحلتي التاريخية لألتقيه، فسكنت في فندق «إنتركونتيننتال» الذي كان باذخا وغاليا جدا لشخص مثلي آنذاك… يومها حضرت نفسي وكأنني طفلة تستقبل العيد، ارتديت فستانا جديدا وحذاءً جديدا وركبت تاكسي «كاب» أجمل أنواع التاكسي، وبلغت العمارة التي يقطن فيها، لكن من كثرة لهفتي ورغبتي المجنونة في لقائه، وطبعا بعد ليلة أرق وقلق وارتباك ومشاعر كثيرة، دخلت العمارة أركض، ونسيت أن في العمارة مصعدا، ركضت على السلالم وانقطعت أنفاسي وتوقفت عدة مرات لأستجمع قوتي وأواصل الصعود… فتأخرت تقريبا عشر دقائق عليه، لكن ما لن أنساه أبدا حتى يتوسدني الموت، هو منظر نزار وهو واقف أمام باب شقته المفتوح ينتظرني.

يا للمفاجأة التي لم أتوقعها أبدا، بالنسبة لي كنت نكرة فكيف ينتظرني نزار بتلك الطريقة؟ ولأنني كنت قد تحوّلت إلى كومة من الفرح، طرت نحوه في لحظة وعانقته، ومشاعري كلها تهتف أنني عانقت الشعر العربي المعاصر كله، جمعت في حضني عمرا كاملا من الإعجاب بشعره، صباي ومراهقتي وشبابي وكل أحلام الفتيات والسيدات بلقائه.

لن أنسى أناقة بيته، رغم أنه شقة إنكليزية صغيرة، لكن كل تفاصيلها جميلة، حتى الفراغ فيها مدروس، اللوحات فاتنة، الكراسي، الطاولات، التحف… كل شيء كان في قمة الأناقة. كانت مدبرة البيت قد أحضرت لي عصيرا، وكانت على الصينية شوكولاته فمددت يدي لآخذ قطعة فنهرني، وقال لي البنت لازم تحافظ على رشاقتها لأني وقتها كان وزني زائدا فوق المطلوب.

كان أنيقا جدا، في لباسه وسلوكه وحديثه، فتحدثنا عن كل ما يتعلّق بشعره، وقلت له يومها بكل صراحة إني أحببت شعره الغزلي أكثر من السياسي، ثم القيت عليه قصيدة من قصائده فقال لي « والله لو كان عندي مسجل لسجلت لك لأنك ألقيتها أفضل مني»، وأهداني يومها ديوانه «مايا» وكتب لي إهداء أعتز به «إلى الصديقة العزيزة » وللأسف استعارته زميلة صحافية في البحرين ولم تعده لي، وإلى يومنا هذا أشعر بأنني لم أخسر كتابا بل مكتبة.

وعدته يومها أن أهديه أطروحتي «تقنيات التعبير في شعر نزار قباني» حين تصدر في كتاب، وللأسف صدر الكتاب بعد وفاته. وعند وفاته ارتديت أسود وأعلنت الحداد عليه وصدقوني عزاني كل من يعرفني فيه. 

طبعا حضرت سهرة تلفزيونية عنه آنذاك سميتها «شاعر في قلب عصره» وشاركت بها في مهرجان في القاهرة، وكنت آنذاك مذيعة في تلفزيون البحرين، قبل سنة من انتقالي إلى دبي وفزت يومها بجائزة النخلة الذهبية، وهذه السهرة كانت سببا في انتقالي إلى تلفزيون دبي، لأن مدير القناة كان حاضرا وأعجب بالسهرة.

نزار قباني في نظري وقفة تأملية في الشعر العربي، مثله مثل المتنبي، طبعا حين درست شعره، ناقشت البنية الإيقاعية في شعره، وقفت عند الحقول الدلالية في نصه، بحيث اكتشفت أنه عاشق للحياة وللمشاتل الخضراء واللون الأحمر والفرح..
حتى حين فقد زوجته بلقيس وجدت لديه حزنا متميزا، إن صح التعبير، حزنا فيه حياة، مثل قوله إنه حين تلقى خبر موتها أدرك أنها تحوّلت إلى طيف من أطياف قوس قزح، وهذا وصف فيه بث للحياة نفسها… وحتى حين كتب عنها فعل ذلك بحياة، مثل قوله تمشي وتمشي الطواويس خلفها، يصف حمرتها «الغيرلان» سجائرها الرفيعة «الكينت»… لم أجدها ممزقة، ولم أر أشلاءها. أنا كنت غاضبة، لكنني فهمته في ما بعد، فهو لم يرد أن يقتلها مرة أخرى، بل منحها حياة جديدة.. وجعلها تواصل الحياة كما كانت. 

تحضرني أيضا حادثة عن الشاعرة البحرينية فاطمة التيتون، حين أُجري معها حوار وعُنْوِن بمانشيت عريض « طلّقت نزار قباني بالثلاث» أنا صدمت وقلت من هذه التي طلقت نزار بالثلاث؟ طبعا أيامها كنت مراهقة وما كنت لأتقبل أي وجهة نظر مضادة لشعر نزار. حين مارست مهنة التعليم، كنت دوما أنصح تلميذاتي أن يقرأن نزار، لأنه فعلا بوابة لعشق الشعر، وأستشهد دوما بشعره، لأنه محبب للقلوب، وسهل وجميل…تماما مثل إحسان عبد القدوس الذي أعتبره بوابة لحب الرواية.

الملخص بعد هذا الحديث الحميمي اليوم معكم عن حكاية غرامي بنزار قباني، أنني لم أندم لحظة واحدة لأني أحببته… وما زلت أراهن أنه بوّابة لعشق الشعر، وبوابة لعشق اللغة العربية في زمننا هذا الذي تراجع فيه الشعر باللغة العربية ليفسح المجال للتكنولوجيا واللغة الإنكليزية لتسرق قلوب وعقول أجيالنا الجديدة. لكنني حتما حين درسته جيدا تخلّصت من الحاجز الذي حجب عني شعراء آخرين أبدعوا مثل أدونيس وأنسي الحاج وقاسم حداد والسياب وغيرهم…
وللحديث بقية إن شاء الله…
________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *