جــســر الـحُـــريـَّـــة


*موسى إبراهيم أبو رياش

( ثقافات )

صدر القاضي يغلي كمرجل، وقد اشتد غضبه وحنقه على المتهم الماثل أمامه. ولكنه حافظ على هدوءه، وتمالك نفسه بصعوبة. وأخيراً نطق بالحكم: حكمت عليك المحكمة بقراءة مائة كتاب من مكتبة السجن، تختارها لجنة من مثقفي المدينة، وتقوم باختبارك فيها، فإن أثبت جدارتك، أُطلق سراحك. وستُمنح لك فرصة واحدة كل ستة شهور.
قبل انقضاء الستة الشهور الأولى، تقدم السجين بطلب مناقشة، وسط ذهول إدارة السجن وعدم تصديقها. فإما أن يكون مجنوناً أو يُريد أن يتلاعب أو يسخر، ولكنها وافقت مضطرة؛ تنفيذاً لمقتضى الحكم.
التأمت لجنة مثقفي المدينة لمناقشة السجين، في مكتبة السجن، بحضور هيئة المحكمة، وعدد من السجناء. حيث جرت أحداث أغرب استجواب ثقافي، تحول إلى حوارية راقية، أبحرت في بطون الكتب، ومناقشة أفكارها ومحتواها، وملاحظات السجين عليها، التي تميزت بالعمق والدقة والموضوعية، مما أبهر أعضاء اللجنة والحضور، وأبدوا إعجابهم بإنجاز السجين وتمكنه مما قرأ، واستغرابهم الشديد لقدراته واستطاعته الإلمام بكل ذلك في فترة وجيزة، يعجز عنها المثقف المتفرغ في سنوات. ووقفوا له احتراماً في نهاية الجلسة، والتهبت أكفهم من التصفيق ثناءً عليه وتقديراً لجهوده.
بعد أن عاد الهدوء إلى القاعة، تكلم رئيس لجنة مثقفي المدينة قائلاً: أرجو أن يتكرم علينا الزميل السجين بتفسير، فما أبداه اليوم من ثقافة وسعة اطلاع وإلمام مدهش، يصعب تصديقه، وأكاد أجزم أن ما حدث يُعدُّ معجزة ثقافية!.
وقف السجين، أدار بصره بين الحضور، ثم قال: لستُ أقل منكم دهشة وتعجباً، فقد كنت أنفر من الكتب والحروف، أشعر بعداء تجاهها، أعتبرها عبئاً ثقيلاً، وأشفق على كل من يضيع وقته في القراءة، والحياة مليئة بالمباهج والمسرات وسبل المتعة واللذة.
حكم المحكمة كان قاسياً جداً، وفقدت معه كل أمل بالخروج من السجن. فقراءة ورقة واحدة كانت أشبه بالمستحيل، فكيف بقراءة مائة كتاب؟!
لما استلمت قائمة الكتب، كاد يُغمى عليّ، فكلها عناوين رأيتها كالطلاسم، لا أعي منها شيئاً. استعرت أول مجموعة، تصفحت الكتب كتاباً كتاباً، فلم أجد لدي أي قدرة على القراءة. وضعتها جانباً، أتفكر في القاضي المجنون الذي أصدر هذا الحكم، فهو لا يختلف عن المؤبد!
مرت أيام، وأنا أفقد الأمل في أن أقرأ شيئاً. شجعني أحد رفاق السجن قائلاً: بينك وبين الحرية قراءة مائة كتاب، وليتهم حكموا عليَّ بألف كتاب لطرت فرحاً. فمائة كتاب سرعان ما تنتهي!.
استفزني كلامه، وبثَّ في نفسي الأمل. عُدت إلى الكتب أتصفحها، حتى عثرت على حكاية أثارتني في أحد الكتب، فقرأتها، وقادتني إلى مجموعة أخرى من الحكايات، حتى أكملت الكتاب وأنا لا أصدق، فقد أكملت قراءة الكتاب الأول في حياتي، وعمري يقترب من الثلاثين سنة! 
اخترت كتاباً آخر أقل متعة من سابقه، ولكني عزمت أن أكمله مهما كانت الظروف، حتى أنهيته بشق الأنفس، وهكذا أخذت أقرأ بإصرار وعزيمة لا تلين، حتى لانت لي الكتب، وتشربتها روحي، ونقشتها في دماغي الفارغ المتعطش للمعرفة، فلا أقرأ كتاباً إلا وكأني أحفظه، وإذا استغلق علي أمر، أعدت القراءة حتى أفهم، وكثيراً ما كنت أتحاور مع رفيق السجن الذي شجعني فيم أقرأ. وهكذا كنت أقرأ الكتاب في يوم أو أقل أو أكثر قليلاً. 
ووجدت أن كل كتاب عالم قائم بذاته، له نكهته وطعمه ومذاقه الخاص، وشعرت بغصة أني حُرمت هذه المتعة كل هذا العمر الذي ضاع دون فائدة. فقد شعرت أني ولدت من جديد يوم بدأت أقرأ بلذة وشغف.
التهبت الأكف بالتصفيق من جديد بقوة، والحضور وقوف، ولم يهدأ إلا بعد أن طلب القاضي من الجميع الجلوس، والكف عن التصفيق، وبقي واقفاً، ولما هدأت الأصوات، خاطبهم قائلاً: ما سمعته اليوم، عمل لا يُصدق، وإنجاز عظيم، ومقدرة عجيبة، وجهود لا تُبارى. ولذا وتنفيذاً للحكم، فقد أوفى المواطن بما عليه من شروط، فاستحق إطلاق سراحه بجدارة، وليس منَّة أو تعطفاً من أحد. أما رفيقك الذي شجعك واستحثك على القراءة، فأعد أن يُعاد النظر في أمره، لعلنا نجد له مخرجاً أو تخفيفاً.
عاد التصفيق مرة أخرى، ولكن السجين وقف ساهماً يجيل بصره في أرجاء المكتبة، ورفوفها المكتظة بالكتب، تعتريه مشاعر الحزن والفقد، خاطبهم قائلاً: لن أترك هذا المكان الجميل… لن أخرج قبل أن أنهي قراءة كل هذه الكتب!.
حلَّ صمت رهيب في قاعة المكتبة، ثم بدأت همهمات التعجب والاستغراب. وقف رئيس لجنة مثقفي المدينة قائلاً: لا بدَّ أن تخرج لتمارس حياتك مثقفاً متوجاً في المدينة، وتساهم في إثراء الحياة الثقافية فيها، ونشر الوعي، فمثلك كنز لا يمكن التفريط فيه. أما الكتب فكل مكتبات المدينة تحت تصرفك، وشبكة الإنترنت فيها من الكتب ما لا يخطرُ لك على بال، ومكتبة السجن تفتح لك ذراعيها في أي وقت زائراً لا سجيناً.
هدر التصفيق من جديد، وسار خارجاً وسط الحضور، تعلوه ابتسامة أمل وسعادة.
mosa2x@yahoo.com

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *