حاتم الصكر يناقش البوح والترميز القهري


* أيمن رفعت

مؤلف كتاب “البوح والترميز القهري” هو الكاتب العراقي حاتم الصكر، الذي أثرى المكتبة العربية بالعديد من الإصدارات النقدية، منها: “قصائد في الذاكرة: قراءات استعارية”، “أقوال النور: قراءات بصرية في التشكيل المعاصر”، وغيرها من المؤلفات.

وفي مقدمة الكتاب، يقول: إن السيرة الذاتية لا تزال من أكثر الأجناس الأدبية بلبلة ومرونة، وأصبح من المعاد المكرر قولنا بأنها جانب غير مستقر، وغير متعين بشكل نهائي، حتى لتوصف أحياناً بأنها جنس مراوغ، وبأن مصطلحها نفسه يكتنفه الغموض واللبس، وذلك مُتأت من جهتين: قربها من أجناس وأنواع محايثة كاليوميات والمذكرات والرسائل وقصائد السيرة، والشهادات والحوارات الشخصية، وافتراضها بعض آيات عمل تلك الأنواع أو نظمها الداخلية، وأشكالها التي تأثرت هي أيضاً بالسيرة الذاتية، والإكراهات والقيود التي تتحكم في كتابتها، وتجعلها تشرب مضامينها وأشكالهاإلى تلك الأنواع، تحاشياً لعائدية السيرة الذاتية إلى شخص كاتبها الواقعي، وما ينتج عن ذلك من أحكام وتقييم سالب للكاتب، فيفر إلى ما يعرف مثلاً برواية السيرة الذاتية.

ويذكر الكاتب: أن السيرة الذاتية النسائية تسير في طريق شائك ملغوم، أهون ما فيه أن المرأة تغدو ذاتاً أنثوية، وقد تحولت إلى موضوع، فهي المؤلفة بقانون العائدية والعقد السير ذاتي، وهي موضوع السرد السير ذاتي نفسه، وهذا مظهر ثان لتبدلات موقع الكاتبة: حيث كان الموضع الأول للتبدل عبور ذاتها من خصوصيتها إلى دلالة جمعية على المستوى الثقافي، فضلاً عن تبدل داخلي ثالث هو تعبيرها عن جنس المرأة عامة، عبر اشتراكها معهن في أغلب جوانب المعاناة والتعرض لكوابح، وإن جرى ذلك بدرجات متفاوتة أحياناً.

ويتناول الكاتب نماذج من الكتابة السير ذاتية النسوية، فتحت عنوان “نازك الملائكة: اللمحات المهربة من سيرة لا مدونة” يقول الكاتب: تحت عنوان مراوغ تتخفى نازك الملائكة، وتهرب من السيرة إلى ما تسميه “لمحات من سيرة حياتي وثقافتي”، يبدو أنها كتبتها استجابة لطلبات بعض الباحثين، ومن قراءة اللمحات السريعة نعلم أن الشاعرة توقفت عند مطلع السبعينيات، وهو عام مطولتها الشعرية “مأساة الحياة وأغنية للإنسان”.

وبعد التعرض للعديد من النماذج الذاتية، يرى الكاتب، وجود مفردات مشتركة في السير والشهادات والرسائل تتركز حول البيت (المنزل) كمكان والطفولة كزمان، وهما يشكلان أساس الوعي بالذات، والانتباه إلى القمع والمنع والحجز أو الفصل الجنسي غالباً، كما شكلت الأسرة (الأم، الأب، الزوج، الأخ…) رمزاً تظهر من خلالها تلك الأساليب القهرية التي لا يتوقف ضررها عند فرض خطاب الرجل (الذكر) فحسب، بل في تسلل المفردات هذا الخطاب إلى اللغة ذاتها، ولغة المرأة الكاتبة في أحيان كثيرة.

لقد كان على النساء (كاتبات وقارئات) أن يسجن ضد التيار دائماً منذ مقولة أرسطو عن الأنثى، التي هي عنده أنثى بما تفتقر إليه من خصائص، وليس بما لديها من مزايا، ومقولة توما الأكويني: أن المرأة رجل ناقص، وتصنيفه للشكل كمذكر وللمادة كمؤنث، ينطبع عليها شكل العقل المقدس المذكر.


• من المماثلة إلى المطابقة – السيرة والرواية

كثيراً ما أغرى النقاد والباحثين ضعف الحدود بين الأنواع والأجناس الأدبية أو زوالها تماماً تحت مسميات حداثية (كالنص) و(النص المفتوح) و(العمل) و(الكتابة)، فذهبوا إلى تفريعات إجناسية وتنوعات ساهمت في زيادة البلبلة على مستوى التلقي، ومن أبرز الأمثلة التي نحن بصددها في بحثنا الخلط بين السيرة الذاتية والرواية المكتوبة بضمير المتكلم، حيث يتوهم الدارسون وجود نوع روائي أسموه (رواية السيرة الذاتية) احتكاماً إلى موقع الراوي وضمير السرد.

في هذا الصدد يفرق فيليب لوجون بين خاصتين فنيتين مهمتين هما: (التطابق) المتحقق في ميثاق أو عقد السيرة الذاتية و(التشابه) أو التماثل المتفاوت الدرجة في الرواية، وإذا كانت (المطابقة) تجعل التساوي ممكناً بين المؤلف والسارد والكائن السيري، فإن (المشابهة) في العمل الروائي تمنع الإحالة إلى سارد سيري أو كائن يروي قصة حياته لسببين مهمين: الفضاء التخييلي في العمل الروائي الذي يباعد المطابقة المفترضة في السيرة الذاتية، ويضع على مستوى التلقي عالماً متخيلاً تبتعد عنه (الذات) الساردة عن ماضيها الذي يرغب المتلقي في معرفته، والسبب الثاني هو المثال أو النموذج الذي تحيل إليه الرواية، والذي يأخذ شكلاً تعميمياً يباعد بين خصوصية (الذات) والشخصية الروائية الساردة.

وتواصلاً مع تفحصنا للنماذج السردية المترددة بين السيرة الذاتية والسرد الروائي الخالص سنقف عند العمل الأخير للكاتب عبدالستار ناصر “على فراش الموز” المقدم للقارئ بكونه “رواية” كما نص غلاف الكاتب، وكذلك قول الكاتب في الكلمة الأولى من مقدمته “هذه الرواية خرجت من مذكراتي التي لم أكتبها بعد”، ولكي لا يتنبه القارئ لمفارقة أو استحالة خروج النص من عدم أو متن لم يدون بعد، يستدرك عبدالستار بالقول: إن تلك المذكرات غير المدونة “كانت تحيا في ذاكرتي، وعاشت معي في كل مكان مضيت إليه”، فهل يكف هذا الاعتراف والاستدراك لإقناعنا أن العمل لن يقع ضحية الهوية الإجناسية: سيرة/ رواية/ سيرة روائية/ رواية سيرة؟

وينقلنا الكاتب إلى العمل الأخير للكاتب محمود عيسى موسى “بيضة العقرب”، قائلاً: فهو يزاوج الرواية والسيرة، ولكن بعامل الإضافة متخلصاً من الإحراج الإجناسي، أي: هل نقرأ عمله كرواية أمام سيرة ذاتية؟ تخيل سردي مختلف أم شهادة على أحداث شخصية يريد روايتها؟ فيصف عمله بأنه رواية لسيرة موصوفة بأنها (سرطانية)، إشارة إلى تحديد أحداث هذه السيرة المروية بمرض السرطان، الذي أصاب الكاتب وعانى منه لسنوات انتهت بالشفاء كما يحدثنا في سيرته.

ثمة حقيقتان أساسيتان تستدعيهما قراءة “بيضة العقرب”: الأولى: (شكلية) تتعلق بنص السيرة الذاتية، وقيامه على حقيقة وقعت للكاتب الذي يحضر كراوٍ وسارد مشارك دائماً، باعتبار أن الأحداث تعود إليه كشخص وليس كشخصية روائية فنقرأ اسمه الثلاثي وأسماء أصدقائه، أما الحقيقة الثانية فهي حول المرض كواقعة جسدية حياتية، وإحكام تحويله إلى عمل فني أو أدبي، دون أن يفقد العمل مواصفاته واشتراطاته الفنية.

لقد كان المرض موضوعاً خارجياً يوصف ويعرف، وخاصة من طرف الشعراء الذين يكثفون أو يقطرون تجاربهم تلك في قصائد حزينة لا يسمح منظورها باكتشاف مفردات خاصة بهم إلا نادراً، وهكذا تحولت ساعات الألم وأيامه وسنواته إلى سرد ذكي مفصل ودقيق في “بيضة العقرب”، جعلت القارئ يعايش الكاتب ويقاسمه آلامه بل يقتسمها متساوية معه، وهو يحس مقاومته وضعفه، سقمه وصحته، يأسه وأمله، وأخيراً انتصاره على السرطان، والأهم من ذلك كله كيفية احتواء تجربة المرض وتدوين آلامها وعنائها، لتصبح وثيقة على قدرة الإنسان وقوته وإصراره ومقاومته.

يذكر أن كتاب “البوح والترميز القهري” للكاتب حاتم الصكر. صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة، ويقع في نحو 191 صفحة من القطع الكبير. ____________

ميديل ايست اونلاين

شاهد أيضاً

سيرة توازي بين القراءة والكتابة بدون تفاصيل الحياة

(ثقافات) سيرة توازي بين القراءة والكتابة بدون تفاصيل الحياة عبد الجبار الرفاعي يكتب عن العلاقة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *