* د. حسن عجمي
الحقيقة والمعرفة زوجان لا طلاق بينهما؛ فنظريتنا في فهم الحقيقة تحدِّد نظريتنا في المعرفة. لكن هل الحقائق مُحدَّدة أم لا؟ وهل هي معتمدة على عقولنا أم لا؟
تنقسم فلسفة الحقيقة إلى مذهبيْن أساسيين هما المذهب الواقعي والمذهب اللاواقعي ليس بالمعنى السلبي. بالنسبة إلى المذهب الواقعي، الحقيقة مُحلَّلة من خلال الواقع. فمثلا، يقول المذهب الواقعي إن أي عبارة صادقة، أي تعبِّر عن حقيقة، إذا وفقط إذا هي تطابق الواقع. لكن المشكلة الأساسية للمذهب الواقعي هي أنه يقع في الدور، أي أنه يُحلّل المفهوم من خلال المفهوم نفسه كتحليل الماء بالماء. فهو حلَّل الحقيقة من خلال التطابق مع الواقع. لكن الذي يتطابق مع الواقع هو الحقيقي والصادق. وبذلك التطابق مع الواقع مُحلَّل من خلال مفهوم الحقيقة. ولذا إذا حللنا الحقيقة من خلال التطابق مع الواقع نكون قد حللنا الحقيقة من خلال الحقيقة فنقع في الدور المرفوض منطقياً. هكذا يفشل المذهب الواقعي في تحليل ما هو صادق أي في تحليل الحقيقة. أما المذهب اللاواقعي فيعرِّف ما هو صادق، أي ما هو حقيقي، من خلال ما يوجد داخل الإنسان بدلاً من الواقع خارج الإنسان. فمثلا، بالنسبة إلى المذهب اللاواقعي، أي عبارة هي صادقة، أي حقيقية، إذا، وفقط إذا، هي منسجمة مع الأفكار والمعتقدات التي يملكها الإنسان. لكن المشكلة الأساسية التي يواجهها المذهب اللاواقعي هي التالية: لدى الناس معتقدات متناقضة مع معتقدات الآخرين، وبذلك إذا كانت الحقيقة هي ما تنسجم مع معتقدات الأفراد، إذن الحقيقة تناقض ذاتها وبذلك لا وجود لها (1).
الحقيقة غير مُحدَّدة
بما أن كلا من المذهب الواقعي والمذهب اللاواقعي يفشل في تحليل الحقيقة وعلماً بأنهما المذهبان الوحيدان المتاحان لنا كي نحلِّل مفهوم الحقيقة، إذاً من غير المُحدَّد ما هو التحليل الصادق للحقيقة. بكلام آخر، على ضوء فشل النظريات السابقة نستطيع بحق أن نستنتج أن الحقيقة غير مُحدَّدة ما هي تماماً كما تقول السوبر حداثة. تفسِّر السوبر حداثة لماذا لا ننجح في تعريف الحقيقة، وبذلك تكتسب قدرة تفسيرية ما يدعم مقبوليتها. فبما أن الحقيقة غير مُحدَّدة، إذن من الطبيعي أن لا نتمكن من تعريف الحقيقة، ولذا تفشل النظريات الفلسفية السابقة في تحليل الحقيقة. هكذا لامحددية الحقيقة تنجح في تفسير لماذا لا نتمكن من تعريف الحقيقة ولماذا النظريات المتاحة لنا في تحليل الحقيقة تعاني من مشاكل فكرية لا خلاص منها. كما أن لامحددية الحقيقة تفسِّر لماذا من الممكن بحق وصف وتفسير الحقيقة ذاتها من خلال أوصاف وتفاسير مختلفة. فبما أنه من غير المُحدَّد ما هي الحقيقة، إذن من غير المستغرب أن توجد تفاسير وأوصاف عديدة ومتنوعة للحقيقة نفسها. مثل ذلك أنه من الممكن بحق وصف الشجرة على أنها تتكوّن من ذرات مادية وطاقات معينة قد تتحوّل إلى مادة كما من الممكن بحق وصف الشجرة عينها على أنها مجرد معلومات وعمليات تبادل للمعلومات بدلا من أن تكون كينونة مادية. وكل وصف من هذيْن الوصفين ناجح في التعبير عن الشجرة لأنه من غير المُحدَّد ما هي الشجرة.
الكون مجموعة معلومات!
من هذا المنطلق، النظرية العلمية التي تصف الكون على أنه مادي ويتشكّل من ذرات وجُسيمات كالإلكترونات وطاقاتها، نظرية ناجحة في وصف الكون، تماماً كما أن النظرية المنافسة لها، ألا وهي التي تقول إن الكون مجموعة معلومات بدلا من أن يكون مادياً هي أيضاً نظرية ناجحة في وصف عالمنا. هذا لأنه من غير المُحدَّد ما هي حقيقة الكون. هكذا تنجح السوبر حداثة القائلة بلامحددية الحقائق في تفسير نجاح النظريات العلمية المتنافسة فتكتسب صدقها. فلو كان الكون مُحدَّداً ما هو لنجحت نظرية علمية واحدة. لكننا نجد أن النظريات العلمية المختلفة ناجحة في وصف الكون وتفسيره كنجاح النظريتين السابقتين. لذلك الكون بحقائقه غير مُحدَّد ما هو. على ضوء هذا الموقف الفلسفي من الممكن حل الصراع والخلاف بين النظريات العلمية المتنافسة. فكل النظريات العلمية صادقة ومقبولة لأنها ناجحة في وصف العالم. وكل النظريات العلمية ناجحة في وصف العالم رغم اختلافها وتعارضها لأن حقائق الكون في حد ذاتها غير مُحدَّدة ما هي. بذلك يختفي الصراع بين النظريات العلمية المختلفة لكونها كلها أمست صادقة ومقبولة. هكذا لامحددية الحقائق تحل الخلاف بين النماذج العلمية المتصارعة فتكتسب فضيلة معرفية كبرى.
حقل وجودي لا يتجزأ
كما أن السوبر حداثة القائلة بلامحددية الحقيقة تقدِّم حلا ممكناً لصراعات معارفنا وتضمن استمرارية البحث المعرفي. الآن، بما أن الحقيقة غير مُحدَّدة ما هي، إذاً معرفة الحقائق غير مُحدَّدة أيضاً. هكذا نظريتنا في فهم الحقيقة تحدِّد نظريتنا في المعرفة. بذلك تشكّل الحقيقة والمعرفة حقلا وجودياً واحداً لا يتجزأ. وبما أن المعرفة غير مُحدَّدة من جراء لامحددية الحقائق لذا لدينا معارف مختلفة تشكّل معارف حقة رغم اختلافها وتعارضها كمعرفتنا بأن الشجرة مادية وأنها معلوماتية في آن. هكذا تفسِّر لامحددية الحقيقة لماذا تتنوع معارفنا وتتعارض رغم كونها معارف حقيقية. من هنا، لامحددية الحقيقة تجعل المعارف المتنافسة صادقة ومقبولة فتحل الصراع في ما بينها. فكل معارفنا هي معارف حقة رغم اختلافها وتعارضها لأن المعرفة في حد ذاتها غير مُحدَّدة وبذلك المعرفة غير مُحدَّدة في نوع معرفي من دون نوع معرفي آخر.
من جهة أخرى، بما أن الحقيقة غير مُحدَّدة، إذاً لا بد من البحث الدائم عنها. وبذلك لامحددية الحقيقة تضمن استمرارية البحث العلمي والفلسفي. وهذه فضيلة إضافية لنموذج لامحددية الحقيقة. الحقائق المُحدَّدة سجون لنا لأنها تمنعنا من التفكير في الحقائق الممكنة والمحتملة. والمعرفة المُحدَّدة تسجننا في ما تحدِّد من معارف. لذا لامحددية المعرفة المعتمدة على لامحددية الحقيقة تحررنا من أية معارف ماضوية. هكذا لامحددية الحقيقة والمعرفة ضمانة حرية الإنسان.
الحقائق والعقل البشري
من القضايا الأساسية في الفلسفة قضية ارتباط الحقائق بالعقل البشري. وتنقسم النظريات الفلسفية الى مذهبيْن أساسيين حول هذه القضية وهُما: المذهب الواقعي والمذهب اللاواقعي. بالنسبة إلى المذهب الواقعي، الحقائق موجودة بشكل مستقل عن العقل بينما بالنسبة إلى المذهب اللاواقعي الحقائق معتمدة في وجودها وتشكّلها على العقل. يعتبر المذهب الواقعي أن العقل البشري لا يشارك في تشكيل الحقائق بل توجد حقائق الكون وتتشكّل باستقلال عن أي عقل بشري. وإن لم يكن ذلك صحيحاً لأمست الحقائق نسبية ومختلفة من عقل إلى آخر ما يؤدي إلى استحالة معرفة الحقائق المطابقة للواقع. لكن المذهب اللاواقعي يصر على أن الحقائق لا توجد ولا تتكوّن من دون العقل البشري بل هي بناءات عقلية. وإن لم يكن ذلك صحيحاً لاستحال الربط بين الحقائق والعقل ما يؤدي إلى استحالة المعرفة (2). هكذا تحقق المعرفة قد يدفعنا إلى قبول المذهب الواقعي أواللاواقعي ما يشير إلى صدقية المذهبين وما يلزمنا بمحاولة التوحيد بين المذهبين الواقعي واللاواقعي. ومن الممكن ذلك من خلال السوبر حداثة.
بالنسبة إلى السوبر حداثة، من غير المُحدَّد ما هي الحقيقة. وبما أن أية حقيقة غير مُحدَّدة، إذاً من الطبيعي أن تتجلى كل حقيقة في حقائق عدة ومختلفة فتملك كل حقيقة مستويات وجودية وواقعية متنوعة. وبما أن أية حقيقة تتكوّن من حقائق أو مستويات وجودية متعددة ومختلفة بسبب لامحدةديتها، إذاً من المتوقع أن يصدق المذهب الواقعي والمذهب اللاواقعي معاً في وصف ارتباط الحقائق بالعقل البشري. فعلى مستوى وجودي ووصفي معين الحقيقة ذاتها معتمدة على العقل. لكن على مستوى وجودي ووصفي آخر الحقيقة نفسها ليست معتمدة على العقل. على مستوى الوجود الظاهري الحقائق معتمدة في وجودها وتشكلها على العقل البشري وغير مستقلة عنه. لكن على مستوى الوجود الباطني الحقائق ذاتها غير معتمدة على العقل في وجودها بل توجد بشكل مستقل عن العقل. أما على المستوى السوبر باطني فهي معتمدة في تكوّنها على العقل. فمثلا، الشجرة على المستوى الوجودي الظاهري معتمدة في وجودها على عقلنا البشري. مثال ذلك أن ألوانها ليست سوى انعكاسات الضوء عليها وانعكاس الضوء منها على أبصارنا؛ فألوانها غير موجودة فعلياً وعلمياً بل الألوان مجرد انعكاس للضوء وارتباط هذا الانعكاس بأبصارنا. وبذلك أن تكون الشجرة خضراء فهذا يعتمد على العقل البشري وإن جزئياً. أما على المستوى الباطني فالشجرة ذاتها موجودة بشكل مستقل عن عقولنا لأنها تتكوّن مما لا نرى، أي تتكوّن من ذرات وعلاقات بين تلك الذرات. والذرات موجودة بشكل مستقل عن عقولنا فإن لم توجد عقولنا ستبقى الذرات موجودة. لكن على المستوى السوبر باطني الشجرة ذاتها تتكوّن من جُسيمات كالإلكترونات التي يعتبرها العلم المعاصر غير مُحدَّدة ما إذا كانت فعلاً جُسيمات مادية أم موجات، وفقط وعينا يُحدِّد ما إذا ستتجلى تلك الجُسيمات على أنها حقاً جُسيمات أم موجات. وبذلك على المستوى السوبر باطني الشجرة نفسها معتمدة في وجودها وتكوّنها على العقل البشري.
هكذا يصدق كل من المذهبيْن الواقعي واللاواقعي ولكنهما يصدقان معاً من خلال اعتبار أن كل حقيقة تتشكّل من حقائق أومستويات وجودية ووصفية متنوعة ومتعارضة من جراء لامحددية أية حقيقة تماماً كما تؤكد السوبر حداثة. من هنا، السوبر حداثة تنجح في حل الخلاف بين المذهب الواقعي والمذهب اللاواقعي وتتخطاهما من خلال اعتبار أن الحقائق بالفعل غير مُحدَّدة ما هي ولذا ينجح وصف الحقيقة نفسها بأوصاف علمية وفلسفية مختلفة. هكذا السوبر حداثة تحرر الحقيقة من ذاتها حين لا تسجن الحقائق في ماهيات مُحدَّدة سلفاً.
___________
الأنوار
1-Richard Kirkham : Theories of Truth. 1995. A Bradford Book
2-Wolfgang Kunne: Conceptions of Truth. 2005. Oxford University Press