*آمال الديب
خاص- ( ثقافات )
هذا الكتاب مجموعة من المقالات التي كتبها الشاعر سيف الرحبي، كما يذكر بمقدمتها في ثمانينيات القرن العشرين في سياق كتابات مختلفة، وما كان لها أن تجتمع في كتاب بعد طول شتات لمعظمها في أكثر من كتاب ومطبوعة وبلد لولا اقتراح صديق أرشف الكثير مما كانت القاهرة محوره ومساحته وحنينه الجريح.
المحور الأساسي في هذه المقالات هو “القاهرة”: “فقد عشتُ في القاهرة سنوات التكوين المعرفي والعاطفي والوجداني الأولى، وكانت هي البوابة بالنسبة لي نحو العالم بما يعنيه من سياسة وحداثة أدبية وفكرية. وهي البداية الحقيقية للتعرُّف على الذات جسدًا ومشاعر، وكذلك على (الآخر) أو العالم ليس ذلك العربي البعيد كما درجت الدلالة، إنما العربي أيضًا الذي ننتمي إلى لغته وإرثه وثقافته، فقد كانت (عُمان) قبل سبعينيات القرن المنصرم، على نحو من عزلة قسرية وانغلاق حرمها لفترة طويلة من هذه المعرفة والتفاعل الطبيعيين.”
عاش الرحبي بعد مرحلة القاهرة مرحلة تنقُّلات بين البلاد ولكنه لم ينس حنينه للقاهرة.. “نص الإقامة القاهرية ظل متماسكًا ومضيئًا في الذاكرة. وظل يمارس طغيانه العاطفي “الماضوي” رغم تغير الأحوال و(فساد الزمان). ومن ذلك الركام والحنين والتشظِّي، وُلدت هذه الكتابات أو ما تبقى منها”.
في المقالة الأولى “بداية القصة” بلغة أدبية يسرد سيف الرحبي بداية رحلة علاقته بالقاهرة التي كان يتشوق لرؤيتها والعيش فيها: “هذه القاهرة سأقضي فيها ثمانية أعوام، يمكن القول إنها من أجمل سنين العمر وأكثرها حضورًا وحنينًا وتأثيرًا، قبل الأفول الماحق لسنين أخذت تهرب بسرعة البرق من بين أيدينا ونحن نرقب المشهد في ذهول منكسر، نرى الشرر والشظايا تتطاير في الفضاء ونعرف أنها أرواحنا”.
ينتقل الرحبي بعد ذلك إلى “عام جنازة الزعيم أو البدايات”، حيث ينعطف إلى الحديث عن الثورة والمشاريع والأحلام. الزمن الذي تغلي كل عناصره وحيواته في مرجل الثورة، في المنطقة العربية بأكملها، حيث تلك الدول المضطهدة التي تحلم جميعًا بالعدالة والحرية. ذلك الزمن الذي احتلت فيه صور الزعماء والرموز الثورية ساحة النجومية أكثر من نجوم السينما والمسرح.
ويركز على تلك اللقطة التي لا تغيب عن ذاكرة مصري عاصر تلك الظروف، وهي جنازة الرئيس جمال عبد الناصر الذي لم يفارق اسمه وصف الزعيم، حيث يرى أن “العام الذي رحل فيه الزعيم عن عالمنا ليبقى ظل أسطورة يحتل الأفئدة من مكانه الآخر ويمارس سطوته. كانت القاهرة التي قدمتُ إليها ما زالت مفعَمة بحضور غيابه الكبير وصورته”.
وكأن نعش عبد الناصر يتحول إلى رمز للوطنية يتجمع الناس حوله. وهذه الفترة بالنسبة للرحبي لها أهميتها الشديدة من منطلق التطور الطبيعي للواقع العربي عمومًا ولا سيما المصري ومن ثم القاهري.
“كان مطلع السبعينيات، ومنذ جنازة الزعيم يموج بالتنظيمات والرؤى ذات المنحى الماركسي اللينيني في الحركات الطلابية العربية، ولا نغفل طبعًا، التروتسكيين والماويين، وهو النهج الذي تبنته اليمن الجنوبية وامتداداتها السياسية آنذاك قبل أن تنتقل إلى ثكنات اليسار الكبرى في الاتحاد السوفييتي.”
وبعد موضوع عام جدًّا يأتي موضوع شديد الخصوصية، وهو ذكرياته مع “سوزان” ومنطقة المهندسين التي كان يقطنها في 2002، والتي قلَّبت عليه ذكرياته “كنت أكتب على سرير غرفة النوم قليل الإضاءة بحيث لا يسعني أن أرى الحروف تبكي على الورقة. على الفور تذكرت أن الكثير من معارك التاريخ الفاصلة دارت في ظلام دامس وكذلك المؤامرات والمكائد. الكتابة نوع من مكيدة للزمن. وتذكرت أبا العلاء المعري وبشار بن برد وطه حسين وبورخيس.
كان عليَّ أن أفتح نور القراءة كي لا أنجر إلى توسل اسم شهير أو حدث ملحمي كبير”.
وفي “يوميات قاهرية” نحن أقرب إلى السرد القصصي اليومي حيث حالة الحمَّى التي أصابته في أجواء عاصفة كان خلالها يسكن بمنطقة الدقي. ويتبدَّى أن القاهرة التي يقصدها الرحبي هي مصر، لا فقط مدينة القاهرة.
“أفتح عيني، أجدها مستيقظة، تشرب قهوتها الصباحية، أسفل السرير، لا تكلمني، فيما ينبغي أن تفعل هذا النهار، وأي المشاوير والأماكن ترتاد، بل تواصل سرد أحلامها المذعورة، التي تعبر عن خوفها المتراكم عبر السنين، منسكبًا من سُحب اللاوعي الدامسة لتجد في الأخير نوعًا من راحة نفسية بعد التعبير والإفصاح.”
ويأخذ هذا العنوان سمت اليوميات فعلاً معنونًا فقرات منه بأيام الأسبوع.
وفي “الطريق إلى الربع الخالي.. أو إلى سكة القطارات في بولاق” تشغله إشكالية “ثنائية الوطن/ المنفى” حيث استُهلك معناها المتداول وصارت تعبر عن التيه وانقلاب المعايير، مما جعلها لا تعني شيئًا سوى لدى الدارس النفسي والاجتماعي، وحيث أصبح الوطن هو ما يُدعى بالمنفى وكذلك العكس. “هل ما زالت الأمكنة الأولى، أمكنة الطفولة دوافع جذب وحنين؟ هل ما زال ذلك النبع الذي تنهل منه مخيلة الكتابة، بؤرة الأماكن في تشظيها وتعددها، مرجع الذاكرة في رحلتها الشاقة بين المدن الغريبة والناس الغرباء؟ أم كفَّت عن أن تكون كذلك وأحكم التيه والانخلاع قبضته الأزلية؟”
وبعد استفاضة في اجترار ذكريات المكان تأتي ذكريات الأشخاص، حيث يأتي مقال بعنوان “حلمي سالم، في نزهة سريعة”، يحكي على عجل علاقته التي بدأت بحلمي سالم والرحبي في المرحلة الثانوية وسالم في كلية الإعلام (أو الآداب) قسم صحافة، على ما يذكر “في ذلك المناخ الحالم، كانت الإرهاصات الأولى لما يمكن تسميته بالانشقاق الثقافي، الأدبي والجمالي لمركب الحداثة الشعرية، السائدة برموزها شبه المستقرة الواضحة في تحديد دور الأدب والمجتمع، الواقع والتاريخ وسائر الأفكار التي كانت في معظمها ربما، أكثر التصاقًا بالخلفية المفاهيمية لما سُمِّي بالواقعية الاشتراكية حيث أفكار الأدب والسياسة تتناسل من رحم واحد وحلم واحد بالتحوُّل والتغيير، في هذا المناخ وُلدت مجلة “إضاءة”، و”أصوات” ومنابر أخرى، وكان حلمي سالم، وفي السياق ذاته وإن تفاوتت الأمزجة والميول، علي قنديل وحسن طلب وعبد المنعم رمضان وأحمد طه ورفعت سلام وجمال القصاص وأمجد ريان والليبي عمر جيهان تشكيليًّا وآخرين..”
وكان أن التقى بعدها الرحبي حلمي سالم في أماكن شتى خارج القاهرة في أجواء لا تخلو معظمها من المصادفة في عواصم أخرى كدمشق وبيروت.
في مجموعة المقالات التالية يرد ذكر كل من “أمل دنقل”، و”علي قنديل” و”غالب هلسا” و”نجلاء فتحي وسارتر”.
ثم يختتم الكتاب بأربع قصائد متتالية: “نجمة البدو الرحل.. أو القاهرة”، “إلى أروى صالح”، “سينما سفنكس”، حديقة الميرلاند” التي يقول فيها:
“أمام الحديقة الكبيرة
التي كانت مركضًا لأفراس الملك
ومخدع صقوره وبغاياه
حديقة الميرلاند
بأعشابها الخريفية
والقمر الذي غاب أخيرًا
مع غياب عشاقها الليليين
كانت أرواحنا، غسق الأشجار
وكنا نرهف السمع لارتجاف العصافير فوق جبل المقطم
الفمان فم واحد يتكسَّر قبلة
في ذلك الزمان
كان لنا منزل
وكنا نحن فيه.”
وأخيرًا فالكتاب، كصحبة ورد تجمع البنفسج والقرنفل والحناء، جمع – على صغر حجمه – المقالات ما بين السياسي والاجتماعي، والسرد ما بين اليومي والقصصي، وكذلك الشعر..
بيانات الكتاب
عنوان الكتاب: القاهرة أو زمن البدايات
المؤلف: سيف الرحبي
مقاس الكتاب: 14× 20، 173 صفحة
جهة النشر: المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة
رقم الإيداع: 17432/2013
الترقيم الدولي: 978/977/448/596/1
تاريخ الصدور: نوفمبر 2013