بير زيت ذاكرة ونيزك وتراث




* بقلم وعدسة: زياد جيوسي

ما أجمل أن يتمازج العلم مع عبق التاريخ والتراث!
في المقر الرسمي لمؤسسة النيزك للتعليم المساند والإبداع العلمي (دار سعادة للعلوم والتكنولوجيا)، والذي يعتبر بيت العلوم الأول في فلسطين، جلنا برفقة مهند الطويل مرشد ومنسق المشاريع بين ساحة المؤسسة وبين قاعاتها، شارحاً لنا عن كل الأجهزة واللوحات والحديقة العلمية خارج المؤسسة، وشاهدنا عدة أقسام لها علاقة بالفيزياء والاتصالات وقاعة الفضاء والعلوم والطاقة، وشاهدنا أجهزة عديدة تفسر وتشرح الكثير من المسائل العلمية مثل الضغط الجوي والجسد البشري وغيرها، وشرح لنا وأرانا كيف توصل هذه الأجهزة المعلومة بأسلوب بسيط وشيق، كما أعلمنا عن النية لإنشاء مرصد فلكي، كما أعلمنا أن هذه الأجهزة متنقلة ومتجددة باستمرار، فهي تجول في أمكنة مختلفة من أجل نشر الفائدة العلمية بخاصة في المناطق النائية والبعيدة، وهذه المؤسسة مؤسسة علمية ومقدسية الأصل وغير ربحية، تخصصت في مجالات التعليم والإرشاد والبحث في مجالات علمية وتكنولوجية ضمن أهداف رسمتها لنفسها، وضمن أساليب مبتكرة وفريدة تؤدي إلى المشاركة مع المتلقي وتجعله ضمن أساليب مشوقة يهتم بالعلوم والتكنولوجيا، وقد افتتحت دار سعادة في بير زيت في العام 2013 بعد عشر سنوات على تأسيسها.

حوش دار سعادة بعض من أحواش بير زيت، والأهم أيضاً أنه حين تم ترميمه وجدت به ثلاث آبار، وإحدى هذه الآبار بئر خاص بالزيت، وهذه الآبار اشتهرت بها البلدة وحملت اسمها نسبة لها، وفي القرن 18 كان هناك ست آبار في بير زيت، وحوش سعادة هو حوش واسع مكون من قاعات متعددة وحديقة فسيحة، ومبني يشكل متميز وجميل، وحين أنهينا الجولة في المؤسسة، شكرت العاملين فيها، وخرجنا من دار سعادة للعلوم (النيزك) ثلاثتنا، أبو جميل المنسق الميداني لجمعية الروزنا، وابتسام سليمان المربية والمعلمة وصاحبة الدعوة، وأنا، وحقيقة كنت في غاية الفرح لما شاهدت في (النيزك) من علوم، ولما شاهدت من جمال الحوش وعبق التراث وخاصة بئر الزيت، فلم أشاهد بئراً غيره خلال برنامج الجولة، لنكمل البرنامج بالجولة على أحواش بير زيت في البلدة القديمة والتراثية، والذي يمتد من بوابة الجمعية عبر طريق الخان حتى الوصول إلى متحف التراث في بير زيت، وطوال الطريق كان أبو جميل يحدثني عن هذه الأحواش وأسمائها، وفي كل حوش منها كنت أشعر بحجارته تروي لي الحكايات، وتهمس لي أجمل الهمسات عن حكايات الجدود والجدات، وعن حكايات التعايش بينهم بغض النظر عن الديانة، فالأحواش ضمت مسلمين ومسيحيين، فالكل يجري في عروقهم دم واحد، والكل يحرص على الجار البعيد فكيف بالجار القريب! وقد حدثني كبار السن في بير زيت عن جماليات تلك الأيام، وعن مدى التعايش والمحبة والتعاون بين أهل البلدة، وهذا سيكون مجالا لحديث لاحق، فحكاية بير زيت حكاية طويلة لها بدايات، ولكن لا نهايات لها.

نظام الأحواش كان نظام بناء منتشر في فلسطين، حيث أن هذا النظام كان منتشراً وموزعاً على أكثر من 400 قرية وبلدة فلسطينية، وخلال تجوالنا كنت أشاهد وأتأمل ما أراه من أحواش بنيت بالكامل من الحجارة، وكل حوش عبارة عن ساحة تحيط بها الأبنية متلاصقة، وكل بيت له مدخل يتميز بالأقواس وعادة تكون هناك نافذة طولية واحدة بجوار الباب، بينما في بلدات أخرى كنت أشاهد بيوتا من الطين أيضاً، وبشكل عام كانت أحواش بير زيت تتكون من طابق واحد والبعض من طابقين، وأحياناً من طابق واحد وفوقه العلية، والصفة المشتركة في تلك المباني التراثية هو الساحة والمصطبة، وفي أسفل البيت الخابية، وأحياناً تكون أكثر من خابية وهي موقع خاص لحفظ الأغذية، وزاوية البيت فوق الخابية وتستخدم للنوم، إضافة إلى الأقواس على الأبواب والنوافذ والقباب، ومعظمها على نظام البرميل والأقواس الضخمة التي تقطعه وتسند الجدران والسقوف، وحسب بعض المصادر فقد كان هناك ما يزيد عن خمسين ألفاً من المباني التاريخية موزعة على هذه القرى والبلدات، بينما بير زيت بها 108 بيوت تراثية ومعظمها يعود للفترة العثمانية، وبكل أسف فهناك بلدات وقرى جرى هدم المباني التراثية فيها بالكامل، ومن القرى التي زرتها وجرى هدم بيوتها التاريخية بلدة الجديرة، وبكل أسف بعد أن وثقت قسماً منها وكتبت عن البلدة، فلم أجد آذاناً صاغية، وجرى هدم ما تبقى منها، وكذلك المباني التاريخية في بلدتي جيوس وبخاصة منطقة الزقاق التاريخية، والتي تعود لفترة احتلال الصليبيين البلدة، وهناك قرى وبلدات زرتها وجرى ترميم بعض المباني فيها مثل بلدة اسكاكا في محافظة سلفيت وبيت ليد في محافظة طولكرم، بينما تميزت بير زيت وكانت محظوظة بترميم نسبة كبيرة من البيوت التراثية بالبلدة القديمة، وهناك بلدات تراثية ما زالت متكاملة تقريبا وتحتاج لاهتمام وترميم مثل البلدة التراثية في عنبتا من محافظة طولكرم.

من بيت إلى بيت ومن حوش إلى حوش كنا نجول في تراث بير زيت وعبق تاريخها، فزرنا الحوش العِتم وسمي بهذا الاسم اشتقاقاً من العتمة، كون نوافذه كانت شمالية والطريق إليه ضيقة، إضافة إلى انخفاض الأرض المبني عليها، فكانت لا تدخله الشمس فسمي بهذا الاسم، وقد جرى ترميمه مع أجزاء ضمت إليه من الخان المملوكي في العام 2011 من خلال مؤسسة رواق، وبدعم من منظمة وولونيا بروكسيل العالمية ومعهد تراث وولونيا.
وكذلك زرنا المسجد القديم والتراثي والمسمى العمري، وهو وحسب اللوحة الحجرية على جداره بني في العام 1346 للهجرة كوقف إسلامي، وواضح من طبيعة حجارته أنه قد تعرض للهدم في الماضي وللتوسعة أيضاً، فحجارته من الخارج تختلف من حيث الحجم والقدم، وفي زاوية منه نجد حجارة كبيرة وقديمة لكن تعلوها حجارة مختلفة في الأعلى من حيث الشكل والحجم، وفي أجزاء أخرى نجد اختلافاً بالحجارة، والمسجد بسيط البناء لكنه متسع، وفي الداخل نجد جدرانه من الحجارة أيضاً، وقد صورته من الداخل وصليت به ركعتين تحية المسجد، فهل أجمل من التعبد والصلاة في مساجد تحمل عبق التراث؟! وهذا المسجد كما الكثير من المساجد في القرى والبلدات يسمى العمري نسبة إلى الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) الذي فتح القدس، لكن ليست كل المساجد المسماة بالعمري مرتبطة بالفاروق عمر كما مسجد عمر في القدس والمسجد العمري في بيت لحم، ولكنها سميت تيمناً باسمه وتقديراً لدوره في نشر الإسلام في فلسطين بعد فتح القدس. كما دخلنا ساحات لعدة أحواش وبيوت في الطريق إلى الخان منها حوش المجج (بيت أم فريد) والعديد من البيوت والأحواش حتى وصلنا إلى الخان وهو يعتبر من أقدم مباني بير زيت؛ فهو يعود للفترة المملوكية التي امتدت من العام 1291 حتى 1516، ومعظم الخان وبخاصة من الجهة الخلفية رمم مع الحوش العتم وصار جزءاً منه، بينما الواجهة التي على شارع الخان فقد جرى ترميم جزئي لها، بينما هناك قاعة بجوار الجدار الممتد على زاوية شارعين ما زالت خرابا.

من الخان واصلنا الطريق إلى المتحف التراثي حيث وجدناه مغلقاً، وفوراً أجرى أبو جميل اتصالاته وقام بإحضار المفتاح، والمتحف عبارة عن مبنى تراثي جرى ترميمه وتحويله إلى متحف يحمل اسم (متحف الشعب)، أمامه ساحة صغيرة ارتحنا بها قليلاً، والمتحف مكون من طبقتين، السفلى وهي بالأصل الخابية، والطبقة التي تعلوها وهي عبارة عن قاعة واحدة مفتوحة، تتوسطها لوحة مجسمة للبلدة القديمة في بير زيت، وتضم القاعة الكثير من الأدوات التراثية التي استخدمها الأجداد من جرار فخارية وأدوات البيادر والزراعة والطبخ والتخزين، والمطرزات والأزياء الشعبية وغيرها من التراث، إضافة إلى عشرات الصور القديمة لأمكنة وأشخاص، وفي الأسفل القليل من المعروضات، وهذا المتحف الجميل بحاجة لأن يكون به موظف يفتحه باستمرار في أوقات محددة للزوار، ففي زيارة ثانية لي مع زوار من السويد وزائرة أمريكية من أصل فلسطيني وصديقة فلسطينية تولت الترجمة لما تحدثت به عن تاريخ وتراث وأمكنة بير زيت، وكانت بالنسبة لهم الزيارة الأولى للبلدة، كان المتحف مغلقا أيضاً ولا وجود ليافطة للاتصال بمن يمكن أن يفتح أبوابه للزوار بعد مسير طويل على الأقدام.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *