وتس أب وستائره المسدلة



*بسمة النسور

لعل (وتس آب) هو التطبيق الأكثر شعبية والمفضل لدى مستخدمين كثيرين لوسائل الاتصال المتنوعة العديدة، شديدة الإغراء، لسهولتها وقلة كلفتها التي تقترب من المجانية في أحيان كثيرة. يعجبني هذا التطبيق خصوصاً، لأنه يتيح لي، شأن كل الناس، تواصلاً يسيراً سلساً خاليا من أي تعقيد، ما يجعله ينسف فكرة البعد من أساسها، فيلغي المسافات بين عموم عشائر (واتس أب) على اختلاف محل إقامتهم. أحظى بحوارات متصلة مع أولادي، متعلقة بكل ما يخصنا من شؤون وشجون ومشاعر وخطط مستقبلية ومشاورات وأفكار وأخبار ومستجدات، نتشارك في آخر الطرائف ووصفات الأطباق اللذيذة، إضافة إلى أحدث الصور وأفلام الفيديو العائلية، يتم ذلك ضمن (الجروب) العائلي الصغير المؤنس الممتع الضروري، يومياً وعلى مدار الساعة، ما يخفف من مشاعر الوحدة والغربة والاشتياق للمغتربين عن أوطانهم تحديدا، ويعوَض، على نحو ما، لمة العائلة الجميلة الحميمة المفقودة التي يسكننا الحنين إلى أيامها، ونشتاق لكل التفاصيل التي نختزنها في ذاكرتنا، مهما بلغ بنا العمر.

 ويبدو هذا التطبيق العبقري أقرب إلى حجرة المعيشة، بستائرها المسدلة التي تعمها الفوضى الجميلة، في العادة، وهي الحجرة الضاجة بالحياة والحيوية، يجلس فيها أفراد العائلة بملابس النوم الفضفاضة المريحة، ويتحدث الجميع بحرية من دون افتعال، أو محاولة لانتقاء الألفاظ، ذلك أن تطبيق وتس آب يقدم اقتراحاً جديداً، مختلفاً للعلاقات بين البشر وسبل التواصل الآمن بينهم، بما يضمن الخصوصية والانتقائية والاسترخاء، فيتواصل الأحبة مطمئنين إلى عدم انتهاك خصوصياتهم، ويتوارى التكلف والمجاملة والتصنع، وادعاء المثالية والطهرانية التي تميز طريقة التواصل والتعبير عن الذات في وسائل أخرى، مثل “تويتر” و”فيسبوك” المحكومة أصلاً بإلغاء فكرة الخصوصية من حيث المبدأ، لأن فلسفتها قائمة على إتاحة التواصل ضمن أوسع نطاق ممكن، ما يحد من العفوية والصدق والراحة النفسية لدي جمهور المستخدمين الساعين إلى إبهار الجمهور الكبير، المتواري خلف الشاشات الزرقاء ولفت نظره.

يفرض هذا الواقع الاتصالاتي الحديث نسبياً، مخاوف وتساؤلات وهواجس عديدة، ويظل السؤال الأكثر إلحاحاً، في هذا السياق، حول تأثير هذه الوسائل على تكويننا النفسي، وعلى منظومة علاقاتنا بالآخرين؟ هل بالغنا في الاتكاء عليها، وأسأنا استخدامها، حين تجاوزت مرحلة الضرورة التي يقتضيها الغياب، فباتت ترفا وكسلاً وقلة همة، وبرودا وجفاءً مسكوتاً عنه في تواطؤ جمعي مثير للقلق، نغطيه بالجمل المحايدة، وبأحدث النكات، نتداولها، ونعبر عن انفعالاتنا المختلفة بالاستعانة بتلك الوجوه المرسومة الجاهزة التي تشمل الانفعالات الإنسانية، من فرح وحزن ودهشة وقلق؟ ليس القصد، بأي حال، توجيه هجاء مجاني لهذه المنجزات العصرية الثورية الجارفة، التي جعلت الاتصال ممكناً بين الأحبة في لحظة، ومن أي بقعة في الأرض، لكن التنبيه لما يحدث لنا جميعا، حيث غدونا مغيبين مأخوذين، متورطين في اللعبة التكنولوجية الكبرى من دون انتباه إلى أننا نبدد فرصاً لن تظل متوفرة إلى الأبد، بلقاء من يخصنا بتواصل فعلي، تنخرط فيها الحواس والمشاعر كلها، نبرة الصوت، الإيماءات، اللفتات، الضحكات الخارجة من الجوف، بوح الأرواح المتآلفة، الحضور بمعناه الإنساني البسيط والحميم الذي يسند الروح، ويضفي على العلاقة الإنسانية مزيداً من الجدية والاكتراث، غالبا ما ينهي الأصدقاء حواراتهم، عبر الأزرار حصرياً، بجملة كليشية ولازمة لفظية مكررة: ضروري نلتقي قريبا، أو (خلينا نتشاوف)، بعد أن يعبروا عن أشواقهم الملتهبة، ورغبتهم في اللقاء سريعاً، غير أنهم، في الغالب، لا يفعلون، وإن حدث، وتم اللقاء على أرض الواقع، سوف يتبادلون بعض المجاملات، غير الحارة بالضرورة، ثم يلوذ كل منهم بموبايله الحديث الذي يضم كل التطبيقات اللازمة، غير مدركين أن الافتراض يلتهمهم، ويؤكد عزلتهم.

_______
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *