*سليم البيك
باريس- منذ أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي حيث نال الروائي الفرنسي باتريك موديانو جائزة نوبل للأدب، لم تنقطع أشكال الإحتفاء به في الصحافة والمكتبات ودار النشر لكتبه: في الصحافة شهدت الأشهر الأخيرة من العام الماضي ملّفات عن موديانو وأدبه. وأبرز مظاهر الإحتفاء الصحافي به كان عدداً من «خارج السلسلة» أصدرته «المجلّة الأدبيّة» في أكتوبر ذاته مخصّصا لموديانو، وأعداد «خارج السلسلة» في الصحافة الفرنسيّة عادة ما تُخصّص لمواضيع راهنة أو لأشخاص راحلين. في المكتبات تمّ إعادة ترتيب لكتبه وعرضها، حتى اليوم بعد ستّة أشهر، منفصلة عن غيرها في مكان بارز، إضافة لقراءات وندوات، أمّا دور النشر لكتبه، وتحديداً ناشره الأساسي، «غاييمار»، فقد أعادت طباعة مؤلّفاته فور إعلان فوزه بالجائزة، وآخر هذه الاحتفاءات كان قبل أيّام، فقد وزعت «غاييمار» فيلماً وثائقيّاً كانت قد أنتجته قناة «فرانس 5» في 2007 قبل أن تشتري دار النشر حقوقه وتعيد إصداره في (دي- في- دي) على المكتبات.
الفيلم المعنوَن بـ «باتريك موديانو، أتذكّر كلّ…» (52 دقيقة)، في إشارة إلى أكثر ما يميّز أدب موديانو وهي الذاكرة، من إخراج أنطوان دو مو، ومن كتابة الصحافي المعروف بيرنار بيفو صاحب برنامج «أبوستروف»، البرنامج الأدبي الفرنسي الأوّل الذي عرض لمدّة خمسة عشر عاماً، حتى 1990، وهو كذلك رئيس أكاديميّة غونكور المانحة للجائزة الأدبيّة الأولى في فرنسا.
يعتمد الفيلم في مادّته أساساً على عدّة مقابلات مع موديانو، تبدأ ببيته وتخرج معه إلى أماكن عدّة في المدينة، كما يعتمد بدرجة أقلّ على أرشيف تلفزيوني، كالمقابلات مع المؤلّف في «أبوستروف» وغيرها. ويقدّم بذلك، بالدمج بين المقابلات المعدّة على مدى أياّم مع موديانو وبين تلك الأرشيفيّة، يقدّم السيرة الذاتيّة، الأتوبيوغرافي، لكل من موديانو، وأدبه، مارّاً بين المراحل الزمنيّة منذ طفولته، إلى صدور روايته الأولى «ساحة النجمة» عام 1969، إلى مراحل لاحقة ضمن حياته الشخصيّة والأدبيّة منتهياً بحديث عن الموديانيّة في الأدب.
تتخلّل تلك المراحل الزمنيّة إشارات إلى الأسلوب في روايات صاحب «شارع المحال الغامضة»، وهي الرواية التي نال عنها جائزة غونكور لعام 1978، في عمر الثالثة والثلاثين، وقد عنونت صحيفة في حينه: موديانو مُتوّجا حتى قبل قراءته. كما يتخلّلها حديث لموديانو عن طريقة الكتابة لديه، فلا يستطيع أن يكتب أكثر من ساعة في اليوم كونها عمليّة مجهدة، لكنّه يمضي اليوم في التفكير بالعبارات التي سيكتبها. يكتب في مكتبه الذي يحوي مكتبة تغطّي جدران الغرفة الواسعة، من دون أن يمنع ذلك من الكتابة في أماكن أخرى، لكنّه يفضّل أن يكون بين الكتب والمراجع التي يعود إليها للبحث في الكثير من التفاصيل المدينيّة التي تميّز رواياته، نراه في الفيلم يتفحّص خريطة مفصّلة لباريس وينقل منها أسماء بعض الشوارع والأحياء إلى دفتره، وهو لا يكتب إلا بالقلم وعلى الورق، مشبّهاً ذلك بالرسم على اللوحة، فالوجود الماديّ للورق والحبر أساسي للكتابة.
أمّا موضوعات رواياته فغالباً ما تخلط بين الواقع والخيال، الواقع من حيث الأزمنة والأمكنة والأسماء، والخيال من حيث الأحداث. الأمكنة في رواياته هي في معظمها أحياء مدينة باريس، وشوارع وفنادق ومبان وبيوت، وقد عرضت «المجلّة الأدبية» في عددها المخصّص لموديانو خريطة باريس، مشيرة إلى أبرز الشوارع، وصوراً حقيقية لمبانٍ، حيث تجري أحداث بعض رواياته. يقول في الفيلم إنّه كي يكتب عن شقّة في شارع في المدينة، يهمّه أن يعرف من عاش في الشقّة التي سيذكر عنوانها، وكيف كان الدرج وكذلك الشارع وأسماء المحال فيه. حتى أسماء شخصيّاته يستمدّها من أسماء حقيقية، وكذلك أرقام الهاتف، وفي جميعها يستعين بمراجع مخصّصة تحوي أسماء وعناوين وأرقام الهاتف لسكّان المدينة في ذلك الزمن.
أمّا الأزمنة في رواياته فهي مرتبطة بمواضيعها، والموضوع الأكثر حضوراً هو الاحتلال النازي لباريس وملاحقة اليهود، والحرب العالميّة والفترتان القصيرتان ما قبلها وما بعدها. ونحن هنا أمام استعادة الكاتب لذاكرة لم يعشها، فالذاكرة هنا تنتهي، حيث بدأت طفولته، بخلاف مفهوم الذاكرة لدى مارسيل بروست، الذي يستعيد ما عاشه في طفولته كما في «في البحث عن الزمن الضائع». ولهذا التقاطع مع بروست، هنالك من وصّف موديانو ببروست الأزمنة الحديثة.
يأخذ موديانو المُشاهدَ معه إلى الأمكنة والأزمنة التي طبعت رواياته، ويحكي عنها، كما يأخذه إلى أمكنة عاش بها الروائيُّ في مراحل مختلفة من حياته. ليست كتاباته سيرا ذاتيّة، باستثناء رواية «سُلالة»، بل عن آخرين كما أشرتُ سابقاً، حيوات أخرى في أزمنة سابقة لزمنه وضمن الأمكنة التي يعيش بها.
يقول صاحب «كي لا تضيعَ في الحيّ» الصادرة بالتزامن مع نيله جائزة نوبل، بأنّه «إنتاج مدينيّ»، يكتب من مدينة باريس وعنها، وهو ما قد يوحي له بأنّه، كما يقول في مكان آخر، «يكتب دائماً الكتاب ذاته». وحتّى حين عرف بنيله جائزة نوبل، باتّصال ابنته به وإخباره، كان يمشي في أحد شوارع المدينة.
ينتهي الفيلم بمحاولة تعريف ما صار يُعرف بالموديانيّة في الأدب، أو الموديانيسك، يقول كاتب الفيلم بأن الموديانيّة هي شخصيّة أو حالة واضحة وغامضة، وليست منطقيّة ولا عبثيّة، بل بينهما، وبين الظل والضوء وبين الكلب والذئب. وهو ما ينتج عنه العديد من الأسئلة المعلّقة، من دون إجابات، أسئلة غريبة ومعقّدة وغامضة.
يقول موديانو في الفيلم: أعتقد بأنّ عمل الروائي هو إحاطة ما لا يبدو غريباً بالغرابة، فحتى الأشياء التي تبدو الأكثر عاديّة، هي غامضة، وأعتقد بأنّ هذا هو واجب الروائيّ، أي جعل ما يبدو عادياً غامضاً، وهو ما كان، في الأساس، غامضاً.
_________
*القدس العربي