( ثقافات )
القراءة فعل ثقافي بامتياز.. لكنه لم يأخذ مايستحق من الدراسة والتحليل، بقدر ما أخذت الكتابة من الاهتمام والمتابعة، وإثارة الاسئلة من قبيل: ماذا نكتب، ولمن نكتب؟ ذلك أن من بديهة القول أن الكتابة فعل إبداعي خالص، وهو عمل مركّب ومعقد، ولكن بموازاة ذلك يمكن تقرير أن الكاتب الجيد لابدّ أن يكون قارئاً جيداَ، وبذلك تصل القراءة إلى مستوى الإبداع، من حيث الوعي والخيال اللذان يرتقيان بالقارئ إلى فضاءات الكاتب انطلاقاً من القدرة على الاستبطان وتفعيل المخيلة للإحاطة بالمساحات البكر التي يحرث فيها الإبداع.
من هذه المداخلة المبسطة يمكن مقاربة الأفكار التي طرحتها الشاعرة مجد يعقوب في إصدارها الجديد (الركض في الفراغ)، بما يشي بأن الشاعرة محمّلة بالكثيرمن المشاعل في بحثها عن الثيمات التي تتوزع على حقل اشتغالها المعرفي، وهي ثيمات شديدة الخصوصية، بقدر ما هي عامة، ولكنها ضائعة ومضيّعة في ضجيج وصخب العصر في ارتمائه في أحضان المادية والمدنية، أكثر من انحيازه إلى الفكر والعقل ومخرجاتهما العظيمة.. ثيمات موجودة ومهملة في آن، رغم أنها ترتقي إلى مصاف الحقائق، بمعناها الفلسفي والواقعي.
وهي بهذا ترتفع بالقراءة إلى ابتكار فضاءات تحسب لها، وقد انحازت بالسرد إلى منعطفات غير مألوفة، فهي عندما تتحدث عن السلوك فهي تعني القيم، وعندما تتحدث عن الفكرة فإنما تعني التسامي، وفي تناولها للكينونة وشروطها فهي تقصد الإنسان، وتنحاز إليه بشدة، باعتباره مجموع الأفكار والسلوكات، إنتاجاً وتجسيداً، وباعتباره القيمة العليا في الوجود، استقطاباً وإشعاعاً.
مجد يعقوب في كتابها (الركض في الفراغ) قارئة مبدعة، تقرأ وتهضم، وتعيد إنتاج ما تقرأ في مختبرها الثقافي والمعرفي بعمق وانتقائية، مصدرهما خزينها المتراكم، ونقاشها مع الذات والموضوع، وكذلك نتاج صاف من حوار قناعتها مع القناعات الأخرى. بما أهّلها لكي تقرأ ما ليس يُرى، فتضيء المسالك غير المرئية بين السبب والنتيجة، والعلة والمعلول في ما تبحث عنه، وتأخذ القارئ إلى الدهشة، حتى في أشد المواقف المثيرة للصدمة، أو الإعجاب، ليس لذاتهما، ولكن لتستوقف الإنسان أمام الإنسان وجهاً لوجه، مجرداً من القشور والرتوش التي شوّهت جوهره المقدس، الذي هو من صنع الخالق العظيم، ليكون خليفته على الأرض باستحقاق وجدارة..