*منى شكري
“مثل عصفور أحط على غصن أبقى فيه لبعض الوقت، ثم أطير لأحط على غصن آخر” بهذه الكلمات وصف الشاعر العربي الراحل، محمد الفيتوري حالته لأحد أصدقائه ذات لحظة بوح في ثمانينيات القرن الماضي، ليعيش “الحر” متنقلاً تتنازعه طوال مسيرته هويات ثلاث؛ السودانية والمصرية والليبية، ليموت في الرباط بالمغرب التي أوصى أن يدفن فيها بعد صراع مع المرض.
ولد محمد الفيتوري في الجنينة على حدود السودان الغربية عام 1936م، والده الشيخ مفتاح رجب الفيتوري الذي كان خليفة خلفاء الطريقة الشاذلية الصوفية. نشأ في الإسكندرية، حيث حفظ القرآن ودرس بالمعهد الديني، ثم انتقل إلى القاهرة وأكمل تعليمه في كلية الأزهر.
كان الفيتوري يصف واقع نشأته بـ “المسألة المعقدة”، حيث قال: “أبي سوداني أسود وأمي ليبية ابنة واحد من أكبر تجار الرقيق في ليبيا في بداية القرن، وكانت جدتي من أمي جارية جميلة سوداء تزوجها جدي وأعتقها. وفي حضن هذه الجدة، تربيت مدة من حياتي متشبعاً بتاريخ النخاسة”.
لكنه بقي متحدياً محرضاً للتحرر، حيث يقول:
آن لهذا الأسود.. المنزوي
المتواري عن عيون السنا
آن له أن يتحدى الورى
آن له أن يتحدى الفنا، فلتنحن الشمس لهاماتنا
ولتخشع الأرض لأصواتنا
إنا سنكسوها بأفراحنا
كما كسوناها بأحزاننا
أجل.. فإنا قد أتى دورنا
إفريقيا
إنا أتى دورنا.
لامس الناقد المصري الراحل محمود أمين العالم اعتمال الفيتوري الداخلي قائلاً: “لقد أخذ الشاعر يلونها (إفريقيا) بلون مشاعره، ويوحد تاريخه بتاريخها، ويخلع عليها مأساته الخاصة، ويبصر من خلالها خلاصه المنشود… ويتخلص من أزماته الباطنية، ويخلع عليها صراعه النفسي المرير..”.
أسقطت عنه الحكومة السودانية الجنسية، وسحبت منه جواز سفره بسبب معارضته لنظام الرئيس الراحل جعفر النميري لتعيدها له، وتمنحه جوازاً دبلوماسياً في العام 2014.
عمل خبيراً إعلامياً في الجامعة العربية، ومستشاراً ثقافياً في السفارة الليبية في إيطاليا، كما عمل مستشاراً وسفيراً بالسفارة الليبية ببيروت، وشغل كذلك مستشاراً سياسياً وإعلامياً بسفارة ليبيا في المغرب. واختار المغرب مقاماً ومستقراً له، إلى حين وفاته في الرابع والعشرين من نيسان 2015.
صبغت الهويات التي انتمى إليها الراحل تكوينه الأدبي والشعري، وتغنى بالعروبة وانفتح على الثقافات الإنسانية وأعلى صوته في الدفاع عن القيم، والتمرد في وجه الطاغية.
نذر “شاعر إفريقيا والعروبة” جلّ كتاباته لقضية الأفريقي المستعبَد ونضاله ضد المستعمِر، وحاول بشعره أن يستصرخ مدافعاً عن حق الإفريقي في الحرية والكرامة بغض النظر عن اللون أو الجنس، فقد انتصر لـ “الزنجي” قائلاً:
قلها لا تجبن .. لا تجبن
قلها في وجه البشرية
أنا زنجي
وأبي زنجي الجد
وأمي زنجية
أنا أسود
أسود لكني حر أمتلك الحرية.
لم يقف الفيتوري عند حدود التغني بالقارة الإفريقية والدفاع عن قضايا السود، بل كان قومياً عروبياً، تناول في قصائده هموم وآلام الوطن العربي والقضية الفلسطينية.
وقال الشاعر الراحل في وصف حبيبته في قصائده في إحدى لقاءاته الصحافية : “حبيبتي التي أهدي إليها كتاباتي هي الأرض، والناس والأشياء، وحين أعانقها لا أجد بين أحضاني غير الحزن، إن الفنان الحق هو الذي لا يعتزل قضايا الوطن”.
وبعد الغزو الأمريكي للعراق، لم يسخر الشاعر من الواقع العربي بقدر ما حاول أن يربت على كتف الشهيد في قصيدة نظمها، محاولاً إعلان صرخة بصوت مبحوح لميلاد جديد، رغم الواقع المرير وفي ذلك قال:
دعونا نعلّق على مشجب الشمس أكفاننا..
ونهزُّ بيارقنا..
أو دعونا نصلي..
فقد تُخصِبُ الصلواتُ التي يبِستْ في حناجرنا
ثم سالتْ نُعوشا عراقية
ومدائن مكسوةً بالحرائق، مزدانة بالدماء..
دعونا نغني لمن يستحق الغناءْ
ونبكي لمن يستحقّ البكاءْ
ومن تتناغم أطيافنا في رؤاهْ
ومن هو نافورةُ الضوءِ تحت السماءْ..
مزج الفيتوري في شعره بين تيارات فنية متعددة، وغلبت على قصائده الأخيرة نزعة صوفية عميقة ومن ذلك قوله:
دنيا لا يملكها من يملكها
أغنى أهليها سادتها الفقراء
الخاسر من لم يأخذ منها
ما تعطيه على استحياء
والغافل من ظن الأشياء
هي الأشياء
ذاع صيت قصيدته “أصبح الصبح”، حيث أدرجت في مناهج دراسية في بعض الدول العربية ومن كلماتها:
أصبح الصبح
ولا السجن ولا السجان باقي
وإذا الفجر جناحان يرفان عليك
وإذا الحزن الذي كحل تلك المآقي
والذي شد وثاقا لوثاق
والذي بعثرنا في كل وادي
فرحة نابعة من كل قلب يا بلادي
أصبح الصبح
وها نحن مع النو التقينا
التقى جيل البطولات
بجيل التضحيات
التقى كل شهيد
قهر الظلم ومات
بشهيد لم يزل يبذر في الأرض
بذور الذكريات
أبدا ما هنت يا سوداننا يوما علينا
بالذي أصبح شمسا في يدينا
وغناء عاطرا تعدو به الريح
فتختال الهوينى
من كل قلب يا بلادي
فرحة نابعة من كل قلب يا بلادي
حضرت المرأة في شعره حضوراً إشكالياً، ليعكس ذلك الصراع الذي لم يغادر وجدانه يقول؛الأديب والإعلامي شاكر نوري: “الفيتوري عامة لا يذكر أسماء نسائه، بل يحوّل جميع النساء إلى امرأة واحدة، هي امرأة الحلم، هي التي علمته العشق وأنضجته رجلاً، وهو لم يتجاوز العشرين من عمره بعد، وفتحت حواسه على معنى الحب. لكن سرعان ما أصبح ذلك الحب مثاراً للشك والغيرة، ولم يكن لها ذنب سوى أنها بيضاء، وهو الزنجي الذي يحمل كبرياءه على كتفه، وكان ذلك الحب ندياً وقاسياً”.
الفيتوري الذي نافح عن الحرية وحقوق المضطهدين بقصائده، يعد أحد أشهر أعلام الحركة الأدبية العربية المعاصرة، ومن رواد الشعر الحر الحديث، رفد المكتبة العربية بالعديد من القصائد والمسرحيات الشعرية والمقالات الموزعة في كتب ودوريات ودواوين شعرية.
أصدر الشاعر الحاصل على “وسام الفاتح” الليبي و”الوسام الذهبي للعلوم والفنون والآداب” بالسودان العديد من الدواوين منها: “أغاني إفريقيا”، “عاشق من إفريقيا”، “اذكريني يا إفريقيا”، “سقوط بشليم”، “معزوفة لدرويش متجول”، “سولارا”،”الثورة والبطل والمشنقة”، “أقوال شاهد إثبات”، “ثورة عمر المختار”، “ابتسمي حتى تمر الخيل”.
لم يقتصر إنتاج الفيتوري على الشعر، بل له العديد من الأعمال النثرية والنقدية وبعض الدراسات المنشورة في الصحف والمجلات العربية، وتمت ترجمة بعض أعماله إلى لغات أجنبية، مثل:نحو فهم المستقبلية (دراسة)، التعليم في بريطانيا، تعليم الكبار في الدول النامية.
تنقل الفيتوري بين عدة أصقاع، وعاش أكثر من مقام ومنفى، لكنه أصر أن يصنع بالكلمات وطنه ومنتهاه الخاص الذي أراده بحجم الحلم خارج حدود الجغرافيا والطغيان.
“سأرقد في كل شبر من الأرض
أرقد كالماء في جسد النيل
أرقد كالشمس فوق
حقول بلادي
مثلي أنا ليس يسكن قبرا
لقد وقفوا ووقفت
لماذا يظن الطغاة الصغار أن موت المناضل موت القضية
أعلم سر احتكام الطغاة إلى البندقية
لا خائفاً
إن صوتي مشنقة للطغاة جميعا
ولا نادما
إن روحي مثقلة بالغضب
كل طاغية صنم
دميةٌ من خشب”.
______
*ذوات