*مصطفى الحمداوي
( ثقافات )
قرأت رواية ” شوق الدرويش ” للكاتب السوداني الموهوب حمور زيادة قبل وصولها إلى اللائحة القصيرة لجائزة البوكر العربية، وهي الرواية ذاتها التي فازت، من قبل، عن جدارة واستحقاق بجائزة نجيب محفوظ للرواية.
تشعرك هذه الرواية وأنت تقرأها بالجهد الجبار الذي بذله الكاتب الموهوب من أجل إبداع هذه التحفة الروائية الفريدة من حيث تقنية كتابتها، وطريقة السرد المعتمدة، والعوالم الغرائبية التي تمتاح من حقبة تاريخية سودانية عبقة بالإدهاش والسحر. طبعا كقارئ يمكنني أن أقول أيضا أن الرواية تحتوي على بعض النقائص والمطبات، التي ” من وجهة نظري ” كان يمكن تفاديها، ورغم كل شيء أعترف، ليست هناك رواية كاملة متكاملة من جميع النواحي وتستجيب لذائقة جميع القراء. الإبداع دائما يخذل المتلقي، والخذلان قد يكتسي عدة صيغ متباينة وإيجابية في الغالب، فحينما تقرأ مثلا رواية ” العطر، قصة قاتل” للروائي الألماني باتريك زوسكيلد، ستبهرك الرواية إجمالا، وستخرج برضى تام، إلا أن الرواية ستتركك للفراغ في النهاية، وستشعرُ أنك خذلت بإنهاء قراءة عمل متميز كان يجب أن لا ينتهي..أو على الأقل أن ينتهي بنهاية مختلفة ستكون قد قررتها باعتبارك قارئا مشاركا في عملية الإبداع مع الكاتب. بهذه الذهنية يحقق الإبداع الأصيل هدفه الأول..ربط علاقة تواصل واتصال بين الكاتب والقارئ.
نعود لرواية شوق الدريوش، ربما ما كان لهذه الرواية أن تخرج بهذه الروعة، وبهذه الحلة الأنيقة لو لم تتضافر عدة عناصر شكلت القوة الأولى التي بنت هذه الرواية بإتقان ومهارة قل نظيرهما، ويمكنني أن أشبه هذه العناصر بالأوركسترا التي تبرع في عزف سيمفونية فاتنة، والسمفونية هنا هي رواية ” شوق الدرويش “. العناصر التي أتحدث عنها هنا هي نفسها التي يعترف بها الكاتب حمور زيادة دون مركب نقص، فالكاتب واثق تماما من نفسه، وبما أنه روائي وكاتب متمكن من آلياته الفنية والتقنية تماما، فلم يجد حرجا في شكر كل من وقف معه حتى النهاية، وواكب مسيرة إنجازه لرواية شوق الدرويش. لقد أصدر حمور زيادة عدة أعمال ناجحة، وكتب كتابات تم اعتبارها في السودان كتابات مشاغبة أو ( خادشة للضمير الجماعي )، ولعل على رأس هذه الكتابات القصة القصيرة التي تناول فيها بجرأة موضوع اغتصاب الأطفال. وهي القصة التي أثارت ضجة في السودان، وبسببها هاجر إلى مصر ليواصل مشواره الناجح مع الكتابة. وفي مصر سيجد مناخا أكثر تقبلا لكتابات قد تعتبر في المجتمع السوداني ..أو السلطة السودانية بالأحرى، كتابة محرجة وتدخل في خانة ” التابو ” الذي لا ينبغي الاقتراب منه، ضمن لائحة واسعة من التابوهات والخطوط الحمراء التي تعترض الكاتب.
أكثر من كل هذا لم يجد الكاتب حمور زيادة مناخا ملائما للكتابة في مصر فقط، بل وجد دعما استثنائيا من طرف جهات لها وزن معرفي ثقيل، هذه الأطراف دعمته دعما كاملا، وإذ أنني أنبهر في الواقع بهذه الحقيقة فليس لأنها فريدة ربما، ولكن لأنني لم أطلع شخصيا أو ألمس مثل هذا الواقع في حالات كثيرة لا داعي لذكرها، ولم أعايش شكلا من أشكال هذا الدعم السخي الذي يحمل في طياته الكثير من نكران الذات. بل العكس، ظللت على يقين تام بوجود أنانية ونرجسية مفرطة مشاعة على نحو مثير في ” جمهورية الكتاب المستبدة “، وإذا صادف ولوحظ أن هناك تضامنا من قبل كُتاب لتبني تجربة لكاتب ما، فلن يكون ذلك إلا من أجل تبادل مصالح، أو لعلاقات عامة فيها الكثير من النفاق والتصفيق المناسباتي غير المؤسس على كتابة وإبداع يستحق. لن نحتاج إلى دراسة تحليلية لنلاحظ بوضوح أن أغلب هذه المجاملات ” الأدبية ” هي موجهة بالأساس إلى العنصر النسوي، وتليها علاقات الصداقة الحقيقية، أو العلاقات الشخصية العامة.
ولكن في حالة رواية شوق الدرويش، حصل العكس تماما، فالكاتب حمور زيادة متمكن من أدواته تمكنا يكاد يكون مثاليا بالمعيار الأدبي..ولأنه كذلك، فإن حمور زيادة لم ير حرجا لشكر كل من سانده، وكل من قدم له نصيحة أو صحح له خطأ لغويا. هذا الاعتراف الجميل من الكاتب حمور زيادة لم يأت إلا لأنه يدرك أن كل كاتب يحتاج لمن يقرأ له عمله، ولمن يبدي رأيه فيه وهو الأمر الذي يحدث مع كبار الكتاب. فليس عيبا أن ينبهك قارئ نبيه إلى خلل ما في جزئية ما في رواية أنت بصدد كتابتها، أو تكون قد أنهيتها بالشكل الذي يبدو مناسبا. من الجميل جدا أن ينبهك قارئ أو متخصص لأخطاء أو لاختلالات تعتري النص الأدبي، اختلالات ينبغي الانتباه إليها قبل خروج العمل الروائي من يد الكاتب، وحينذاك لن يكون من السهل إجراء عملية إصلاح هيكلية أو غير هيكلية على الرواية.
سأورد بالحرف، قبل أن أختم هذا المقال، كلمة الشكر التي تقدم بها الكاتب حمور زيادة في نهاية روايته الممتعة ” شوق الدرويش” لكل من سانده، ويجب أن نستخلص الكثير من كلمات الشكر هذه:
( شكر وتقدير:
من الواجب أن أتقدم بالشكر لمن أعانوني في كتابة هذه الرواية، برأي، أو مراجعة، أو تشجيع أو تحفيز يكسران كسلي وتغييرات مزاجي..
الصديقة المثقفة ميسون النجومي ..كم أرهقتها بتعديلات الرواية وأفكار أتبادلها معها ثم أنكص عنها .
الصديق اللغوي شريف رفاعي ..الذي صبر على أخطائي وإنكاري لأهمية الهمزة في اللغة. وعزاز شامي وميرفت يوسف على تدقيقهما اللغوي
الصديقة د. داليا حسين .. التي رعتني، وجاهدت خير الجهاد لأكثر من عام لأكمل هذا العمل.)
من خلال قراءة سريعة لكلمات الشكر التي قدمها الكاتب حمور زيادة لكل من أعانه في كتابة رواية شوق الدرويش، سنلاحظ أن هناك خلية كاملة سهرت على مواكبة كتابة الرواية، وعلى مستويات عدة ومختلفة. خمسة أسماء من العيار الثقيل تبادلت الأدوار من أجل إنجاح تجربة كتابة رواية لن تكون في النهاية إلا بارعة. فهناك من تكفل بالجانب التحفيزي وإبداء الرأي، وهناك من تكفل بالمعالجة اللغوية وتوجيه الكاتب وتنبيهه إلى مكامن الخلل، وهناك من تكفل بالتدقيق اللغوي، وهي عمليات كلها حاسمة لكي تستقيم اللغة وترسل خطابها بالقصد الصحيح الذي أراده الكاتب..وبعد كل هذا، هناك من رعى الكاتب أدبيا، ووقف إلى جانبه لأكثر من عام من أجل إتمام الرواية وخروجها إلى القارئ في أفضل حلة تليق بموهبة حمور زيادة ونبوغه الذي لا تخطئه العين.
كل ما أردت قوله هنا، هو أن هذه العناصر الذي ذكرتها ليست تبخيسا للعمل الباهر الذي قام به الكاتب الرائع حمور زيادة، ولكن أردت أن أشير إلى أن عملية الإبداع قد تحولت – شئنا أم أبينا – في عصرنا الحالي إلى ما يشبه إنتاج جماعي يرتكز على عدة عناصر مساعدة، ولكنها ليست حاسمة، الحسم يبقى دائما في يد المبدع نفسه، وهو وحده القادر على الخلق، بدونه لن يتحقق أي شيء، حتى ورشات الكتابة التي تقام هنا وهناك لا تجدي أبدا، إنها مجرد خطوط عريضة تقول للكاتب الناشئ عليك أن تلتزم بهذه الخطوات الضرورية لكي تبدع في النهاية رواية بالمواصفات المتعارف عليها. ولكن هل يحتاج الروائي الموهوب الذي يكتسب تلقائيا هذه المهارات بطريقة أفضل وأكثر جمالية، هل يحتاج لتعليمات جامدة وجاهزة ومعلبة مسبقا كأي منتوج لا بد من تلفيفه بأناقة ليسوق رغم التشوهات التي تعتريه؟! لا أعتقد ذلك، سبق وأن أنشأ غابرييل غارسيا ماركيز وغيره ورشات للكتابة، ولكن هل أفرزت تلك الورشات كُتابا مرموقين يمكن أن نقول عنهم أنهم خريجو ورشة ماركيز؟! وفي مستوى يقترب ولو بمسافة بسيطة جدا من مستوى ماركيز الروائي؟!
الكتابة فعل ذاتي، يأتي برغبة تلقائية، وعبر تجربة طويلة لقراءة كل الأعمال الجادة والكبيرة التي تضيف للكاتب، إذ أن قراءة الأدب الرديء تنشئ علاقة هجينة بين الكاتب وإبداعه، وستظل تجاربه في الكتابة قاصرة ما لم يعززها بقراءة أدب راق جدا يفتح مخيلته على آفاق أوسع وأكثر شمولية. لن أعترف بأي كاتب لم يقرأ العجوز والبحر، أو مائة عام من العزلة، أو أنّا كارنينا أو مدام بوفاري، أو الخيميائي، أو كائن لا تحتمل خفته، أو المسخ، أو موسم الهجرة إلى الشمال، أو مدن الملح..واللائحة طويلة.. طبعا هذه العناوين مجرد أمثلة فقط، هناك روايات وأعمال قد تكون أكثر أهمية بكثير من هذه العناوين التي ذكرتها. في الأخير سنجد هذا المقولة قريبة جدا إلى الحقيقة: قل لي لمن تقرأ أقول لك أي كاتب ” أو أي قارئ ” أنتَ.