*لانا المجالي
( ثقافات )
“لا أعرفُ كيف بدأ الأمر، لكنه انتهى باختفاء وجهي؛ وهي بداية أخرى، لا أقدر على ترجمتها إلى كلمات دون فمٍ ولسان .. على الأقل”.
عندما نشرت هذه العبارة عبر صفحتي في موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”، قصدت المداعبة لا أكثر، لكن ردود الأفعال التي تعاملت مع “حالة الفنتازيا” بطريقة أقرب ما تكون إلى مواساة صديقة مصابة بزكام موسمي عابر، عقدت لساني من الدهشة، إلى تلك الدرجة التي بدأت أظن فيها أنني الوحيدة التي لم تختبر اختفاء وجهها من قبل!.
مما لا شكّ فيه أن البؤس العالمي نقل “السريالية” من الفن والأدب إلى حياة الناس اليوميّة، وصارت رؤية ساعات “سلفادور” الرخوة في حديقة منزل أحدنا، أو تبادل أخبار الطقس مع امرأة برقبة زرافة، أو الإعلان رسميا عن وصول “غودو” دون سابق إنذار، من المواقف التي لا تستدعي هزّ أكتاف البشريّة وهي تمضي قدما مع أوكتافيو باث في: “طريق طويل صامت/ أسير في ظلمات أتعثّر، أسقط/ أنهضُ، أطأ بأقدام عمياء/ أوراقا جافة وحجارة صمّاء/ يطأها خلفي إنسان/ إذا ما وقفتُ، وقف/ أسرعُ الخُطَى، يسرعها/ أنظرُ خلفي .. لا أحد”.
وعلى سبيل الاستدراك، لا أحبّ أن يفسّر خطابي هذا على أنّه هجاء للسريالية، لكنني أشير فقط إلى أن هذا الاتجاه – بشكله العدمي- لم يعد يثير دهشة البشريّة؛ لأنّ سريالية الواقع السوداء تفوقت على مثيلتها الفنيّة، الأمر الذي يدفعنا إلى استنهاض همّة “ضمير الفن” لإعادة ترميم وجه العالم الذي لم يفقده بعد، لافتة إلى أن “سلفادور دالي” نفسه تخلى عنها متجها نحو الكلاسيكية.
وحتى لا أظلمها وأخواتها، أشير إلى وجود نماذج تصلح للسير على خطاها، ومن أمثلتها الناصعة مسرحية ترجمها أنسي الحاج تحمل عنوان “الصيف” للفرنسي رومان فينغارتن، وتطرح السؤال الكبير: “كيف نشفى من حزن العالم”، وتجيب على لسان أبطالها ( القط نصف الكرز، والقط صاحب الجلالة الثوم، وشاب أبله يدعى سيمون، وأخته لوريت) أنّ الحبّ هو شفاء العالم، حتى لو كان الحبيب مجرد ذبابة تكتب الشعر لحبيبها “القط صاحب الجلالة الثوم” على أعقاب السجائر.
وتشير غادة السمان – في قراءة بديعة للمسرحية ضمنتها كتابها “مواطنة متلبسة بالقراءة”- إلى أن الحب وهم نخلقه نحن، وتتساءل: ” ألم يحبّ كثيرون منا مخلوقات كانت علاقتهم بها كعلاقة الإنسان بالذبابة؛ لقاء بالنظر. صمت نفسره كما نشاء، وارتحال دائم وغربة؟، وتبرر :”ثم أليس ذلك أهون من السقوط في غيمة اللاحب؟!”، لهذا نقرأ في المسرحية مثل هذا الحوار:
– أنا جميل وأنت بشع.
– لا؛ أنت تحبّ وأنا لا أحبّ، هذا كل ما في الأمر.
حسنا، أعلم أن الدعوة إلى دور إيجابي للفن، تخالف مبدأ “الفن من أجل الفن”، لكن ألم يفعل “دولوز” الأمر نفسه عندما طالب بنقل الفلسفة من طوبائية البحث عن الحقيقة إلى حيّز أدوات البحث؟.
إذن، المطلوب خلق شخصية مفهوميّة للفن تنزل إلى الحدث المتمثل بشقاء العالم وسوداويته، تؤثر فيه وتعيد الأشياء إلى بساطتها العميقة، الموسيقى – مثلا- إلى فصول “فيفالدي” الأربعة، والرسم إلى حقول القش عند “كلود مونيه”، والشّعر إلى محمود درويش، والروايات والقصص والسينما و…، كلّها نحيلها إلى فيروز لتمارس عليها سحرها وهي تغني “علّموني”.
_________
* شاعرة من الأردن ومديرة تحرير (ثقافات).
نشرت في العدد 161 من مجلة الفنون الكويتية.