*ناصر الريماوي
( ثقافات )
” بوابة الوصول”
عند ميدان “المنارة” في رام الله، يبدأ كل شيء، ما أن تحط رحالك فيها، حتى تخرج الذكريات من أوكارها، وترتدي المدينة غلالتها الرقيقة أمامك وتستريح، وكأنها في بيتها، الذي هو بيتك، ستجذبك الدهشة نحو فتنة الجسد، وهو يتثنى بلا إبتذال، أو تجاعيد من شأنها أن تجرح فكرتك القديمة عنها.
السائق يلم شوارعها المنبثقة عن ذلك الميدان، ويطويها في يدي، أستغرب لهذا الفائض عن كرم الضيافة وعن حاجتي، يبتسم خلف مقود السيارة، مبددا دهشتي: هي التي تقفز طائعة نحو زوارها، ولا شأن لي… يلتفت نحوي، مواصلا: هنا في رام الله، لن ترى شارعا يدير لكَ ظهره…!
بين رام الله وقريتي… عثرتُ على “حصيرة” قش عتيقة لمسجد صليت فيه وأنا طفل، وبوابة لدير قديم، وبحر صلوات. قال لي السائق: بأنهما تسابيح جبال شاهقة، وعظة أبدية، لن تنقطع.
وأضاف: ستأخذك الحصيرة، إلى بيت “عقد” عتيق، بغرف روميّه وطابون عند مدخلها يحرس الباحة، وحاكورة صغيرة، تطل عليها نافذة من صقيع يعرفها الوجد… وأما بوابة الدير، فهي البشارة بالعودة، والصفح عند الرجوع.
كان كلامه مربكا كهذا الجسد الفائر للمدينة وهو ينحني تحت غلالة الغبش الرقيقة للصباح… أفضيتُ له بأني أضيق بأحاديث العرّافات، وبأنه يحدثني كواحدة منهن. لم يغضب مثلما توقعت، وراح يقطف الأجراس من فوق أبراج الكنائس في رام الله ويعلقها في فضاء السيارة، بيننا. أبقى على برج كنيسة واحدة، توقفنا عند بوابتها الحديدية. قال : هذه كنيسة دير تجلي الرب…
قلت له: لكنني حبوت للمرة الأولى فوق “حصيرة” قش، في جامع القرية…!
قال : وأنا قمتُ للمرة الأولى، عند هذا الدير، حملتني البشارة طفلاً يسرح مع إنجيل مقدس…
قلتُ : أمي كانت تكنس الجامع، وترتق الحصير للمصلين.
رد على الفور: وأمي كانت هنا، تعجن للفقراء في هذا الدير، قبل ولادتي بسنين.
رددتُ في سرّي: يا أبتي من يقرع الطبل في أذني؟
إجعلني ذبيح يوم الخلاص في يوم توسد الآحاد…، ثم انطلقت مسرعا.
نظرت، لم يكن بجانبي أحد. كنتُ وحيدا، أحاور نفسي في الطريق، بين رام الله وقريتي.
بعد أن تخطيتها، نظرتُ ورائي، خجلت وأنا أرى المدينة وهي تخلع عنها غلالة الصباح وتستعيد شوارعها من يدي، بلطف شديد.
أمام فتنتها، أخذتُ أصرخ : يا أبتي هات يدك تمسح بالميرون المقدس على صفحة الألم… لأشفى من غربتي.
“باحة العقد”
ليس بيننا سوى اعتلال سفر طويل، لبيت، سنحزم له الشوق في الحقائب، ونافذة من صقيع يعرفها الوجد …!
في الباحة الأمامية لغرف “العقد” القديم وأمام سلسلة الحجارة التي تطوقه، وتفصل بينه وبين فتنة اللوز على رؤوس الشجر والتي ترافق الشارع الرملي الوحيد حتى وسط القرية… وقفت. المدخل المرصوف بالحجارة تكالبت عليه الحشائش من كل صوب، نبتت بين شقوقه ثم تطاولت وأمتدت حتى تجاوزته إلى وسط ” الحوش” وأطراف الباحة. إلى جانب المدخل تناثرت حجارة سوداء، بدت كردم حجري متصل بتلك السلسلة. الضوء لم يكن حقيقيا وكافيا وقتها لأصدقه، أيُعقل أن ينحدر بومضهِ ليفضي أمامي بما تبقى من ذلك “الطابون” القديم؟! أهكذا تسقط السنوات الطويلة، وتندثر… على إمتداد ومضة، وفي لمح البصر!؟ وأخذتُ أبحث عن ومض حقيقي، لأتبين الأشياء وسط الركام، عن ظلّ حقيقي لطير قد يسقط فجأة ثم يتلاشى على جدار ليفسّر لي صمت الغرف “الروميّة”، وهي تطل على الباحة أو “الحوش”، عن بقايا روح بين نافذة حجرية قديمة موصدة وباب يعلوه الصدأ، عن غصن أخضر يترنح فوق شجرة بلوط معمّره.
كل الأشياء بدت قديمة وساكنة، لكنها ليست كذلك، هي بعض أرواح الراحلين عنها في الغياب… ومما تساقط من ذاكرة حول بيارات المنافي.
“الطابون”
بقايا الطابون… أو رجم الحجارة، هو كل ما تبقى في محيط “الباحة” ، ووجه جدتي القديم المتوهج أمام تنوره كجمرة، وبعضا من خصلات شعرها المصبوغ بحنّاء حجازي، وهي تطل من بين أرباع الفضة المجدولة حول غطاء الرأس، وجدّي يقلّب جرة الزيت، يدلقها في قعر الأواني الفضية المتناثرة على طرف الباحة، يطوي “قمبازه” ثم يفرده وهو يعاود الوقوف معتدا بقامته، يدنو من جدّتي الملتصقة بالطابون وهو يغنّي لها: “يا ظريف الطول …”
تهدمت أركانه الآن بفعل السنين والغياب، بينما الشمس وأسراب الدوري على حالهما، يتسابقان على موعد لا يتبدل نحو المكان، وكأننا بالأمس تركناه، أكاد أشم رائحة الخبز، ومنقوش الزعتر، وأرى أرغفة الحنطة وهي تتراكم فوق “صينية القش”، على يمين جدتي، وأفزع لصدى صوتها وهي تنهرنا في حنق، كلما تسللنا لنخطف كسرة خبز ساخنة من حولها.
“غرف العقد”
من منّا يذكر “جدّاتنا الجميلات”، وزينة الكحل على أرفف الخوابي؟
من منّا لا زال يأنس لذكر فانوس الأمسيات، معوج الذبالة تعصف به أنفاسنا اللاهثة وراء الحكايات الطويلة، الممتعة، المخيفة، بين طيّات الشقوق في تلك السقائف، حكايا الغولة…
والضبع و جبينه و…؟
في غرف “العقد”، منذ النكبة الأولى وذؤابة الفانوس لم تخمد، تذوي ثم تشع في الزوايا العتيقة للغرف، وفقا لأطيافنا الحاضرة وهمسنا الخفي وهو يصعد من بين أعمدة المنافي، لأنفاسنا التي تشبّعت بها الحجارة، وجدران البيوت…
نتحلّق حولها تحت قوس النافذة الحجري، نتوسد ثوبها ونحن نقترب شيئا فشيئا، حتى نتسمّر بينها وبين الليل الرابض لنا خلف أعتاب الغرف، ويستوطن أرض الحاكورة المعتمة،
– هل نفتح لحلكة الليل كي تدخل وتجلس بيننا؟
نصيح أمامها في توسل وذعر: لا، لا يا جدّتي …!
يتأرجح الفانوس على وقع هبوب يتدفق من شق ضئيل، يتدافع من بين ثنايا الستارة، فيطل وجهها بيننا بألف ابتسامة، ونفزع حين يشق ظلّها أرض الغرفة ويصعد كعملاق، على تراقص اللهب، حتى يسقط فوق الجدار. لكنها تعبس ويتغضن جبينها حين تشرع في السرد: إذن فلنصغي جيدا للحكاية…
نتكوم أكثر كلما إمتد بنا الوقت وطال عمر الحكاية، حتى يضيق بنا حِجرها، أو تدور بنا قبّة السقف العالية، فيغفو أولنا… نتساقط من حولها، ثم ننام.
أما اليوم، وبعد ثلاثين صيفا ونيّف، وأمام ومضة عابرة، نقف، كي نخطف الحكاية من وسط الركام، الخوابي يطحنها الفراغ وهي تندلق بلا زينة، ساكنة، تطالع السقوف بقبابها المشّعثة، المهملة، تشيح عن أروقة معتمة، ورطبة، تصفر فيها الريح، وتعيد نسجها العناكب على وقع الوميض، وفانوس منسي، تحجّر منذ زمن بعيد، بين قوس تهدم لنافذة وباب علاهُ الصدأ…
” حاكورة خلفية”
أول درس تعلمناه في النكبة : “كيف لنا أن نودع حاكورة مسائية صغيرة، ملقاة خلف بيت “العقد”، جوف حقيبة، نحملها… ثم نلقي بها بين بيارات المنافي”
فمن دونها لن نقوى على تعليق ظلّ صغير في عنق الظهيرة، أو نضيف غصن زيتون جديد إلى شجرة.
ودرس آخر تعلمناه في الغربة : “كيف لنا أن نتقن لمَّ الشمل، في التحام الفضاءات… بالأرض”، وإلا فما جدوى العرائش في المساء، وأي نخب سيقرع مثل ناقوس كلما هاج الحنين وهبّت الذكرى؟
لهذا كله… لم تتغير حاكورة “العقد” في ذاكرتي، ولم تبد غريبة على وقع الوميض، رغم كثافة الشّوك في المكان، لكن الرائحة مختلفة، تشبه إنبعاث أدخنة المواقد في الفيافي، واحتراق أعواد الحطب، في الحقيقة، هي إنبعاث الروح في الهمس، كي يتصاعد على صداها العابق بروائح الزهر، والزعتر البري، حتى استقامت لنا نبرة الصوت التي بقيت، عرفنا أصواتنا بعد ثلاثين شتاءاً، رغم إختلاطها بالريح وهي تسفح صدغ النافذة الوحيدة، المطلة بقوسها الحجري على فضاء الحاكورة، وتلطم جذع أشجار اللوز و فرع “البلوطة” المعمّرة، اليتيمة، أمام تلك النافذة.
النقش … على جذعها، لم تطمسه الشتاءات، لثلاثين عاما وهي تحاول … لكنها لم تفلح.
على صدى صوت بعيد، بنبرة متوعدة، رأينا كيف فرّ الصبي من جذع تلك الشجرة، لثَمَ النقش ثم سارع لإلتقاط يد صغيرة لصبيّه تدلّت بذعر من حلق النافذة، وحين خمد الصوت، ضحكا عاليا في طيش، ثم تسللا في حذر طفولي، حتى غادرا “حاكورة” البيت.
غابا بين الحقول. أبقاها تنتظر، بينما تسلق شجرة تين باسقة تفرّعت أغصانها وظللت سقيفة قديمة، أومأت إليه الفتاة بإشارة من يدها، وهي ترقب الطريق. فشرع ينبش عشا للدبابير في أعلى الجدار… يشدّ إليه وتر القوس، يلقمه بالديدان ويعد الصغيرة بصيد وفير، ثم يخفيه بين الحشائش وأوراق “القريص” ويتوارى بين المروج.
يلمح أسراب العصافير وهي تقترب محلّقة فوق أشجار الخلاء، ويرسل ببصره ليلحق بفتاته، يحرسها عن بُعد، ويتبعها بفرح، وهي تطارد أفراخ الحجل المذعورة، بين السلاسل.
في المساء، برفقة البقية، تأخذه الحكاية من عينيها نحو ذؤابة الفانوس، وصوت الجدّة، وانبثاق قامتها المخيف، كلما رشحت به الظلال، حتى ينام.
في الصباح الباكر، توقظه الرائحة، يتسلل نحو “صينية القش” ليخطف كسرة خبز طازجة عن يمين الجدّة، كي يتقاسمها مع فتاته، ثم لا يفلح، يلسعهما صوت الجدّة المخنوق بتوعّد معتاد، يفرّان من أمامها حتى وسط الحاكورة. عند جذع الشجرة العجوز، وحين يهمد كل شيء، كعادة أبدية… يشرعان بالضحك.
“حلق النافذة الحجرية”
بلل الحنين، غمام النوافذ الموحشة، شواهد على قُبلات مؤجلة، ظلّتْ بيننا…
من بين فوضى فروع الياسمينة البريّة التي تشعّبت وتعرّجت على صدغ النافذة، كنتُ ألمح أثر إبتسامة عتيقة، وقُبلة، ذابت على فم اللوح الزجاجي الآن، بعد أن ظلّت عليه لثلاثين صيفا ونيّف، إمتزجت بكحل الجدّة ودمع الفتاه ذات نهار بعيد، بينما صوت الجدّة، يخرق ستر الصمت في الحاكورة، وبيت “العقد”، ويخرق ما تبقى من ستر القرية بأكملها: ” حفيدة شيطانة… الزينة وكحل النساء، ليس هذا وقتهما لصغيرة في عمرك… شيطانة” !!!
لم يكن قد تفشى الشوك هنا، أو تطاولت عليه عروق الياسمينة البرية، حين عاد الصبي بالقوس وكومة العصافير.
بين الشجرة الوحيدة الوارفة وبين زجاج النافذة المغسولة بالندى، تقاسما غلّة الصيّد مناصفة، والفتاه على وقع بهجتها، تَعِد: غداً، أنا من ستخطف لك الخبز في الصباح، أول الخبز… وقبل أن تفر الطيور بعطر الرائحة، أو يبرد على “صينية القش”… أعدُك.
في ذلك النهار البعيد، وفي صباح اليوم الذي تلاه، لم تحظ الفتاة برفقة صيد أخرى، ولم تتذوق الخبز أو “مناقيش الزعتر بالزيت” من طابون الجدّة… وظلّت مسمرة إلى حلق النافذة تقرفص فوق مصطبتها العريضة، سال الكحل وصبغ وجنتيها وفمها وهي تسحّ الدمع، كلما أفاقت من نوبات البكاء، نظرت عبر زجاجها نحو الحاكورة، لترى الفتى وهو حائر، يجلس إلى ظل الشجرة بقوسه، يحدّق صوبها، وحين تغلبه الشفقة، يتسلق أغصانها ويقترب من حلق النافذة، يسري عنها بحركات بهلوانية، أو يقلّد جدّهُ وهو يغافل الجميع بعكازه… تخرج الفتاة من نوبة البكاء بابتسامتها المبللة بالدمع والكحل، تطبع قبلة إمتنان على زجاج النافذة قبل أن تصفح الجدّة. ولم تعد تلك الصبية إلى أرفف الخوابي، بعد ذلك، كي تتزين، أو لتعبث بكحل الجدّة.
فقط بلل الحنين عاد يطرد غبش الفوضى عن غمام النوافذ الموحشة، فأرى الصبية بين بيّارات المنافي وقد كبرت، وأرى زجاج النافذة المكسور، وقد عاد شاهداً وحيداً علينا، وعلى قُبلات مؤجلة، ظلّتْ بيننا، سأمنح الآن نصفها للهواء، ونصفها الآخر لنافذة وحيدة، يمرُّ عليها الزمان ولا تشيخ…
” بوابة الرجوع”
كنتُ هناك، بين قريتي وبين “رام الله” … وعدتُ بلا تذكار!
تصادر الغربة تذكاراتك العتيقة عند بوابة الرجوع. تسلبك زجاجات عطر البيارات ومناديل عرق المتعبين من أهلك، وحفنة الرمل في (صُرَرْ ) الهدايا، وأيقونات رخيصة لجدّات رحلنّ بعيدا…
كيف كنتُ هناك، قريبا من هالة السماء، وكنتُ أخربش وأمحو لظنّي بأن سماء الأرض واحدة؟! كيف لمْ أمدّ يدي نحو حبل معلّق، بين غيمتين، أو بين “رام الله” وقريتي، لأخطف شالا مطرزاً، أو كوفيه!؟
كيف لم أنتبه للنقش إلا كتذكار وحيد، لا يفارق الأرض، وأكتفيت بلثمه؟!
قلتُ لها ببرود وأنا أحشر أطراف “الحاكورة” وغرف “العقد” في حقيبة السفر: في الغربة، لن يفرّق الناس بين السماوات؛ فطعم الهواء واحد… ولم أنتبه!!
وأفترقنا، تسامت هي كطيف على نيّة البقاء، عَبَرَ حلق النافذة، ثم تلاشى، وأنا عدتُ لجذع الشجرة على نية السفر.
اليوم وبعد ثلاثين صيفا ونيّف، تبدأ الزيارة، ومع إنتهاء الوقت، في هذا المكان… تنتهي.
ولا شيء يصلح للوداع.
بضع تذكارات في الحقيبة فقط، ونقش قديم ينز بالدمع، ترَكَتْهُ هي كتذكار، منذ زمن طويل، ولافته لمن سيأتي بعدها، للراحلين عن أصل المكان: ” في الغربة، طعم الهواء واحد، لكن ماء الأرض لن يرويك، وحبيبتك التي رحلتْ، ستظل عرق البال في الطريق…
أنا وأنتَ كنّا هنا، لكن، أية حكاية سنختار، وأي نقش لإسمينا سيحكي عن شريدين،
حطّا هنا… ثم تفرّقا؟
______________________________
* مجلة “مشارف مقدسية” العدد1