هواء جديد للمكتئبين


*بروين حبيب

ينصح الأطباء مرضاهم المكتئبين بالسفر، لأنه أكثر علاج لديه مفعول قوي على تقشير طبقات الحزن من على قلوبهم.

يقترح عليهم مدنا جميلة تناسبهم، وتناسب ميولهم، لأن أول عامل للإكتئاب هو المحيط وهذا يعني أنه عامل خارجي. بحيث يتعرض المريض للضغط يوميا، فيما يظن نفسه أقوى من غيره وأنه واع تماما لما يحدث له، وأن الأمور ستنصلح لحالها. ولكن في خضم دوامته تلك يأكل الحزن من معنوياته ويكبر ويتحوّل إلى وحش يبتلعه في النهاية.
وعادة لا يدرك المكتئب أنه فريسة إكتئاب، لأن أعراض مرضه تبدو مبهمة، كأن يقلق ليلا في ساعة معينة ويغادره النوم، ورغم عودته للنوم إلا أنه يستيقظ مفكّكًا في الصباح، منهكا تماما، يفترسه النعاس في كل لحظة.
البعض يعاني من أوجاع متنقلة، مرة في الظهر ومرة في الكتفين ومرة في المعدة وكل زياراته للأطباء تنتهي بنتيجة واحدة وهي أنه بخير وليس به شيء.
وسأتفق معكم أني لست طبيبة ولكن المثل يقول «إسأل مجرب ولا تسأل طبيب». والإكتئاب بسبب ضغط العمل، والبعد عن الدفء العائلي وأشياء أخرى مرتبطة بالبعد عن الوطن والتعامل مع أشكل وألوان من البشر، عشته بين فترات متقطعة. 
وسبحان الله يكفي أن أحزم حقيبتي وأملأها بالكتب التي أحب والموسيقى التي أعشق وأسطّر وجهتي نحو مكان هادئ لأعود منتعشة ومشحونة بالرغبة في العمل بروح جديدة.
المكتئب يقول: «إذا قشّرتُ بصلة فإنها هي من سيبكي».
يقول أيضا: «الإبتسامة تخفي كل شيء، حتى رغبتي في الموت» وهذه في الحقيقة صرخة المكتئب اللامباشرة بأنّه يتألّم. إذ من العادة أن المكتئب بدل أن يتفهم من حوله مرضه وتعبه، يصبحون العنصر الأول لتغذية آلامه، إمّا لأنهم يعتبرونه شخصا مدللاً يتذمّر من كل شيء حوله، أو أنهم يصنعون جحيمه حين يمطرونه بنصائح تزيد من حجم الضغوطات التي يعاني منها. 
فجأة يتحوّل الأصدقاء والأهل والمعارف إلى الطوق الذي يتقلّص حول عنقه ليصبح الأمر شبيها بالموت.
تحديدا إلى ما يشبه مشنقة.
يبحث المكتئب عن فسحة للرّاحة، يتمنى لو تخمد كل الأصوات حوله، وحين لا يستطيع إخمادها يلجأ للنوم، للعتمة، يهرب من مصادر النور لأنها مرتبطة بالضجة، يهرب إلى فراشه ويستسلم للنعاس الذي يتحوّل إلى مخدّر مؤقت…ولا يخطر بباله أن يخرج من تلك الدائرة التي تضيق حوله. 
والذهاب بعيدا ولو على بعد مسافة قصيرة لتجديد هواء الدّاخل لنفسٍ متعبة.
لعلّ أشهر شخص وجد حلاًّ سحريا لإكتئابه هو الفنان فان غوغ، حين توجه إلى اللاهوت ومساعدة الفلاحين والفقراء، ولكن مؤسسة اللاهوت لم تفهم زهده في الحياة وتنسكه وإهماله لمظهره فطردته فدخل نوبة إكتئاب أقوى.
داليدا هربت من الإكتئاب إلى الموت، وكان من حولها هم الذين دمروها شيئا فشيئا، إذ لم يمنحوها ما تريد، وفي الوقت نفسه ثابروا على تشويش مزاجها وفكرها وجعلها تنغمس في الحزن. طبعا لا يتوقف الجميع عن تبرئة أنفسهم وتوجيه أصابع الإتهام للمكتئب على أنه يبالغ حتى ينهار.
الكاتبة الشهيرة كي جي رولينغ صاحبة سلسلة «هاري بوتر» عانت من الإكتئاب الحاد، لكن الكتابة والعزلة قدما لها علاجا بين فترة وأخرى حتى أدركت إلى أين يمكنها التوجه وإيجاد راحة لنفسها.
جيم كاري الذي يُضحِك العالم بأسره، يتحدث في برنامج تلفزيوني عن إكتئابه الفظيع ويبدو الأمر غريبا فهذا الرجل قنبلة ضحك في أفلامه ومع هذا دمّرته أحزانه الداخلية. ويخضع لعلاج مستمر .
بيني وبينكم أظن أن سفرة هؤلاء لأي بلد عربي ستجعلهم يكتشفون النّعيم الذي يعيشون فيه، وربما أنجلينا جولي وجدت في أسفارها للبلدان التي تعاني من الحروب والمجاعات والكوارث الطبيعية ملاذا لتعبها النفسي، وتفاعلت مع المنكوبين في هذه البلدان بإيجابية مذهلة.
ليوناردو دي كابريو، ميل غيبسون، كاثرين زيتا جونز ومشاهير كثر من هوليوود يفصحون عن أمراضهم النفسية دون خوف من الآخر، ويكشفون عن الطرق التي ساعدتهم للعلاج.
الكاتب باولو كويلو، سواء أحبه النقاد العرب أو لم يحبوه، وسواء رضيت عليه نخبتنا الموقّرة أو لم ترض فهو رجل لا يخجل من معاناته ومرضه الذي أبقاه حبيس مستشفى للأمراض العقلية سنوات عدة.
ولعلّ أجمل ما فعله كويلو أنه حج مشيا على الأقدام نحو مقام قديس في كومبوستيلا، ما جعله يغير خطه الكتابي تماما وينحو منحى مختلفا، جاء إثره كتابه «الحج» وتلاه «الخيميائي» الذي غير حياته وجعله أهم كاتب في العالم ترجم لأكثر من ستين لغة.
أراهن أن الأماكن المغلقة والمحيط الذي يحيط بنا بتركيبته المعقدة من بشر ومبان وطقس، أسبابٌ أولى لتحطُّم الدّاخل المرهف للفنان والمبدع عموما، وأن الإنطلاق نحو وجهة أخرى بحثا عن السكينة النفسية حل ذكي لمن يعانون لوحدهم وسط ضجة الآخرين.
حتى الحكمة تقول: «أنت موجود طالما أنت واقف مكانك، لكنّك تعيش حياتك حين تسافر». 
هل أحثكم على السفر؟ 
نعم …
هل أسمع أصوات بعضكم على أن السفر غير ممكن للجميع؟ 
نعم أيضا …
السفر الذي أقصده ليس أن تحجز تذكرة «بيزنس كلاس» وتقيم في فندق خمس نجوم، وتختار عواصم باذخة في اقتناص الأثرياء.
السفر للوجهة الأخرى هو الذي يمسح أحزاننا …
والوجهة الأخرى هي ما تهواه النّفس. في أدغالنا المعتمة مكان لأنوار الروح، أراهن أن كل شخص يملكها، وبإمكانه أن يعثر على نفسه فيها.
هل تذكرون الآن قصّة ريمي التي كتبها الكاتب الفرنسي هيكتور مالو تحت عنوان «بدون عائلة»؟ تلك القصة فجّرت الكثير من الخيال وعشق السفر في ذاكرتي الصغيرة، كان سرد القصة بصوت أكثر من فخم للفنان الجميل وحيد جلال هدية سماوية لنا نحن أطفال تلك المرحلة. ورغم أن قصة ريمي لم تكن قصة فرح دائم لكنها قصة حياة، أسفار مستمرة لريمي مع العجوز فيتاليس، وقد سافرنا معهما ومع أفراد فرقتهما على مدى قرى كثيرة وحفظنا أغنية المسلسل الكرتوني ورددناها طويلا: «نقطع الدروب، نفرح القلوب ولنا في كل شارع صديق…». 
نمت الكلمات الجميلة في قلوبنا مثل أزهار الربيع…
لكن حتما كنا ننتمي لحقبة ذهبية صقلت أذواقنا، ووجهت ملكاتنا نحو الفن الراقي والأدب الراقي.
نحن جيل عرف جمال اللغة، وقيمة الأدب، ورقي الموسيقى والأصوات الرّائعة، هل تذكرون صوت سامي كلارك وهو يحولنا جميعا إلى مطربين لأنه غنى أغلب شارات مسلسلات الكرتون التي تابعناها؟ 
نعم أيها الغوالي أحيانا أحزم حقائبي وأسافر لأماكن هادئة ليرتاح رأسي، وأحيانا أسافر عبر الزمن إلى طفولتي الجميلة، إلى صباي، إلى أروع المحطات التي صقلت موهبتي، وهناك مع كثير من الحنين والفرح أسترجعني من جديد وأنطلق مجددا نحو أهدافي وكأني فراشة خرجت من شرنقة.
__________
شاعرة وإعلامية من البحرين/ القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *