*د. سعد خليل الجبوري
( ثقافات )
قراءة في رواية (ثلج القاهرة) للكاتبة لنا عبد الرحمن
بذكوريتنا المسيطرة على المجتمع بشكل عام والمجتمع الادبي تحديدا. افترضنا عدم تنافسية الانثى، ومنحناها مقاعد شرفية في كل الأجناس الادبية. واستأنسنا بها كحضور وكرمز ملهم للكتابة دون ان تصغي اذاننا الى ما تقول الانثى بشكل فعلي وحقيقي يليق بالمنافسة الشريفة ان صح التعبير او على الحد الادنى يليق بإلتفاتنا لها كأدب مجرد . فلم تتوقع ذكوريتنا المستبدة أن تتمكن الانثى من لمس مقاربة حقيقية وجديرة مع الإبداع .
باستثناء بعض الحالات النادرة . امثال: نازك الملائكة وغادة السمان ورضوى عاشور.. أو مسميات لا تعدو الكثير . لم نلمس في الادب النسائي والسردي تحديدا منافسة حقيقية وقدرة على التفوق على ذكورية الادب خلال العقود المنصرمة ، الا ان التغير الكبير بدأ يطرأ وتلتمس اثاره منذ 5-10 سنوات كتقدير اقصى وبدأنا نحن – مجتمع الذكور فكريا – نتوجس الخوف من انهيار العرش السلطوي .
على الرغم ان المسار التاريخي لتوثيق الادب او الادب المكتوب قد اسهمت فيه النساء اسهامات رائعة ومهمة وتكاد تكون اساسية. فمنذ 3000 ق. م. تخاطر اسم (سابيتو) الحكيمة التي تلقي المواعظ والعبر في اول نتاج ادبي منطقي – خارج النطاق اللاهوتي- شهده العالم – وأقصد (ملحمة كلكامش) – حيث مثلت حينا دور ساقية الحانة التي مثلت صوت الموعظة والحكمة الدائمة التي تأتي في وقتها للتائه والمتشتت بطل الملحمة (كلكامش) وأدت احيانا مهمة صوت النبوءات او العرافة التي يعتبرها كلكامش رسائل من الإلهة تمثل له الخطوط التي يجب ان يسير عليها في طريقه الى الخلود الذي حلم به دوما لكونها تقمصت دور زوجة الابن الاكبر للرجل الذي نجا واسرته من الطوفان (اتونابشتم) الذي منحته الإلهة الخلود تكريما له على افعاله العظيمة وشجاعته في النجاة من الطوفان الذي تسبب به غضب الإلهة على الجنس البشري وعزمهم على ابادته لكونه لا يستحق الحياة.
لتليها في حدود 2200 ق. م. كاهنة معبد الاله (سين) إله القمر الاكدي الجميلة (انخدوانا) برباعياتها الشعرية التي حملت الكثير من الحكمة والنبوءات – رباعيات تنبؤية .. لا تتساءل اذن من اين اتى (نوستراداموس) بفكرته خصوصا بعد معرفتنا انه اطلع على كل مؤلفات (التناخ) التي فيها اشارات عديدة وواضحة الى رباعيات وترانيم العرافة الاكدية بنت الملك سرجون او من اين فاضت بحور الحكمة الرباعية لدى (مولانا جلال الدين الرومي) فهو ابن نفس الارض-.
نعود لنقول برغم الاسهام النسائي الفذ في الادب الانساني عموما والعربي تحديدا .. بقيت الذكورية هي السمة الغالبة على الادب بشكل عام .. ان لم يكن على مستوى النص فعلى مستوى الارتقاء والتطوير البنيوي واللغوي والفكري ايضا حتى العقود الاخيرة .
وقد يعود السبب لعدم الجدية بتناول الطروحات النسائية الجريئة ، وهو امر متعلق بطبيعة تكوين المجتمعات العربية (الأمر لا يختلف كثيرا في المجتمعات الاخرى) والبناء النفسي للانسان الذي تأسس منذ قرون سبقت السمات الدينية التي نظمت الامر لا أكثر. او يكون السبب بسبب عدم جدية الطرح في حد ذاته في أغلب الحالات.
ان التقارب بين الأجناس الأدبية – والذي يعد سمة العصر الأدبية الجديدة – الذي بات يفترش المساحة الاكبر من خلال النصوص التي نطلع عليها يوميا عبر مصادرها المختلفة والانفجارية في الاونة الاخيرة . من خلال محاولات نجحت او فشلت في خلق اندماج بين جنسين او أكثر لخلق عمل ابداعي بجنس طاغ على الاخر او الخوض في مغامرة خلق جنس جديد وهي التي لم نلتمسها حتى الان بصورة حقيقية.
ولعل أكثر الاطر التي توضح هذا الاندماج الجميل والأكثر تكرار هو المزاوجة بين السرد والشعر والذي بدوره شيّأ الاحاسيس ، وخلق التزاوج الجميل بين وصفية السرد و تجريده وسمو الشعر ووجوديته – او عدميته بمعنى ادق – . وهذه الصفة هي الصفة الأبرز في الأدب العربي النسائي – إن جاز لنا ان نطلق هذه التسمية عليه -.
ويعرّف رومان جاكوبسون الوظيفة الشعرية على أنها : إسقاط مبدأ التعادل من محور الاختيار في محور التضام . حسب ترجمة الدكتور محمد عناني والذي أختلف معه في حرف الجر فقط. وعليه أرى ان الترجمة الادق لتعريف جاكوبسون للوظيفة الشعرية هي : اسقاط مبدأ التعادل من محور الاختيار (على) محور التضام او التجميع. وهي في النهاية عملية توازنية بحته بين semantics دلالة الالفاظ و Syntactic التراكبية اللفظية ضمن الاطار التداولي pragmatics المتجدد للمفردة والتركيبة في ان معا.
****
ولنوضح بعضا من هذه السمات (النسائية) في الادب بشكل عام وفي السرد – تحديدا الرواية- نتناول على سبيل المثال رواية (ثلج القاهرة) للكاتبة اللبنانية لنا عبد الرحمن .
وهي كاتبة وصحافية ، تقيم في مصر ،عضو نقابة الصحفيين واتحاد الصحفيين العرب وعضو نادي القصة .حصلت على على الماجستير في الدراسات الأدبية (قسم اللغة العربية). ونالت درجة الدكتوراة عن موضوع السيرة الذاتية في الرواية النسائية اللبنانية. و تعمل في الصحافة الثقافية. وثلج القاهرة هي الاصدار الاخير والرابع ضمن تصنيف الرواية لهذه الكاتبة صدرت عام 2013 عن افاق للنشر والتوزيع .
تتحدث الرواية عن قصة (بشرى) الشابة التي قدمت الى مصر بعد وفاة والدها الدمشقي مع والدتها المصرية التي ما لبثت ان فارقت الحياة بعد عودتهما الى القاهرة لتعيش ازمة نفسية تساعدها على تجاوزها (اسماء) قريبتها من بعيد و(العم نجيب) صديق العائلة المقرب ، تتعرف على (ناصر) وتتزوجه ثم ما تلبث ان تنفصل عنه وتحتفظ على علاقة صداقة متينة اقرب الى الحب مع (ناجي) المهندس والمصور كما وانها تشعر بالوصل مع صافي الطبيب الذي ترك الطب واتجه الى الفلسفة والذي يمد لها يد العون والرعاية في رحلتها الى دمشق لاكتشاف الذات .
وهناك قصة اخرى تجري وهي قصة (نورجهان) ذات السبعة عشر ربيعا والتي عاشت في قصر والدها على ضفاف النيل على بعد شارعين فقط من محل سكن (بشرى) ، التقت (نورجهان) بالامير التركي في رحلة على مركب قادها والدها (الاميرال البحري) لتتزوج من الامير وتذهب معه الى اسطنبول وتعود بعد برهة منهية الزواج وتتعرف على (يوسف) الطبيب الذي يمنحها معنى لحياتها ويملأها بالتفاصيل الجميلة. لكنها لا تستمر معه وتقرر رفض فكرة الهروب بعيدا والارتباط به بسبب عدم مشروعية ارتباطهما علنا كونه مسيحي .
تدخل (نورجهان) عالم (بشرى) المضطرب اساسا لتزيده ارباكا من خلال التقمص او التلبس ويبدأن معا رحلة البحث عن الذات ومعالجة المشاكل العالقة.
اسلوب السرد كان يدار باحترافية عالية وتمكن من تطويع الاداة اللغوية للتعبير عن الفكرة والفكرة المختفية ، بطريقة شاعرية تميل الى التعبير عن المشاعر والانفعالات الداخلية وعدم التركيز على الاوصاف الخارجية الا بالقدر المناسب والذي يسمح للقارئ برسم عالم الرواية وعيش احداثها.
ولنختصر الحديث عن سمات مهمة في هذا العمل خلقت هذا التميز والماهية الانثوية التي يطفح بها العمل على امتداد صفحاته التي قاربت المئتين ، اول هذه الصفات هي البراغماتية التي تؤدي الى خرق المألوف او التغريب ، في حين كانت السمة الثانية هي الثورة على التسلط الرجولي في مجال الادب والحياة بشكل عام من خلال اصرار النصوص على اعتماد اسلوب التبئر الداخلي الثابت كتعبير عن خصوصية الهوية ولاستخدام هذا التبئير كسلاح لمواجهة السلطوية التي يمارسها الرجل ، وثالث هذه الصفات كان الدمج بين الأجناس أو بمعنى ادق المزاوجة بين السرد والشعرية في النص موضع الاهتمام ، بالاضافة الى محاولة – قد تكون مصيبة – في محاولة فك شفرات الكاتبة التي زرعتها على طول النص.
البراغماتية وخرق المألوف:
لا نضيف الكثير اذا قلنا ان الرواية بمجملها اعتمدت على البراغماتية لخلق حبكتها وايصال رسالتها. فالشخصية الاولى في الرواية (بشرى) تحمل الكثير من الغرائبيات التي تبدو مألوفة للوهلة الاولى ، لكنها تنتمي للعالم الغرائبي بازدواجها مع (نورجهان) والتي هي اصلا (سولاي) وايضا في محاولة التحول الى شخصية كارتونية (animation) اسمتها (نور) (وهي الجنية التي تخرج من نبتة القرع وهي تمسك العصا السحرية) .. وانتقلت لتخلق عالمها الضبابي الذي لم تعن بوضع تفاصيل دقيقة له قدر اعتناءها بالتركيز على غرائبيته وسحره.
بدءا من ذكرياتها الاولى عن امها القاهرية التي عاشت في دمشق، وبرغم ثورية الانتقال من الصخب الى الهدوء ومن الاضواء الى الرتابة لكن الام احتفظت بصميم ثوريتها وهي اشياءها التي تمثلت بـ(عقد وقرط من حجر الزبرجد مشغول بالذهب ، أسورة ذهبية عريضة عليها نقوش فرعونية للإله حورس، سلسلة فضية فيها مفتاح الحياة.) مما يشير الى التأكيد على الانتماء وتمثيل الامتداد التاريخي .
وعندما (ترى قطرات من الدم تلوث سريرها) بسبب مشاهدتها للدم المتفدق من (نورجهان) هو اعلان عن غرائبية العالم الذي تعيشه وتداخل الواقع / المفترض مع الخيالية / الاصلية في النص لتندمج القصتان والعالمان.
ولتؤكد غرائبية العالم فقد خرقت مألوف السرد المكتوب او المسموع من خلال حكايات الجدات برحلتها الغير مجدية الى الشيخ الحكيم الساكن على سفح جبل قاسيون ، توقعت كقارئ ان اجد بعض الحلول مع البطلة التي احببتها وتفاعلت معها، فكل الرحلات نحو الحكماء الذين يسكنون سفوح الجبال تمنح الحلول دوما .. لكن الكاتبة لم تمنح القارئ فرصة الحدس لتتركه مندهشا بخرقها للمتوقع كعادتها طوال مسيرة النص.
وكذلك في بداية الفصل الثالث من الرواية حيث تدخل مجريات الاحداث شخصية صابر الدمنهوري الشاب/الشيخ . الذي ترواده الكوابيس وتزوره الاشباح دوما والمستسلم بنفس القدر من الرعب لحالته هذه وينتظر المصير/ الخلاص الوحيد من معاناته وهو الموت ، برغم انه كان باستطاعته اتخاذ هذه الخطوة منذ زمن.
كما ان حالة التقمص الروحي التي عبرت عنها الكاتبة والتي حدثت بين (بشرى) و(نورجهان) و(سولاي) ايضا طرحت بآلية غريبة .. فغالبا تكون رحلة الارواح صاحبة الجسد او الدخيلة منها مليئة بالاسئلة التي تبحث عن اجابات وهو النسق الذي استمر مع (بشرى) في حين اتت الغرائبية في معرفة (نورجهان) بما تفعل وقراءتها للاحداث بل وتدخلها لتغييرها في حياة (بشرى) وكأنها تحاول التعويض عن السلبية التي عاشتها في جسدها الاول.
وكذلك تستمر الغرائبية في نص الرواية وهي تطرح قصة الجدة حول الامير الذي ذهب الى جزيرة الجنيات ليبحث عن اميرته ورأى عجوزي المرآة والمغزل .. وتميل الى التصديق بتلك الحكاية/الخرافة والتعامل معها على اساس تساؤل يحمل في طياته الكثير من التوكيد الضمني من خلال وضعها بين اداتي الاستفهام (هل) و(أم) لنقع في حيرة الخيار بين الخرافة والخرافة.
برغم اقتراب حالة الشخصية (بشرى) المرضية من حالة الشخصية المزدوجة او المتعددة لأكون أكثر تحديدا (multiple personality disorder) الا انها بغرائبيتها التي جعلت المرض يفرض نفسه واقعا خلقت المزيد من التجديد والتحفيز لملاحقة عوالم الرواية.
حرصت الكاتبة دوما على هذا الدمج الغرائبي لتخبئ ما تريد ان تبوح به وتتركنا ننتبع فتات الخبز التي تلقيها على طول صفحات الرواية التي قاربت المئتين بدون ان تثير الريبة او تقلق احدا – وكأن اللذين يتوجب عليهم القلق يقرأون الروايات !!- ، وفي الوقت نفسه حرصت على استمرارنا في تتبع تلك الفتات بدون ملل او تبرم لاعتمادها على التقنية العالية في خلق العوالم الغرائبية وفتح الكثير من القصص وترك النهايات مفتوحة لنستمر نحن بالبحث بدورنا.
الثورة على التسلط من خلال الاعتماد دوما على التبئير الداخلي الثابت :
هذا المصطلح (واقصد التسلط) قديم جديد بمفهومه، تم تعريفه واعتماده اصطلاحا نقديا في نهايات القرن الثامن عشر عند نشوء حركة النقد وبدء تكامل مكوناتها في فرنسا. ان الاعتراف بهذا التسلط في حد ذاته هو ثورة عليه فتشخيص المشكلة نصف الحل كما هو متعارف عليه. لذلك لجأت الكاتبة الى الاعتماد على التبئير الداخلي الثابت على شخصياتها النسوية التي تفترش المساحة الاكبر من المكون الشخصاني للرواية للتأكيد على رغبتها عن التعبير عن مكونها (الانثوي) في ثورة على هذا التسلط وجعل (الانثى) هي المحرك الرئيس للاحداث وصانع المتغيرات بل وانها تعزي الفشل في تغيير او ادارة مجريات الحياة الى اسباب ذكورية دوما (محمود الرفاعي ، ناصر ، ناجي ، الامير التركي … الخ) ، بل وان الكاتبة وكأنها حرصت على منح الرجال قصص مبتورة بدون بدايات و/أو نهايات مثل (محيي ، عمو نجيب ، ناصر ، صافي ، علي ابن سميرة …. الخ) ،وتبرز هذه السمة في اماكن عدة من الروايات واقترح تناولها حسب الشخصيات في:
بشرى:
وهي الشخصية الرئيسية في الرواية والفاعل المنفذ في مجمل الاحداث المتعلقة بها، برغم تبادلها دور الفاعل المؤثر او المرسل مع (نورجهان) وقد مارست الكثير من التمرد على تلك السلطوية الذكورية في مواضع عديدة لتمنح نفسها مركزية دائرة السرد للتخلص من قيود الذكورة .
فمنها تركيزها على منح شخصية البطولة في حكايتها التي تركبها لصالح شركة الرسوم المتحركة التي تعمل بها ، اقول منحت البطولة الى الجنية (نور) ليكون (رام/الذكر) رفيقا لا أكثر، بل حتى ضمن تعدادها لقصص الرسوم المتحركة المحببة لها فقد ذكرت بياض الثلج وسندريلا وفلونة وسالي وساندبل . كلهن بطلات اناث كن فاعلات مؤثرات في سبيل الثورة على التسلط الذكوري مع الاشارة الذكية الى احتمالية ان سندريلا قد لا تكون طيبة لتنزع عنها السلبية التي تصارعها باعتبارها احدى بطلاتها.
فهي التي (اقترحت على ناجي ان يأكلا الفول على عربة في الشارع) برغم حداثة تجربتها في القاهرة وعمق تجربة الرجل / ناجي. وتوحي لنا بنوع من اللا مباشرة بأن ناجي يدخن معسل التفاح لانها تحب رائحته وحسب. وهي من يشتري الحلويات لتمنح ناجي برغبتها بعضا منها.
وحين جعلته مرتبكا ولا يعرف العيش – ربما – لأنه تعامل مع فيروز واغنيتها (ايه في امل) بسلبية التشغيل وحسب وتمنى وجود بشرى ليمارس فعل الغناء الايجابي والذي لن يكتمل الا بوجود القائد او الثائر (بشرى) . بل وان وجوده في حياتها ايضا مرتبط بالانثى (علا) ابنة اخته التي كانت سببا في تعارفهما. ومارست تلك السلطة من خلال استخدامها لادوات قديمة متوارثة (قلادة امها ذات الاحجار الكريمة الملونة) وحديثة ابتكرتها لقدرتها العالية على التنسيق بين الالوان تمثلت بثوبها الخريفي المصنوع من الكريب بالوانه الترابية ولتحقم قبضتها على مجريات الامور (وضعت حزاما عريضا عند خصرها ، فبانت تفاصيل الثوب أكثر جمالا على جسدها).
اما على اساس علاقتها بناصر فلم يكن يجمعهما سوى الرغبة وهي الحاجة الاساس للاستمرار في الحياة لا العاطفة التي هي الحاجة الحقيقية لخلق المجتمعات ، وكأنها تثور بحالتها هذه على الرعونة التي خلقت الحروب والجهل والامراض . لذلك يأتي طلاقها ثورة ضد الواقع الغير ملبي للطموحات ولا المشبع للحاجات.
علاقتها من ناصر لم تكن حب العمر ولم تكن تعرف ان ما يربطها بناجي هو الحب.
وحرصا منها على تبئيرها مجددا فقد ضبطت الزمن حسب الساعة الانثوية وتوقيتاتها الخاصة فتكرر الزمن (تسعة اشهر) ليفصل بين مجيئها القاهرة وموت امها وتكرر ايضا ليفصل بين موت امها ومقابلتها لناصر. وهو تاريخ ولادة اسماء (الانا الاخرى او الرابعة لبشرى) . وهي توحي بالفترة نفسها (تسعة اشهر) لأمد زواجها بناصر من خلال استعارتها لرمز الحمل لتحديد ذلك التوقيت. وهي تقريبا الفترة التي قضتها ايضا (نورجهان) في اسطنبول.
ان بشرى تعبر عن سلطويتها المعاكسة لسلطوية الرجل من خلال قولها ( هوايتي كانت إعادة تركيب حيوات البشر في مخيلتي لأرى كيف ستكون) وهو الاصرار على التبئير الذاتي والرغبة في احكام السيطرة على مجريات الامور وادارتها، والتبئير ايضا يبرز حين اسهبت فيه اثناء وصف مشهدها في الحمام او في حمام بيتهم / المطعم الدمشقي او الفندق او المقبرة .. الخ والذي اجادت فيه الكاتبة ربط عيوننا على تلاحق الكلمات وادخلتنا في خضم المشهد لنعيش الاحاسيس والحالات نفسها تقريبا. ربما يكون مرحلة فقدانها للسيطرة على اختيار المكان في مجيء صافي الى الاسكندرية واختباره لها كهدف رحلته الشخصية دون ابداء الاهتمام بموقع (بشرى) الجغرافي او الروحي منه ، لكنها ايضا نجحت في تبئير نفسها في مجريات الاحداث من خلال مشاركتها في هذه الرحلة وانسحابها في الوقت المناسب.
نورجهان :
الشخصية الثانية في الرواية والتي اتخذت اثناء الحدث دور الفاعل المؤثر او المرسل الذي يبدأ بادارة الامور والاحداث ، وحتى في مراحلها الاولى كانت تمارس السلبية المفرطة لترسيخ فكرة وجود السلطوية .
فهي تؤكد ثوريتها على الرجعية بقولها (ليس علينا النظر الى الوراء) وكأن هناك رسالة خفية يتم توجيهها من خلال السطور. واصرارها على مواصلة الثورة وان كان من خلال جسد اخر لانها تؤكد ان (ما قمت بإنجازه في حياتي الماضية في عمر نورجهان، لم يكن مكتملا ابدا …… لذا ستظل روحي تتعذب حتى القيام بما اراده القلب).
لذلك انتقمت من السكائر – الرمز الذكوري السائد – (كما لو انها تشعلها بقصد الاطفاء) للتعبير عن الملل والثورة من الرتابة التي اوقفت الحياة لدى (نورجهان) التي سعدت بانهاء حياتها عندما تلقت الطعنة في القلب من (صابر الدمنهوري) وكأنها مارست دور الفاعل المؤثر او المرسل عليه هو ايضا لتثور على تلك السلطوية الذكورية المفرطة التي دمرتها. لانها تعلم جيدا ان (هناك من يبدو انه الحاكم في الظاهر، لكن يوجد غيره من ينفذ مشيئات اخرى في السر) .
كانت (نورجهان) تمارس سلبيتها الثورية بتركها للامير التركي مطلق الحرية في ممارسة افعاله الذكورية الزوجية والتي تجاوبت معها عاطفيا بحكم المرض او بحكم الاصرار على السلبية الثورية المهم ان السببين يجتمعان على رغبة بالاستمرار كمركزا للاحداق والاهتمام.. هل توحي الكاتبة ان هذه السلبية مرضا يشل الجسد؟ ام انها كانت تطرح قضية في سياق تاريخي ؟.
اسماء :
الرديف او الانا الاخرى لـ(بشرى) ، والصحفية التي تتأرجح بين الاستسلام والثورة من خلال مقالاتها الصحفية او حتى من خلال ضربها للباب بقوة . بشرى هي ضحية التسلط الواقعي المفروض على الانثى ، فنصف تقاريرها التي تكتبها للجريدة يتم حذفها من قبل السلطة / ادارة الجريدة ، وهي تفصح قليلا عن الاسباب لتعميق الشعور بالمظلومية. وتميل الى عدم الثقة بالمجتمع / الذكر برغم ان الامر لا يأتي من عقدة نفسية ما . فهي جميلة وجسمها ممتلئ بالتفاصيل الانثوية وصحفية تمتلك الاحساس العالي والمرهف حتما بهموم الناس وربة منزل من الدرجة الاولى تجيد فنون الطبخ بفرح وغبطة وصديقة وفية وحنون تمارس غالبا دور الاخت الكبرى او الام البديلة مما يؤهلها للبدء بمنح المجتمع الثقة بحجة خلوها من اسباب العقد النفسية والاجتماعية.
ام بشرى / نبيلة :
الفنانة سابقا والزوجة فيما بعد والتي اخيرا استخرجت الذئبة من داخلها لتواجه الحياة ارملة واما لطفلة في بلد غريب / قريب ، كما وصمدت امام تحديات كبرى (انثوية ايضا) تمثلت بالجدة شامية واخيرا بالعمة سميرة.
لتمارس بعدها سلطتها على الرجال في عالمها الجديد / القديم والذي تمكث فيه قليلا قبل رحيلها الى العالم الاخر / موتها ، فتلجأ الى تسلطها على حلقة الرجال الذين تعاملت معهم ومنهم (عمو نجيب) من خلال توجيهه في وجهات عدة او على الاقل التعبير عن عدم الرضا التام بخياراته كحد ادنى من التمرد . (كويسة . بس محتاجة شوية توضيب) فيبدأ بالدفاع عن نفسه كمذنب لا كصديق قديم انجز للتو جميلا او معروفا بالارملة وابنتها. او حين (اعطت الحمال عشرة جنيهات) الذي دفع الحقائب امامها. دليلا على السلطة ايضا.
تركت (عمو نجيب) مطواعا لها على طول مسار رحلتها القصيرة للوفاة في مصر وهو الذي برر لها هذا التسلط باعترافه (كان يكفيني انها موجودة في الدنيا) وكأنها بوجودها تمنحه الرغبة او الشرعية للاستمرار في الحياة وهو ما نلحظ شبهه واقترابه من شخصية (ناجي) وان لم يصرح باعترافه الخاص حتى الصفحات الاخيرة. لذلك ارتضى قيامه بدور حافظ الارشيف والشاهد على الاحداث والاسرار التي كان يوشوش بها في اذن نبيلة ولم تبح بها بشرى/الكاتبة لانها لا تعرفها ببساطة.
وكذلك مارست نبيلة دورها السلطوي على محمود الرفاعي من خلال مطالبتها اخيرا بجهاز العرس الذي لم تحصل عليه حرصا منها في الحصول على الاهتمام والتواجد في مركز الاحداث لكن محمود عامل الثورة بسلبية وقام بمنح المال فقط ليمنحها حرية شكلية لن تستمع بها لانها ليست منتزعة ولذلك بدأ السرطان ينخر عظامه دلالة على نقل بؤرة الاهتمام الى اطراف اخرى فاعلة ومعاكسة للثورة على السلطوية وضد الرغبة في التبئير.
العمة سميرة :
والتي تسعى دوما للاستحواذ على الارث العائلي باعتبار نفسها خير من يحفظه ويدير الامور مع تغييب شديد للرجال . فهي تسعى لتزويج بشرى من احد اولادها – ليس مهما اي الاولاد او مدى رغبته او استعداده لهذا الزواج او عدمه – . او حين اصرارها على كسب رهانها امام المجتمع الذكوري من خلال حرصها على تأثيث بيتها الخاص او حتى من خلال الصراع الانثوي- الانثوي بينها وبين زوجة اخيها نبيلة حول ادارة شؤون المنزل الدمشقي والاحتفاظ باسرار المطبخ لتمنح نفسها حصانة المعرفة في موقفها المحرج كعانس في بيت اخيها وتحت رحمة كلام الناس و الصراع مع زوجة الاخ الغريبة.
الدمج بين الأجناس او بمعنى ادق المزاوجة بين السرد والشعرية :
وهو سمة مهمة على طول صفات الرواية فنرى البطلتين (بشرى ونورجهان) تتناوبان استخدام اللغة الشعرية والتعبير الوجداني عما هو واقعي واستخدام الفاظ تصب في الخانة الشعرية أكثر منها في جعبة السرد ، ويبدو ان نورجهان لها حصة الاسد بذلك برغم مشاركة بشرى المهمة لها وباقي الشخصيات . هذه الخاصية اسهمت في تعميق فكرة التغريب والخروج عن المألوف من خلال معاملة الواقع معاملة شعرية متخيلة، كما اسهمت ايضا في نصرة فكرة التركيز على الذات لمحاربة السلطوية من خلال الاستغراق بشعرية التعبير عن الاحاسيس والاختلاجات التي يعاني منها نساء الرواية وبطلاتها امام تجاهل – ربما عن قصد – للتفاعلات التي تحدث في كوامن رجال الرواية القلة.
ان استخدام الكاتبة لمفردات عدة تتسم بالشعرية له معانيه التي تنبئ بكاتبة متفردة الاسلوب عالية الحس ومتمكنة من تقنية الكتابة . تكتب لتمتع نفسها والقراء قبل كل شيء مثل مطرب ندي الصوت – او مطربة ان جاز التأنيث- . تتجلى الشعرية من خلال مفردات عدة نورد منها على سبيل المثال لا الحصر :
(القاهرة يغمرها الثلج .. وهي تركض على ارض مغطاة بالبياض ، ثم تأكل نتفا من الثلج ، فتتجمد ، وتصير تمثالا)
(الوقت ليل)
(وكما الماء سر الحياة ، هبة سماوية ….. )
(خواء بارد يلطمني على وجهي )
(نحن لا نملك مفاتيح اقدارنا … )
(ليل بنفسجي)
(مع يقين موجع ….)
(من قلب العدم ، تبدو الحقائق هشة …..)
(قطرات ندم على حصيرة مهترئة )
(نحن في اعماقنا نعرف كل الاشياء)
(هل القدر هو المرآة ….)
(الموت هو عالم الظلال …… )
(جسدها يتعذب …. )
(انا مجلرد صوت خافت في الفراغ الازلي ….. )
مع كثرة الامثلة التي تجنبتها لتجاوز الملل .. كانت الكاتبة تعالج من خلال شخصياتها الواقع بطريقة شعرية متخيلة كما وكررت مرارا ابيات لشعراء مشهورين ومقولات ذات وشي شعري شهيرة وكأن الشعر هو المنفذ الوحيد الى الراحة المبتغاة.
محاولة فك الرموز في رواية الكاتبة لنا عبد الرحمن (ثلج القاهرة)
اعترف ان الكاتبة اربكتنا حين جمعت أكثر من مستوى واحد للسرد في الرواية وطرحت أكثر من قصة وقضية رغبة منها في شمولية العمل وتعميم الرسالة او ربما كانت – حرفنة – منها لـ- سريلة – النص وتركه نصا مفتوحا متاحا لعدة مستويات من الفهم والاحساس . من خلال قراءتي للنص لمحت عدة زوايا حاولت الكاتبة التركيز عليها والخروج منها بافكار وطروحات وحلول محتملة للواقع.
الصراع الشخصي الداخلي بين (الانوات) المتعددة .
فأذا اعتمدنا (بشرى) كجسد و(روح) في ان معا فانها شهدت من الصراعات ما يعييها ويفوق تحملها الغرائبي على مسار الرواية ، فهي (بشرى) الانا الابرز ، الشابة التي تتوق للحرية والتلاعب بحيوات الناس وشخصيات رسومها المتحركة . انها تتمادى الى افتراض ان (سندريلا) لم تكن طيبة . او بالقاء اللوم دائما على الاخر وهو الذكر غالبا في مشكلات واقعها ، فهي لم تسع لخلق عاطفة بينها وبين (ناصر) كي تكتمل العلاقة الزوجية بينهما وسعت كما رغب (ناصر) – حسب قولها – الى الاعتماد على الرغبة وحسب كوشيجة تجمع الزوجين مما ادى الى انهيار الزواج وانطفاء الجذوة بسرعة كما اتقدت بسرعة ، وذلك حسب تصريح (الانا) الاخرى لها وهي اسماء التي وصفت علاقتهم بالماء والنار التي ما يلبث ان يبتلع كل منهما الاخر وتنطفئ نار الرغبة ، وذلك ما حدث بالضبط فـ(بشرى) لم ترتبط بـ(ناصر) الا لاشباع الرغبة بتصريح اسماء – المعتدلة نسبيا في اراءها – وهي الانا الثانية التي تعيشها البطلة في عالمها الواقعي بكل تفاصيلها الواقعية وانطباعاتها عن الاشخاص ، تبرز ايضا (الانا) الثالثة (نورجهان) والتي دخلت مجريات الاحداث من خلال التلبس في جسد (بشرى) وتبدأ ببث رؤاها واراءها وذكرياتها في مخيلة (بشرى) لتتحول من انا كامنة سلبية دوما ، وهو ما يمكن ان نعبر عنه بفترة بداية المراهقة والحيرة بين حرية الطفولة وقيود البلوغ وهي مرحلة خطرة في حياة كل شخص تكون مشبعة بالرؤى الرومانسية والعوالم المتخيلة كما فعلت (بشرى) حين استعادت كشف (نورجهان) التي عاشت اجواء القصور الحالمة والاضواء والحفلات والامراء الوسيمين ، مع التركيز على حب الامير لها وشوقه الدائم اليها ، ما اوصلنا الى هذه الرؤية هو الجهل او عدم الخبرة الذي تعاملت به (نورجهان) مع اميرها التركي فابتكرت مسألة المرض لتترك الامير يفعل ما انطبع في مخيلتها المراهقة من افعال وحركات ذكورية ولم تسمح لنفسها بالتدخل او التفاعل لانها ببساطة لا تعرف ليتكرر الامر نفسه مع (يوسف) الطبيب فلم تتطرق لتدخلها في الفعل الا من ناحية عيش الحلم الوردي ان صح التعبير والذي ما لبث ان تلاشى عند الوصول الى اول مواجهة لاتخاذ قرار حقيقي وجاد يتعلق بالارتباط او عدمه . ام اذا تكلمنا عن (سولاي) وهي الانا الابعد في مخيلة (بشرى) واعتبرتها جزءا من (نورجهان) المراهقة لا أكثر وهي الطفولة التي تتسم بالعبث وتكون اشبه بحياة الخجر وان من احبته (الطبيب العربي) لم يستطع ان يمنع الموت عنها لتموت الطفلة (سولاي) وتولد المراهقة (نورجهان). كما اسلفت ان التشخيص الطبي الدقيق لهذه الحالة هو (multiple personality disorder) وهي للاسف من أكثر الامراض النفسية انتشارا الا ان الظروف الاجتماعية والاعتبارات المتعارف عليها تعيق البوح دوما وتعيق تقدم الاشخاص في الحياة وهو ما خلق حالة التذبذب وعدم الثبات لدى البطلة التي نراها يوما تحلم ان تكون فتاة اعلانات لترتدي بعدها النقاب والحجاب وتسعى وراء الشيخ العربي ذا المال الوفير في شخصيتها (الانا) الخامسة (شهد). ومما يدعم وجهة النظر هذه هو البحث الدائم عن من يعالج هذه الحالة والاقتراب دوما من الطبيب باعتباره منقذا الا انه دوما كان يفشل في ايجاد علاج. فتكررت ثيمة الطبيب ثلاث مرات (الطبيب العربي ، والطبيب يوسف ، انتهاءا بالطبيب صافي) والذين خففوا من المعاناة ومنحوا خطوطا للعلاج لكنهم لم يتموا عملية العلاج لأسباب متنوعة . فبدأ سعي الشخصيات الى التوحد يأخذ منحى اخر ويتجه الى علاج من نوع روحي بزيارة الشيخ الحكيم او البحث عن العارف بالله او التحدث عن عربي وترديد ابيات الحلاج وابن الرومي.
ويتشابه النسق نفسه في قصة الام / نبيلة وكأن هذا هو الديدن التي تصر الكاتبة على فرضه على واقع الرواية . فنبيلة الفنانة المشهورة التي عاشت حياتها بالطول والعرض بشهادة (العم نجيب) برغم سكوته عن التفاصيل ، نقلتها الظروف الى دمشق زوجة لمحام فاشل لتلجأ الى الروحانيات في سبيل سعيها الدائب للحصول على الاطفال فتفشل الا في انجاب (بشرى) والتي تجرها من يدها لتعود بها الى القاهرة في رحلة كانت اهم غاياتها زيارة العارف بالله والموت بعدها .
الصراع الثقافي او الحضاري لترسيخ الاعتراف بوجود الانثى كعضو فاعل ومؤثر في المجتمع. مع التوكيد على وجوب المشاركة مع الرجل / الذكر كحل اوحد لاستمرار المجتمعات في التطور والبناء وان كل ما عداه هدم. وهو الصراع الذي اسلفنا ذكره بمنح الكاتبة الدور الفاعل والمؤثر لشخصيات الرواية من النساء في أغلب الرواية فـ(بشرى) هي من تقود (ناجي) وتقوم برحلتها وهي محرك الاحداث لتعثرها بصافي وهي المسبب والمنهي لرحلة الزواج القصيرة من ناصر. ونبيلة ايضا مارست دورها في السيطرة على محمود الرفاعي ونجيب . لكن كل ما حدث هو لتوكيد مكانتها وفاعليتها التشاركية مع الرجل كمشارك او قائد احيانا لا كتابع صامت.
الصراع التاريخي وازمة الهوية من خلال الاستعراض السردي للاحداث التي مرت على الامة العربية على مدار التاريخ بدءا من سولاي وانتهاءا ببشرى . وهي السمة التي اجتذبتني من خلال ملاحظة المسارات ودلالات المعاني والاسماء وبعض الجمل التي قد تبدو انها خارج المألوف او خارج سياق التطور الدرامي لواقعية العمل وكأنها تنثر فتات الخبز مجددا لتترك لنا متعة الاختيار.
واول الدلالات على هذا القصد هو مفتتح الرواية (الكون انسان كبير) والتي انتقتها الكاتبة من رسائل اخوان الصفا لتضع خطوتنا الاولى على الطريق الصحيح وكأنها تصرح ان الرواية محاولة لفهم الكون اولا والانسان ثانيا بحكم كونه جزئية من هذا الكون الكبير.
تبدأ بمعالجة الاثنية ومناقشة قصص الخلق من منظورها الخاص حتما .. فهي تصرح ان (الرغبة ) كانت في البداية تلاها محاولات التفكير بوجود الكائن الحي (الانسان) ومناقشة الخيارات السابقة ومحاولة تغيير بعض الوقائع (فبياض الثلج ليست بيضاء وسندريلا لم تكن طيبة ) ثم مرورا بـ(التتبع) .. (تتبع فكرة صغيرة عبرت ذهنها ) لتنتهي الى (احتضان الصور والحكايات الصغيرة وتحويلها الى واقع مرئي) .
وتتحدث بعدها عن العصور الاولى للخليقة ومنحتها اسم (سولاي) المأخوذ من الاسبانية (soledad) او الفرنسية (solie) وكلاهما بمعنى واحد وهو العزلة .. او اذا اضيفت لهم كلمة (ماري) لتصبح (ماري دي سولاي) لتشير الى السيدة مريم العذراء .. وهو اشارة واضحة للعزلة التي عاشتها الحضارات الاولى والتي لم تكشف عنها الكثير لكنها المحت الى اهم التغيرات التي حصلت في المنطقة عندما رافقت (الغجرية سولاي طبيبا عربيا .. لم يتمكن من ابقاءها على قيد الحياة) فالحضارة الاسلامية جاءت لترسخ وجودها بقوة وتمكنت من محي معالم الحضارات الاخرى او تذويبها اقصى حدود الذوبان في البوتقة الاسلامية.
بعدها تصل الى مرحلة قمة الحضارة الاسلامية – هنا يجب التفريق بين الحضارة العربية الاسلامية في الفترة الاموية والعباسية و الحضارة الاسلامية الشمولية التي حمل مشعلها العثمانيين – في شخصية (نورجهان) وهو اسم تركي معناه الحرفي (نور نصف الدنيا) وهو دلالة واضحة على هذه الحضارة التي عملت بالتعاون مع اختها (شاه ملك) / السلطة او الحكم مع توخي الدقة التاريخية في تنحي (نورجهان) الحضارة عن الواجهة بينما تستمر نجاحات (شاه ملك) . واخيرا تنتهي هذه الحياة بطعنة في القلب تلقتها – بل فرحت بها – من البواب (صابر الدمنهوري) والذي يفترض به صونها.
من ادلة هذه المرحلة المرض الذي الم بالحضارة (نورجهان) وجعلها جسدا مستباحا لشرعية الزوج الامير التركي وسط حلقات الدسائس والغموض التركية التي دارت في القصر وعجزها عن الانجاب في المحيط الغريب ليتم استبدالها باميرة تركية اخرى قادرة على الانجاب والاستمرار ، لكنها استعادت عافيتها عند عودتها الى مصر وهي اشارة جميلة ولفتة مهمة لعهد النهضة الذي قاده محمد علي باشا الكبير ومن تلاه. ووجود يوسف الطبيب – دلالة على الاهتمام بالاساليب العلمية وايضا على تمثيله دور المنقذ – والذي يشير الصليب المنقوش على زنده الى جيل مهم نقل الارث الحضاري العروبي والاسلامي وحافظ عليه حتى وان اضطرته الظروف الى المغادرة الى (المهجر) لكنه بقي يحمل هذا الارث الجميل الذي اثر وتأثر كثيرا في حركة الاستشراق التي تمثلت ب(صافي) الذي ترك الطب / علاج الحضارة . وبدأ يوغل في العمق بحثا عن الفلسفة.
في حين مثّل (الرفاعي) المسيرة الحديثة للنهضة العربية وبعث الحضارة باسرته التي شاركت في ميسلون وفي معارك فلسطين لينتقل هذا الجيل من مرحلة الفعل الواضح / النجارة الى مرحلة التوثيق والاحتفاظ بالذاكرة / المكتبة ، التي نهلت منها (بشرى) الكثير برغم ضيق الخيارات التي تشير الى انتقائية التثقيف التي كانت سائدة وقتها .
لتأتي الـ(بشرى) اخيرا نتيجة ارتباط حنون بين (الرفاعي) والـ(نبيلة) ، جيل الـ(بشرى) الذي نشأ في هذا الكنف الرائع حتى نخر السرطان عظام (الرفاعي) ليتولى رعاية (بشرى) الـ(نجيب) الذي يملك الكثير من القصص دوما ليحكيها .
ووصفت بدقة مراحل النضوج التاريخي لـ(بشرى) التي ورثت اشياء نبيلة العزيزة عليها ، بل وقامت بلبس قلادة الحياة دلالة على الاستمرار في المسيرة والنهج نفسه وان كان بطرق اخرى . فـ(بشرى) التي ارتبطت بـ(ناصر) لفترة لم تطل كثيرا لاشباع رغبة وطموح لا أكثر ، ثم انتقلت الى (ناجي) الذي تعايش مع (محيي) الذي (يأكل من طيبات الرزق بنهم) .. ووضحت مرحلة (ناجي) بالحيرة بين الحب واللاحب لكنه الاعتياد والتقارب الكبير، والتقدير والعرفان خصوصا وان لـ(ناجي) مميزات مهمة فهو (مهندس) ترك بقاياه في (الاسماعيلية) و(السويس) يرفض الفساد في العمل ويحب ان يصور المجتمع بواقعية . ينفصل عن (محيي) ليبدأ عملية البناء والنهوض بهمة عالية .
وجود (اسماء) المتعاونة المتذمرة القنوعة في النهاية دلالة على جيل يعمل وحسب ويفكر في حدود وقلق دوما .. و(شهد) الفتية المتذبذبة بين خيارات وكأنها تريد ان تصبح شيئا ما ولا تعرف كيف وهو ادق وصف للجيل (الرقمي) الجديد.
يمر ب(بشرى) ذلك القادم من خلف البحار (صافي) وتتأثر فيه ويؤثر في تكوينها بعد نقاشات طويلة منحتها الحرية والمزيد من الخلاصات والنتائح التي لم تجدها لدى فلسفة (الشيخ الحكيم) المبهمة والتي ازيحت عنها الهالة المحيطة بها في رحلة (بشرى) لاكتشاف الذات. لكنها في النهاية تتخذ مسارها الخاص الذي صنعته بنفسها من خلال الافادة من كل التجارب الاخرى وتنطلق في دراجتها الهوائية نحو مسارات جديدة.
________________
*روائي وشاعر وكاتب عراقي