غونتر غراس: أفول نجم…


*نبيل قديش

( ثقافات )

توفي الكاتب الألماني الشهير كونتر غراس صاحب “طبل الصفيح” في يوم حصاد كبير للموت. ورغم أن الأخير قد غَيّب معه في ذات اليوم 13 أفريل 2015 كلّ من الكاتب الإريغواياني إدواردو غاليانو والكاتب والناشر الفرنسيّ فرنسوا ماسبيرو فإن رحيله كان مدوّيا. غادر غراس العالم الذي كثيرا ما نعته بالمملّ والمقرف عن سنّ ناهزت السابعة والثمانين بأحد مستشفيات لوبيك، بعد رحلة طويلة من الكتابة والحرب والشهرة مخلّفا وراءه حسرة ولوعة على كاتب مخضرم ومثير للجدل إلى أبعد الحدود. 
كتب في ركن صغير تحت نافذة حجرة المعيشة.
في حوار أجرته معه الصحفية إليزابيث جفني قبل موته، ردّ الكاتب على سؤالها عن بداياته ككاتب بأنه وملَكته ترعرعا في أحضان الفقر. وقال بكل اعتزاز أنه نشأ في عائلة من الطبقة الوسطى الدنيئة كما عبّر عن ذلك بنفسه، وأضاف أنه لم يكن له سوى ركن قرب النافذة في غرفة المعيشة الوحيدة حيث كدّس كتبه وألوانه المائية. كان عليه تعلُّم الكتابة والرسم في حضن الضجيج والصخب وكان عليه أيضا تعلم إستيهام ما كان ينقصه ليواصل الإبداع. بعد سنين طويلة من ذلك الحرمان أصبح يجمع الحجرات. أعدّ لنفسه مكتبا في أربعة مواضع مختلفة خوفا من أن يعود الصبا البائس، بركن يتيم في حجرة صغيرة. 
كان في صغره كذابا عظيما ولحسن حظه كانت أمه تعشق كذبه.
وفي نفس السياق فاخر غراس بأنه كان كذابا عظيما في طفولته. ولحسن حظه كانت أمه تعشق كذبه مما جعله يبدع فيه. كانت تدعوه “بير جينيت”، كناية عن الشخصية الرئيسية في مسرحية الروائي النرويجي “هنريك إيبسان” التي كانت تتوخى الكذب من أجل الهروب من الواقع نحو الثروة والحب. كان يحكي لها وهو في سنّ العاشرة عن رحلات سيقومان بها إلى نابولي وأماكن أخرى، ويعدها بأشياء عجيبة. ثم صار يكتب تلك الأكاذيب، واستمر في تدوين أكاذيبه دون انقطاع. 
يقول غراس أن الحقيقة مقرفة ومملة، ولا بأس في منحها العون ببعض الأكاذيب. كان يعشق الأكاذيب الممتعة التي لا تؤذي أحدا، فهي رغم فظاعتها لا تؤثر فيما هو قائم بل تجمله وتجعله قابلا للإستساغة والهضم.
انتصر للحيوانات في كتاباته.
كثير هي كتبه التي تدور حول أحد الحيوانات مثل “الفأرة”، “السمك المفلطح”، “من يوميات حلزونة”، “سنوات الكلاب “. كتب عنها بقناعة أنه وبنو جنسه كتبوا بما يكفي عن البشر. فإذا كان العالم مزدحما بهم فهو مزدحم أيضا بالحيوانات والطيور والحشرات وغيرها. إنها هنا قبل أن يكونوا. وإذا كانت هي قد عاشت لملايين السنين واستطاع بعضها أن يغادر بنظافة( على حد تعبير غراس) دون أن يترك الشوائب والسموم، فإن الإنسان سيترك نفحة هائلة من السموم حين يأزف ميعاد رحيله، ولربما أفنى العالم وجعله يسقط على رأسه قبل يرحل. لقد عارض غراس النص التوراتي الذي أعطى درسا سيئا حين تبجّح بأن للإنسان اليد العليا على السمك والماشية وكل ما يزحف. وعلى الرغم من هيمنته على كلّ العالم فإنه لم يحقق سوى نتائج هزيلة. 
أدمن السياسة حتى النخاع…
لأن الكتّاب لا يعنون بحيواتهم الداخلية فقط وإنما بعملية الحياة اليومية أيضا كما اعتقد غراس دوما، فإنه انجرّ إلى ساحة السياسة طوعا وباكرا. يعتبر غراس أن الكتابة والرسم والسياسة مساع مستقلة، ولكل واحد منها كثافته الخاصّة به. فهو ينسجم معها وينهمك في الوقت نفسه في المجتمع الذي يعيش فيه، لذلك كانت كتاباته ورسومه مخلوطة بالسياسة سواء أراد لها ذلك أم لم يرد. يقول غراس أن السياسة تتسرّب إلى جميع جوانب الحياة بشكل أو بآخر. 
يُذكر أن غراس انتمى في شبابه إلى الشبيبة الهتلرية ثم شارك في الحرب العالمية الثانية في صفوف الجيش النازي الألماني. وقد قال معلقا بعد تلك التجربة أنه شفي من المخلفات الألمانية ما عدا اللغة و”أوشفيتز” أحد المعتقلات النازية التي أبيد فيها اليهود. لكن عقدة المحرقة لم تمنعه من مقارعة الإمبريالية والصهيونية دون هوادة. يحسب لغراس في هذا المجال العديد من المواقف الحديدية التي كلفته حملات تشويه وعداء، فهو الذي عارض بشدة الحملة العسكرية الأمريكية على العراق وطالب بتسليط عقوبات صارمة على إسرائيل بوصفها مالكة السلاح النووي الوحيد آنذاك في المنطقة وخطرا محدقا بالسلم العالمي، فلم يكن من الغريب أن تتهمه إسرائيل بالمعادي للسامية وتمنعه من زيارة أراضيها المحتلة بوصفه زائرا غير مرغوب فيه.
_________
* صحفي وروائي تونسي

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *