*مروان فارس
الشعر، في مذكرات صلاح ستيتيه، هو حال مغايرة لكتابة التاريخ. فأن نكتب التاريخ ما بين الوقت الذي ذهب والوقت الذي سوف يأتي، فهو صياغة اخرى لمفهوم الوقت، لمفهوم الزمن الذي كان، والزمن الذي سوف يكون. المهم ان الصياغة مغايرة. ففي علم المغايرة يتمثل الشعر، هذا الأمر حدث في الأدب، عربياً أكان أم فرنسياً.
الحدث الجديد يتراءى في بحيرة الذاكرة الصافية، صفاء الماء في الباروك وصفاء الابداعات في السياسة أو في استشراف الهنيهات، ضاربة في الضياع، أو مغمورة بالعاطفة الزاخرة على هذا المستوى. هنالك اعادة اعتبار لكل شيء لتصبح الذكريات حالاً في الشعر. وانما جوهر الشعر هو في صناعة الحال، بلغة غير اللغات المعهودة في قاموس الأدب، فنرى أن كتاب صلاح ستيتيه الجديد،
L’extravagance، انما هو كتاب يقع داخل الرؤيا، وإن كان كتاباً يقع داخل الذاكرة. فالرؤيا والذاكرة حالات في حالة واحدة، هي الشعر، يعني انتاج عالم جديد في علم الغرائب.
يقول الشاعر: “في هذا تتمثل سلطة اللغة الكبيرة. فهي متأكدة من ذاتها الى مستوى تتحقق فيه. إنها اتساع القبول بها، فهي تتخلى عن ذاتها الى حد القبول بما يصنع بها. إن اللغة هذه تترك لك الخيار للشغل داخلها، شرط ألا تتغير في جوهر حالتها. لذلك نرى أن اللغة الفرنسية التي تعامل معها الشاعر، هي أداة رحبة للاتصال بمتغيرات هذا الكون، عبر صياغته صياغة جديدة. فأهمّ عمل عند الشاعر هو صياغة اللغة مرةً أخرى. إن لغة بول فاليري وشاتوبريان ولامرتين، هي عند صلاح ستيتيه لغة أخرى. لذلك، أهمية الشعر عنده هي في الإضافة، لأن كل شيء قد قيل في الزمن الذي مضى. إن ما يقوله هو في الزمن الراهن، لم يقله أحد قبله. يقع الشعر، كما التذكر، في علم المجهول المعرفي، لأنه ماثل في المجهول اللغوي. لذلك أعتقد أن ذكريات صلاح ستيتيه هي حال في بحر المجهول، وإن كانت تروي حدثاً وقع ذات يوم في مكان، أو في التخيل. التخيل، عنده، شديد الوقع. إنه يخترق الواقع، في الراهن أو في الذاكرة، ليصنع منه حدثاً غريباً. هذا هو عنوان كتابه. الواقع يتحول غرابة، والغرابة هي واقع هذا العالم الذي يقطنه الشعر.
المدن، القرى، واتساع البلاد كلّها، والرجال، الملوك والرؤساء والنواب والمديرون. العالم المتمدّن، والعالم الذي يذهب الى المدنية، وغير ذلك كثير، تقع في مذكرات صلاح ستيتيه. إلا أنها كلها ليست إلا مقدمة لكتاب وحيد من كتبه، هو كتاب الشعر. فالقدرة على تحويل الاشياء هي قدرة مستحيلة، مما يضع النص العادي في حال غير عادية. التحويل هذا هو المطر الذي يأخذ التراب ويصنع منه زهرة أو حبة قمح تأكل منها العصافير.
“أتذكر حماسة السنوات ونقاءها في بيروت. أستعيد أوقات نزهاتنا في مدرسة الآداب حيث كانت تتلاقى في حواراتنا أفكار الالتقاء بين شجاعة الغرب وما كان يأخذنا اليه الشرق فنعود اليه باستمرار”. إن ما يميز بين الثقافة التي تندرج كتابة صلاح ستيتيه داخلها، هي تلك البحيرة التي يسبح فيها هو، ما بين الشرق والغرب. فاتصال الغرب بالشرق عنده ليس اتصالاً في اللغة فحسب، إنه اتصال في ما بعد اللغة، يعني في الشعر الذي يصنع اللغة. هذه الجدلية جزء من علم الغرابة الذي يتوطأ داخله الشعر.
في عملية الابداع الشعري، تحصل الرؤيا عند صلاح ستيتيه في محطة ما بعد الحداثة. إن هذه المحطة في الرحلة اللغوية تشكّل اضافة في التصور وفي الايقاع. ذلك لأن هنالك إيقاعاً داخلياً في الصورة الشعرية. هذا الإيقاع، إن حصل في اللغة، يخرج منها الى ما هو أبعد منها، مما يعني أن الشعر هو في الأبعد من التصور وفي الأبعد من التخيل، يحط في اللغة وهي ترحل من داخلها الى خارجها. في الرحلة هذه يكون شيء ما قد حصل عند المتلقي، هذا يعيد كتابة النص كما يرى، إليه هو:
في ما بعد الحداثة، الشعر لا علاقة للشاعر به وإن كان يشير اليه. في الحضارة الانسانية يسمى ذلك تنبوءاً، يعني اكتشافاً للعالم من جديد. العالم القديم يصبح عالماً جديداً، والاشارة الى كل ذلك، قد تأتي لمحاً أو بريقاً من التهاب. الساقية تعرف ذلك، وهي ترتقي الى الخصوبة التي تتفيأ عندها الأجنحة والطيور، كما يرى الى ذلك الشاعر سان جون برس.
في صحوة الذكريات ينهمر الوقت كما المطر من الزاوية الملتبسة في المعرفة الى زاوية الوضوح في كتابة الاشياء وإعادة الوقت مما قد مضى إلى ما سوف يأتي، فيصبح كتاب التذكّر كتاباً للمعرفة. صلاح ستيتيه، كما بنى صرحاً في كتابة الشعر، هو يعمّر صرحاً في إعادة صياغة الوقت والذكريات.
______
*النهار