*د. حسن مدن
أيجب أن يتألم الإنسان حين يحب؟ هل يمكن للحب أن يكون خالياً من الألم؟ أليس الحب مدعاة للسعادة والفرح وإشراقة الأمل؟ لماذا، إذاً، تقترن قصص الحب الكبرى بالمعاناة؟ لماذا يزداد ألم الإنسان كلما أوغل في الحب، كلما كان أكثر صدقاً في مشاعره؟
في روايته «على ضفة نهر بيديا جلستُ وبكيتْ» يتصدى باولو كويلهو لهذه العلاقة المحيرة بين مشاعر الحب ومعاناة الألم، مدققاً في الأسباب التي تجعل امرأة تتألم من أجل رجل، أو العكس أيضاً: أن يتألم رجل من أجل امرأة.
وهو يفعل ذلك بمعالجة روحانية شديدة الرهافة، ملاحظاً أنه ما من أحد منا إلا وانتابه في لحظة أو أخرى الإحساس بأنه يعاني من حب لا يستحق التعب من أجله، أو لشعوره بأنه يعطي أكثر مما يأخذ، أو أنه لا يستطيع فرض قاعدة على هذا الحب.
إننا نتألم دون حق، ذلك لأن بذرة تطورنا موجودة في الحب، وكلما أحببنا اقتربنا من التجربة الروحانية.. إن أولئك الذين اكتوت نفوسهم بنار الحب كانوا قادرين على استجلاب السعادة، لأن من يحب يتغلب على العالم دون خوف من أن يخسر شيئاً مهماً كان شأنه. الحب الحقيقي هو عملية عطاء كلي، كما يقول.
يذهب الكاتب بعيداً في وصف هذه الطاقة العاطفية النبيلة، أي الحب الذي هو برأيه «مليء بالفخاخ» وعندما يريد أن يظهر، «فإنه يظهر نوره تماماً، ولا يسمح لنا أن نرى الظلال التي يولدها هذا النور». وهو هنا يقدم نصيحة من ذهب، بأن نصغي للطفل الذي كناه في أحد الأيام، والذي استمر وجوده فينا، داعياً إيانا أن نعير اهتمامنا وانتباهنا لما يقوله لنا الطفل الذي ما زال يعيش في قلبنا، دون أن نخجل منه، ودون أن نجعله يخاف لأنه ترك وحيداً، ولنسمح له بأن يأخذ قليلاً بيده عنان حياتنا، بذلك نكون قد قدمنا لنا الغبطة التي يحتاجها حتى لو كان ذلك يعني أن نعمل بغير الطريقة التي اعتدنا عليها، حتى ولو بدا ذلك حماقة في عيون الآخرين.
يذكرنا الكاتب بجملة ذلك الرجل الذي تسلق أعلى قمم الجبال في بلاده التي تقول: «الحياة بلا مغامرة هي حياة مجردة من النعمة».
قريب من هذه الفكرة ما قرأته مرة من انه لا يوجد طريق مختصر إلى أي مكان يستحق عناء الذهاب اليه. وهو قول يمكن تعميم دلالته لتشمل أموراً كثيرة في هذه الحياة بينها السعي لتحقيق فكرة نبيلة أو هدف عظيم، كالحرية مثلاَ، ولكنه ينطبق بمقدار لا يقل على الحب نفسه، فهو لا يتحقق دون عناء ومكابدة.
دون الظفر بلحظة الحب المتوهج، المفعم بكل ما هو جميل ذلك المعراج الذي قد يطول أو يقصر من المعاناة وربما من الألم والحزن ومشاق الخيبات التي لابد منها فبل بلوغ غاية الحب، سواء كانت هذه الغاية شخصاً أو موضوعاً.
لعل باولو كويلهو هو نفسه القائل في رواية أخرى غير تلك المشار اليها أعلاه ما معناه بأن لحظة انبثاق الحب أشبه بانفجار نجم، قد يكفينا النور الناجم عن لحظة الانفجار تلك، إذا لم يقدر لهذا الحب أن يتحقق.
تأتي على الإنسان لحظة تغمره فيها مشاعر فياضة من البهجة والغبطة الآتية من الحب، يصبح من العسير عليه كتمانها أو مواراتها على الآخرين، بل لعل هؤلاء يبصرون آثارها في نظرة عينيه وبهجة روحه ونضارة وجهه. فيفتعل المناسبات عله يجد منفذاً، من خلاله، يبوح ببعض ما يغمره من أحاسيس.
كاتبي المفضل أنطوف تشيخوف، الخبير بخبايا النفس الإنسانية، كان أروع وأرهف من اهتم بمراقبة هذا النوع من التفاصيل في العديد من نصوصه المسرحية والقصصية، بينها على سبيل المثال ما حكاه في قصته: «سعادة» عن ذلك العامل البسيط الذي دوخ الحب رأسه فركب القطار الخطأ تاركاً معشوقته تسافر إلى الوجهة الأخرى التي كانا الاثنان يقصدانها لقضاء شهر العسل.
لكنه ذهب عميقاً وبعيداً في شرح هذه الفكرة في قصته الشهيرة: «السيدة صاحبة الكلب»، فلفرط السعادة التي انتابت ديمتري دميتريفيتش بطل القصة لأنه وقع في الحب، أمضته رغبة شديدة في أن يفضي لأحد ما بذكرياته عن الحب الذي وقع فيه.
لقد عرف الرجل نساء كثيرات قبل ذلك، ولكنه لم يحدث أن هام في حب إحداهن كما حدث مع تلك المرأة التي التقاها في مصيف على البحر الأسود قبل أن يفترق الاثنان كل إلى الجهة التي أتى منها، ولكن ذكرى المرأة لم تبارح خاطر الرجل، فما أن يصغي لأغنية عاطفية أو إلى عزف الأورغن في مطعم، أو تعول الريح في مدخنة المدفأة حتى تنبعث حية في الذاكرة.
كان الأمر فوق طاقته على التحمل، فالذكريات تحولت إلى أحلام، واختلط في خياله ما حدث بما سوف يكون، لم تعد المرأة تخطر له فحسب، بل كان طيفها يتبعه في كل مكان كالظل وتراقبه.
وعندما يغمض عينيه يراها أمامه واقفة، أجمل وأصبى وأرق مما كانت عليه. وهو أيضاً بدا لنفسه أفضل مما كان آنذاك.
باتت تتطلع إليه في المساء من خزانة الكتب ومن المدفأة ومن ركن الغرفة، وكان يسمع أنفاسها وحفيف ثيابها الرقيق، كان يريد، بل ويرغب بقوة، في أن يتحدث لأحدٍ عن حبه، أن “يشكي” له حاله، فيروي له ما حدث.
لكن المشكلة تكمن في أنه لم يجد من يتحدث معه، لم يكن بوسعه أن يفعل ذلك في البيت أو في البنك حيث يعمل، أو مع أحد من الجيران. ثم إنه إذا أراد أن يتحدث، فماذا عساه سيقول لمن سيتحدث معه، هل يقول له: إنني جننت بالحب، إن عقلي طار مع امرأة بعيدة رأيتها عندما كنت أقضي إجازتي عند البحر.
وحين أراد أن يفصح عن مكنونه وجد نفسه يقول كلاماً عاماً عن الحب، لم يلفت نظر أحد ولم يحل له مشكلة. كان يعاني من فرحه الغامض بأنه وقع في الحب، ومن حزنه وسهده لأن المرأة بعيدة عنه. كان يريد أن يتكلم فلربما كان في الكلام راحة.
هل حدث أن فاض الحب من دواخلكم، فأراد أن ينثر ياسمينه على المارة من حولكم، وودتم لو أن هذا الياسمين انثال عليهم، ليحسوا ببهجة الحب التي اجتاحت أفئدتكم، فحملكم هذا الحال على تذكر ذلك المقطع الساحر في قصيدة محمود درويش: «سماء منخفضة»، عن «حبٍ فقير، يُطيل التأمل في العابرين/ ويختار أصغرهم قمراً: انت في حاجةٍ لسماء اقل ارتفاعا / فكن صاحبي تتسع لأنانية اثنين لا يعرفان لمن يهديان زهورهما…/ ربما كان يقصدني، ربما كان يقصدنا دون أن ننتبه».
لكن يا لكآبة الساعة التي تنطفئ فيها شمعة الحب، وتخبو نار العاطفة، حين يتعين على المحب أن يتلمس طريقه في فجر الحياة البارد القاسي يود لو يشعلها، لذا يطلق أحد الكتاب هذا الدعاء المليء بالرجاء: «ساعدهم، يا الله، أن يشعلوها قبل أن ينقضي اليوم، ولا تدعهم يجلسون مرتعشين أمام الجمرات الميتة، إلى أن يحل الليل».
لكنه يسأل أيضاً: ما فائدة الموعظة؟ مَن ممن يحسون بتدفق الحب الغض في العروق يمكنه أن يتصور أن حبه يمكن أن يخبو ويضيع. الشاب في العشرين يعتقد بأن حبه بالتأكيد سيظل بمثل هذه الجنون عندما يبلغ الستين، لكنه يباغت بما يمكن أن نصفه بأوجاع خريف الحب، وهي أوجاع في الروح لا في الجسد.
والآم الجسد، مهما بلغت، تظل أخف وطأة من الآم الروح، يمكن للمسكنات أن تخفف من الأولى، لكن أين هي المسكنات التي تخفف آلام الروح، ومع ذلك فان طبيباً أمريكياً نشر بحثاً قال فيه انه قادر على علاج أحزان الحب بواسطة الأدوية.
الأمر في تقديره مرتبط بمعرفة ما الذي يحدث في الدماغ عندما يكون المرء سعيداً أو تعيساً في الحب، ويرى كذلك أن جميع أوجه حياتنا العاطفية على علاقة بنشاط الدماغ، والاختلافات في طريقتنا في الحب تتوقف على السمات البيولوجية الفردية، وبالتالي فان طريقة استجابة كل واحد للعلاج تختلف عن استجابة الآخر تبعا لحساسية أجهزته المختلفة من الدواء أو تجاهه.
يلاحظ الدارسون أن سلوك الواقعين في الحب أو العاشقين يظهر اختلافاً جوهرياً بين حالتين انفعاليتين باعثتين على الرضا والسعادة، تتصل الأولى بمرحلة الانجذاب وتعود الثانية إلى مرحلة التعلق.
في وضع الانجذاب فان المرء يكون في حالة انفعال شديد، ناتج عن بواعث نفسية وجسدية كتلك التي تحدثها الفيتامينات: نشاط زائد ونقص في الشهية، حيث يسكن المرء شعور بالحرية، بأن طاقته حرة، وانه مقبل على نوع من الاستكشاف قد يقوده إلى أكثر التصرفات قربا من الجنون.
أما مرحلة التعلق بالمحبوب فإنها تخلق حالة من الارتباط الشرطي كتلك التي يعرفها المدمنون على التدخين أو شرب القهوة مثلا، حيث لا يعود للمرء توازنه إلا برؤية المحبوب.
الباحثة منى فياض تشير إلى أن كل راشد يملك خزاناً من «الذاكرات» الانفعالية المتراكمة تضاف إلى الذاكرات الفطرية، وكلما امتلك الشخص ذاكرة سعيدة كان لديه الحظ في أن يعيش كل استثارة جديدة على شكل انفعال سعيد، حيث يتصل الحب في لحظات توهجه بهذه القابلية على استثارة هذا النوع من الانفعال.
_______
*جريدة عُمان