” أبو محجوب ” ..هل قتل عماد حجاج ؟؟




سامح المحاريق



   كنت قدمت للأردن بعد إنهاء دراستي الجامعية، دون معارف تقريبا، فقط صديق واحد من أيام الجامعة، استقبلني في المطار وكان يشكل مع أسرته الكريمة سندا حقيقيا لي، وبينما كنت أتنقل من شقة مستأجرة إلى أخرى، فإن عنواني الثابت الذي كنت أثبته على طلبات التوظيف كان عنوان منزله، وعلى الرغم من أن هذه الفترة كانت تتسم بموجات كآبة متتابعة، فإنني تمكنت من إنجاز قراءات كثيرة ومهمة، وكانت وسائل التسلية محدودة لأسباب تتعلق بالميزانية الشخصية، وكان شهر رمضان يمثل لي عاملا للقلق في تلك الفترة، فالجميع منشغلون ومنهمكون في ذاتهم إلى أبعد الحدود، ولذلك كنت أنهي العمل وأتوجه إلى المنزل لاستغرق في النوم، وفي الطريق كنت ألتقط عددا من جريدة الدستور لأطالع فقط الكاريكاتير اليومي لعماد حجاج، ومن ثم أنشغل بمشاهدة مسلسل الزيرسالم قبل أن أبدأ في برنامجي المسائي المحدود مع القراءة، وكنت شخصيا أحاول العثور على فتاة تشبه فرح بسيسو، بينما لم أنشغل وقتها بالأهم وهو البحث عن أبو محجوب.
أبو محجوب كان دليلي الشخصي لفهم الحياة في الأردن، تفكيك الشخصية الأردنية دون أن أضطر إلى ممارسة أي نوع من السياحة بين الطبقات، ومن خلاله تمكنت أن أخمن ما الذي يجري وراء الأبواب المغلقة في البيوت الصغيرة المتراصة في جبلي الجوفة والتاج، وأن أتفهم ايقاع الحياة في اللويبدة وجبل عمان، وأن أتعرف على مقطع عرضي لأفكار وهموم الرجل الذي يجلس جانبي في باص صويلح – رغدان دون أن أتبادل معه أي كلمة، صراع الأصالة والمعاصرة وأزمة الأرستقراطية التقليدية مع محدثي النعمة في عبدون ودير غبار دون أن أكون الشخص الذي يركض بجانبهم في الجيم الفاخر المزود بحمام السباحة، وبطبيعة الحال، لم أكن يوما لأتخيل بأنني سأقترب من عماد حجاج مبدع شخصية أبو محجوب لدرجة أن نصنف ضمن خانة غريبة من الصداقة والاحترام المتبادل.

شخصيتي من خلال الخلفية الاجتماعية أقرب إلى شخصية أبو محمد، رجل على قدر كبير من البراءة والمسالمة مع بعض من تصنع المكر أو القوة، وبقيت لبضعة أشهر أعايش أبو محمد دون أن أتعرف على مدى قربه العميق من عماد حجاج وصداقته الوطيدة به، بالمناسبة أنتظره شخصيا في المقهى حاليا بينما تتناقل أصابعي على لوحة المفاتيح، وأعني الصديق ناصر قمش الذي كان يشغل رئاسة تحرير أسبوعية الهلال في الوقت الذي دخلت فيه الجريدة لأول مرة، وهو الشخصية التي أوحت لعماد بأن يجعلها الصديق اللدود لأبو محجوب في رسوماته، وذلك حسب اعتراف عماد في وقت لاحق.”

كنت أعتقد أن تجربة الهلال ينقصها رسام كاريكاتير عبقري، فأنا إلى اليوم لا أعترف بصحيفة يومية أو أسبوعية لا تستطيع أن تكون منبرا لمجموعة من رسامي الكاريكاتير، فأنا تربيت على مجلتي روز اليوسف وصباح الخير، والكاريكاتير كان جزءا بالغ الأهمية في المجلتين الأسبوعيتين، ولكن ذلك أعزوه لمفارقة عجيبة في فن الكاريكاتير على المستوى الأردني، فأي مؤرخ للكاريكاتير العربي سيجد قامات لا يمكن تجاهلها من العاملين في الصحف الأردنية، الصغير والرفاعي وغرايبة، مع أن عدد الرسامين في الأردن شحيح للغاية، ولا يمكن مقارنته بمصر أو لبنان أو فلسطين أو سوريا، ولذلك فإنني قدرت الوضع، فالأفضل تجتذبهم الصحافة اليومية، ولا تتواجد مغامرات شابة يمكن أن ترفد الأسبوعيات بعطاء مقبول على مستوى الكاريكاتير.

بالاقتراب من شخصية قمش، بدأت أتعرف على أن علاقته بحجاج هي الأكثر ديمومة وصلابة بين جميع علاقاته الكثيرة، ومع ذلك فإن ناصر قام بتعريفي على العشرات من أصدقائه، ونخبة من ضمنهم تصنف من أصدقائي حاليا، دون أن أتمكن من اللقاء بعماد حجاج في أي مناسبة، وبصراحة كانت صورته المتجهمة التي يضعها في موقعه الإلكتروني لا تشجعني على طلب لقائه عن طريق صديقنا المشترك، إلا أنني كتبت عنه مادة شبه نقدية وشبه احتفائية جعلته يتصل بي ليشكرني بحرارة، وبعد عدة أشهر أصبحت ألتقيه من وقت لآخر، طبعا بوجود ناصر قمش، فعلى الرغم من العلاقة الطيبة إلا أنني لم نتواعد على اللقاء لاحتساء الشاي أو القهوة في أي وقت، وعلى الرغم من أنني أعرف تقريبا كيف يفضل جميع أصدقائي قهوتهم، بسكر أو بدونه، بوجه أو مغلية حتى تفقد معناها تماما، فإنني لا أعرف القهوة المفضلة لعماد!!

عرفت الكثير من الرسامين، ولكنني لم أشاهد سوى اثنين منهما أثناء عملية الرسم نفسها، الأول، المدرسة القائمة بذاتها جورج البهجوري، والثاني عماد حجاج، الاثنين يرسمان بطريقة كنت شاهدت بيكاسو في أحد الأفلام الوثائقية يتبعها، يمسكان بالقلم، في حالة جورج القلم الفلوماستر، وفي حالة حجاج قلم الكتروني، ومن ثم برشاقة مرهقة لأعصابي تبدأ الخطوط السريعة والرشيقة في التكامل مع بعضها البعض، في لحظات تكون بنية اللوحة الرئيسية قد اكتملت، هنا يأتي الفرق بين بهجوري وحجاج، وهو فرق خطير جدا، فبهجوري يمضي في نفس الطريقة لاستكمال التفاصيل، يتوقف أحيانا لثوان قليلة ليقارن بين ما يخطه وبين الوجه الذي يرسمه، فبهجوري مغرم برسم الوجوه على طريقته الخاصة، بينما يبدأ عماد حفلته الخاصة بالتفاصيل.

لا أحد يلم بالتفاصيل أكثر من عماد حجاج، لا أحد يستطيع مطاردتها أكثر منه، لا أحد يمكنه أن يستغرق في جدلية الالتقاط وإعادة الإنتاج بنفس طريقته، هنا لا ينصرف الحديث على الأردن، أو الرسامين العرب، ولكنه بالمطلق على جميع رسامي الكاريكاتير في أي مكان ووقت، يمكن أن يرى البعض أن هذه مبالغة تقوم على الصداقة التي تربطني بعماد، ولكن، ومع أنني غير مضطر لذلك، سأبين الأسباب التي تدفعني للقول بذلك:

 شغلني الكاريكاتير منذ طفولتي، واطلعت على كثير من التجارب، وكتبت لأسابيع حلقات عن رسامي الكاريكاتير في مختلف أنحاءالعالم من خلال جريدة الرأي، وكنت أقضي ساعات طويلة أتنقل بين تجارب الكاريكاتير المختلفة في ثقافات كثيرة، حتى أنني كنت أضطر لكتابة بعض العبارات في رسومات الكاريكاتير باللغة الفرنسية أو الألمانية، ومن ثم أذهب إلى ترجمة جوجل لأحصل على الترجمة الإنجليزية، للوصول إلى فهم أكثر دقة من ترجمتها إلى العربية مباشرة، وبالتالي، أعتقد أن شهادتي يعتد بها إلى حد كبير.

– على من يعترض على مقولتي في زخم تفاصيل اللوحة عند حجاج أن يثبت العكس.

لا أقلل بالطبع من مواهب عالمية وحتى عربية كبيرة مثل علي فرزات، وعلى المستوى التقني لمهارة الرسام نفسه، فهذه أصلا مسألة خلافية، وحتى على مستوى وعيه بالترميز السياسي وثقافته التاريخية والاجتماعية، أنا أتحدث عن مسألة ارتهان الرسام لعالمه اليومي والواقعي وقدرته على التعبير عنه، وأعتقد أن شخصية أبو محجوب تمكنت دائما من أن تكون النبض الأكثر حساسية ودقة لريختر التغيرات الأردنية في العقدين الأخيرين، شخصية استطاعت أن تشكل على طريقتها الكواليس الخاصة لكل المشاعر والمواقف التي شاغلت الأردنيين على مدى السنوات الأخيرة.

كنت أقدم عماد في ندوة بمؤسسة شومان بمناسبة عشرين عاما على شخصية أبو محجوب، ومع أنني متحيز لأبو محجوب لأسباب عاطفية ونفسية وحتى طبقية، فإن ثمة ما شغلني أثناء الحوار واحتفظت به لنفسي طويلا، ولم أشاركه مع عماد حتى في جلساتنا المطولة في مكتبه بالرأي، فإنا أعتقد اليوم أنه على الرغم مما حققه أبو محجوب لحجاج على مستوى الشهرة والاعتراف والمحبة، وعلى الرغم من وجود جملة من المستفيدين ماديا منه، وبالطبع عماد منهم، إلا أن عماد على المستوى الفني البحت هو ضحية أبو محجوب، فحضور الشخصية الكاريكاتيرية أغلق زاوية الرؤية على عماد الفنان والمفكر والناقد السياسي، وراء شخصية أبو محجوب توارت أعمال عماد العظيمة في الكاريكاتير السياسي وخاصة ما رسمه بعد سقوط بغداد 2003، ورسوماته في مرحلة الربيع العربي، عدا عن نقده الساخن للفساد والظلم بجميع أشكاله وتجلياته، أبو محجوب أعطى كثيرا لعماد، ولكنه أنتقم لنفسه بحقد جمل عربي، لقد قتله وتشفى فيه، الأساطير تقول أنه عندما يبتكر الفنان شخصية متخيلة فإنه يدخل في صراع معها، وليس ثمة صراع أكثر مرارة من الذي يعايشه عماد اليوم مع تمرد وتنمر أبو محجوب.

وجه من أزمة الصحافة الأردنية اليوم هو تغيب عماد حجاج عنها، فالخلاف على حجاج وأعماله، وصراعه الداخلي بين الاستجابة لمتطلبات الاحتشام النقدي في الصحافة الرسمية وشبه الرسمية، وبين الانحياز لما تجيش به الصدور وتنوء به الأكتاف لدى الملايين من عشاقه ومتابعيه، كل هذه الأسباب تجعله اليوم بعيدا عن المشهد، الرجل الذي استمر يأكل نفسه، بملايين أنصاف السجائر على الطريقة التي لاحظها موسى برهومة، وبالمناسبة، فاجأني عماد بتوقفه عن التدخين قبل فترة وأعطاني بصيصا من الأمل أن أحذو وراءه في هذه الخطوة، ذلك الرجل الذي بقي صامتا وهادئا ومؤدبا ومتوازنا من الخارج، كان يعيش من أجل فنه، مستأمنا على ملايين التفاصيل التي لا يريدها أن تضيع أثناء تفاعله الاجتماعي، على وعود فنية يجب عليه أن ينجزها للناس، عماد بابتسامته الهادئة والأبوية، تربى في بيت فيه كثير من الصرامة، ولذلك فإنه يعاني بصورة حادة من الانطوائية، فهو يعيش العالم الخارجي في حده الأدنى، بينما، في داخله كل أحياء عمان والزرقاء، عوادم السيارات وصوبات الفوجيكا، وروائح الشواء في الاحتفاءات الأسرية الصغيرة،دعاء الأمهات على سجادة الصلاة بمعدل في التوجيهي يمكن أن يجعل الابن يظفر بمقعد جامعي، الأب الذي يبحث عن كفيل ليتدبر قرضا من البنك، وفي قلبه تتسابق باصات عمان إربد، وتتصاعد العقد الدرامية في قصص الفتيات الباحثات عن الستر في ظل ظروف مجحفة وقاسية، والشباب الذي يبحث عن فرصة للعمل حتى لو كان في القصيم أو جيزان!!


* الإصلاح نيوز

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *