حظ الكاتب.. الخلود


د. سهير المصادفة *

       لن أنسى أبدًا ذلك اليوم الذى حصلت فيه على هدية ثمينة، كانت سلسلة ذهبية وبها يتألق اللون الفيروزى لجعران فرعونى كبير، أخذت أتأمله دون نهاية،
وعرفت فيما بعد أن الجعران كان تميمة حظ لدى الفراعنة أى أنها عمرها أكثر من سبعة آلاف عام. كان الفراعنة على حقِّ عندما اختاروا الجعران تحديدًا لجلب الحظ ودرء النحس والشر، فتأمل الجعران حين خروجه من الرمال الساكنة مع شروق الشمس ساحبًا خلفه كرات تحمل بذور بقائه هو معادل لتجديد الحياة إلى ما لا نهاية والاحتفاء بخروجها من السكون التام.ارتديت قلادتى بجعرانها المميز لسنواتٍ، ولم أصدق إطلاقًا أن للحظ تمائم، كنت أستمع أيضًا إلى مثلنا الشعبى الشهير «قيراط حظ ولا فدان شطارة» فأبتسم لأننى أنحاز إلى الشطارة ولا أحبُّ الانتظار، لماذا أنتظر حظى وأنا لدى فرصة لكى أصقل موهبتي؟ بل ربما أكون نلت حظى دُفعة واحدة منذ البداية لحظة أن وضع الله روحى على سنِّ قلمي. ولِم لا يكون هذا هو حظ الكاتب وبقية توابع عملية الكتابة مجرد تفاصيل، أعنى الشهرة أو الجوائز أو أرقام إعادة طبع غير مسبوقة لكتبه وبالتالى ثروة تحققها الكتابة. بنظرة سريعة على سيّر الكُتّاب نجد أن أكثرهم بقاء وخلودًا مات وهو يعانى من افتقاره للتحقق بشكلٍ أو بآخر، فلقد حُصرت رائعة الكاتب الروسى الشهير «بولجاكوف» رواية «المعلم ومارجريتا» سنوات «أنجزها عام 1940 ونُشرتْ عام 1967» أى أكثر من ربع القرن حتى تم اكتشافها وإعادة إحيائها ووضعها فى مكتبة العالم الخالدة، ومات «بيتهوفن» أعظم مؤلف موسيقى فى العالم وهو لا يجد ثمن صابونة يغتسل بها، واتهم الخليفة «المنصور» «ابن رشد» بالكفر والمروق وأحرق جميع مؤلفاته الفلسفية بل حظر بسببه الاشتغال بالفلسفة ما عدا الطب والفلك والرياضيات، ولكن الفيلسوف الأندلسى اتخذ طريقه إلى الخلود وصار أيقونة الغرب حتى إنهم أطلقوا اسمه على أحد كويكباتهم بعد اكتشافها، وعادت كتبه المحترقة لتمثل رافدًا عالميًّا بالغ الثراء وفقًا لمقولة «بولجاكوف» الخالدة: «إن المخطوطاتِ لا تحترق».
فى الواقع أظن أن الكاتب نال حظه كاملاً فى الوقت الذى خصّه الله بموهبة الكتابة، أما منجزه فهو مسئولية الآخرين، هو ليس مسئولاً عن تحقيق أى نجاح لكتابه، وإنما من المفترض أن تكون مسئولية صناعات إبداعية وثقافية آن الأوان أن يتعرف عليها ويمتهنها العالم العربي. وهكذا فكتابة عمل جيد يُعتبر حظًّا وافرًا، والشدو ببيت شعريّ واحد يعلن عن ميلاد شاعر هو حظ قبيلة أو مجتمع بأسره وليس حظا للشاعر وحده، ولقد كانت الأعراب تذبح الذبائح وتولم للفقراء وتقيم الأفراح إذا ما ولد لديها شاعرٌ. هل لذلك كان العائد المادى الباهظ عن حقوق التأليف دائمًا ما يحظى به ورثة المؤلف؟ لقد ابتسمتْ الكاتبة الإنجليزية الشهيرة «دوريس ليسنج» وهى تجلس على سُلم بيتها مرتدية ملابس بسيطة بعد عودتها من جولة فى السوق لشراء احتياجاتها لتجد الصحفيين يسألونها عن شعورها بعد حصولها على جائزة نوبل، وكأن لسان حالها يقول مع هذه الابتسامة: وماذا أفعل بكل هذه الشهرة وهذه الأموال وأنا أقترب من التسعين من عمرى الآن؟ أما بيتهوفن فحقوق ملكية دقائق معدودة من سيمفونياته على الهواتف المحمولة فقط قد يساوى رأس مال كلّ صناعة الصابون فى العالم بأسره.
اختارت الأساطير الإغريقية كعادتها آلهة للحظ تُدعى «فورتونا»، ومثلوها بامرأة تُدير دولاب يجلب الحظ السيئ أو الحسن، وأحيانًا أخرى مثلوها بامرأة تُمسك بدفة سفينة فى إشارة واضحة على قدرتها على تسيير حياة الناس. ألمح ظلال هذه الأسطورة فى الأوقات التى أتأمل فيها مشوارى الإبداعى أو تاريخ المبدعين الكبار، أتوقف عند موقف بعينه وأقول: وماذا إذا وجد هذا العبقرى مَن يدعمه حتى تحظى البشرية بالمزيد من مؤلفاته؟ لكننى سرعان ما أكتشف أن قوس هذا المؤلف مغلقٌ هكذا، وأنه لربما إذا توافرت له الشهرة والأموال لما أبدع ما أبدع ولتشتت اهتماماته بعبء ثروة عليه إنفاقها. ظلّ السؤال يلحُّ عليَّ بشدة وأنا أتأمل حياة النابغة صاحب رائعة «شخصية مصر» الدكتور «جمال حمدان»، لكن فيما عدا حنقى من حادثة وفاته التى تم إثبات أنها بفعل فاعل وأن الصهاينة وراءها، لم أندم أبدًا على عدم دعمه وتركه لخياره الذى دافع عنه بشراسة ليحقق حالة زهدٍ تامة فى المناصب وكل متاع الدنيا ليقدم للمكتبة العالمية وليست العربية وحدها رفًّا متينًا خالدًا من المؤلفات المبهرة.
أيضًا سألت نفسى السؤال نفسه عندما تأملت محطات حياة شاعر العامية المؤسس وملهمها «بيرم التونسي»، هل إذا وجد الدعم والاستقرار الذى ظل يحلم بهما لأنتج أكثر مما ترك؟ فى الواقع إرث «بيرم التونسي» يدعو للدهشة فى ظل سنوات طويلة من التشرد والفقر والنفى ولا يخفى على أى باحث أن كلَّ ذلك شكَّل لمشروعه الشعرى مصدرًا من مصادر الإلهام لا يُستهان به. بل إذا تأملنا التاريخ قليلاً لوجدنا أن معظم مَن حازوا أرفع التكريمات وتحققوا فى سن مبكرة جدًّا توقفوا عن الإبداع بشكلٍ مفاجئ وغير مفهوم. وإذا اجتهدنا فى التخمين بعض الشيء سنقترب من السبب الحقيقى والوحيد ألا وهو اكتمال رسالتهم الإبداعية وإغلاق قوس موهبتهم عند هذا الحدِّ… فذات فجرٍ نهض «بوشكين» شاعر روسيا الأشهر وأمير شعرائها ومؤسس اللغة الروسية الحديثة وذهب إلى مبارزة عبثية دفاعًا عن شرف زوجته وشرفه مات على إثرها وهو فى الثامنة والثلاثين. وألقى الشاعر الفرنسى المعجزة «رامبو» دفاتره الشعرية التى هزت صالونات باريس فى سبعينيات القرن التاسع عشر، وهجر كتابة الشعر الذى بدأ تأليفه فى السادسة عشرة بعد حوالى ثلاث سنوات، أى أنه كان لم يتجاوز بعدُ العشرين من عمره، ثم سافر إلى أفريقيا ليتاجر فى السلاح والعبيد ليموت قبل أن يتجاوز السابعة والثلاثين، تاركًا للرفِّ الشعرى العالمى سؤالاً شائكًا عن الكتابة ونصيب الكاتب من الحياة ونصيبه من المجد بالإضافة إلى جوهرته الشعرية المميزة «فصلٌ فى الجحيم». كما أن الأديبة الإنجليزية الشهيرة «فيرجينيا وولف» صاحبة تيار الوعى وأحد أهم رموز الحداثة فى القرن العشرين، ارتدت معطفها ووضعت فى جيوبه حجارة ثقيلة وسارت بهدوء إلى نهر «أوس» القريب من منزلها وأغرقت نفسها فيه خوفًا من مداهمة المرض العقلى الذى كانت مصابة به.
حين ألح الجوع على «بيرم التونسي» فى غربته بباريس وأحاط به الصقيع لم يجد حوله غير بصلة وقاموس فأحرق القاموس ليشوى البصلة، ما أقرب ذلك إلى مشروع الكتابة عند الكاتب، ذلك أن الكاتب المحدث هو مَن ينجح فى الإبقاء على جذوة جمرته مشتعلة حتى وإن أحرق القاموس الذى يستند إليه لاعتقاده وإيمانه أنه سيعوضه بقاموسه الخاص.
وحدها عربات الملوك تمضى دون أن تعير اهتمامًا لما تخلفه من غبار خلفها، فالكاتب المنذور لا يعنيه مِن فعل الكتابة غير أن يمضى قدمًا ليبلغ غايته ويُبلغ رسالته، ولم يعرف الكائن البشرى مهنة تدعو إلى الغبطة والحسد أكثر من الكتابة، وكم من الملوك والرؤساء والحكام حاولوا جهدهم أن يخلدوا أسماءهم عبر الكتابة وكأنهم يدركون أن المُلك لا يكفى للخلود.. وفى حين أن الفلاح مثلاً يثخن جلدة الأرض حرثًا فإن الريح والمطر يقومان بالدور نفسه دون أن ينتظرا حصادًا، وهكذا هو الكاتب المنذور لا ينتظر حظًا من فواتير أو مكافآت مادية كانت أو معنوية بل ليس لديه الوقت لذلك على كل حال.
والواقع أن التاريخ أثبت لنا ومازال يثبت أن المؤمن بنبل وجسامة رسالته ومسئوليته الإبداعية يُكافئ دومًا ببذخ حتى ولو بعد حين، فكم من كاتب حقيقى منذور عاش يتمنى حبة عنبٍ وحين مات وضعوا عراجين من العنب على شاهدة قبره، أظن أن مكافأة الكاتب الحقيقى الوحيدة المضمونة هى الخلود.
حين حصل ديوانى الثانى «فتاةٌ تجرِّبُ حتفهَا» على جائزة من الشارقة وطُبع هناك كجزء من الجائزة، فرحتُ واعتبرتُ أننى نلت حظى مضاعفًا، وحين حققت روايتى الأولى أصداء قوية بين المتابعين والمبدعين والنقاد كدتُ أطير فرحًا حتى قبل أن تحظى بجائزة أفضل رواية لعام 2005 من اتحاد كُتَّاب مصر، ولكننى توقفت بعدها لثلاث سنوات قبل أن أنطلق لكتابة «ميس إيجيبت» و«رحلة الضباع» و«ميراث الجنون». الآن أتابع أيضًا بفرحة توزيع رواياتى الأخيرة الجيد فى طبعاتها الجديدة، ولكننى كبرت إلى حدِّ وضع مسافة بين شعورى بالفرحة وبين الاستمرار فى الكتابة، أصبح كلّ ما يعنينى الآن هو إنجاز الكتاب دون مشاعر أخرى قادرة على التشويش على الكتابة.
إذا كان الكاتب الكبير «عباس محمود العقاد» قد كتب: «لست أهوى القراءة لأكتب، ولا أهوى القراءة لأزداد عمرًا فى تقدير الحساب، وإنما أهوى القراءة لأن عندى حياة واحدة فى هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني، ولا تحرك كل ما فى ضميرى من بواعث الحركة، والقراءة دون غيرها هى التى تعطينى أكثر من حياة واحدة فى مدى عمر الإنسان الواحد، لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق، وإن كانت لا تطيلها بمقادير الحساب. لا أحب الكتب لأننى زاهد فى الحياة، ولكننى أحب الكتب لأن حياة واحدة لا تكفيني».

فإذا كان هذا ما يخص القارئ فما بالنا بالمبدع الذى حباه الله موهبة إبداع حيواتٍ موازية! إنه فكرة الحظ فى أكثر حالاتها نقاء. الآن أكتب روايتى الخامسة، أمضى مسحورة مع شخوصها، وأثناء نمو أبطالى وفقدانى السيطرة عليهم أحيانًا واندهاشى من المسارات التى يقترحونها للسرد، أبتسم وأضحك وأبكى بحرقة لحظة انتهاء حياة أحدهم، وأتنفس بعمقٍ وأنا أضع نقطة النهاية، وأشعر براحة تبليغ الرسالة. أظن أن هذه المتعة الروحية هى حظى ككاتبة، أظن أن هذا هو حظ الكاتب من الحياة.

* أديبة من مصر
( الأهرام )

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *