د.إبراهيم خليل
يستهلُّ الكاتبُ أحمد فراس الطراونة روايته التاريخية «وادي الصفصافة» (الآن ناشرون وموزعون، عمّان، ط3، 2015) بمشهد بانورامي تعلو فيه الزغاريد استقبالاً، واحتفاءً، بعودة أحمد، أحد أبناء القرية التي تجري فيها معظم متواليات الحكاية، من اسْطنبول بعْد دراستهِ الطبَّ هناك، وزواجهِ منْ فتاةٍ تركيَّة (حشمت)، ولكن هذا العائد، هو وزوجته، يكتشفان، بعودتهما، ما لمْ يكن في الحسبان، فقد توفّيَ أبوه في أثناء غيابه، واجتماع أهل القرية فرحاً بقدومهِ تشوبه مشاعرُ الحزْن، والحسْرَة، فقد « كان والدكَ رحمة الله عليه يتمنّى أنْ يشوفك طبيب» (ص11).
أما الأمّ، فقد أصبحت على مشارف العمر، بعد أنْ أبلت رواءَها الشيخوخة، والتقدم في السن، ونخرَتْ عافيَتَها الأوجاع، وهي لا تفتأ تتذكر الراحل الفقيد، والجدَّة، ولا تفتأ تتذكَّرُ سنةَ «الهيَّة» (وهي التعبيرُ الذي يُطلقُ على الانتفاضة، أو الثورة، التي شهدتها الكرك، وعموم مناطق الجنوب ضد الأتراك الاتحاديّين عام 1910): «سامحَكِ الله يا والدتي. ويش جاب هالحكي على بالكي آخِر هالليل؟» (ص11).
فهي ترْوي ما كان من جدته التي راحتْ تركض وسط الناس بحثاً عن جده، بَيْن المساجين، أما حشمت، فراحت تتفقد أروقة الببيت المعتق بالحزن، وترقبُ خيالاتِ الأرواح المُدلّاةَ من شقوقِ السَقْف (ص12). ويقرأ القارئ نحو 196 صفحة من الرواية قبل أنْ يكتشف أنَّ الطبيب أحمد هو الذي يروي الحكاية. ففي لحظة مكاشفة يروي له عمّه الحاج أحداث الثورة: «راح يُسْرجُ خيل ذاكرته ليبدأ حكايته التي لا يملّ سردها. آه يا ابن أخوي. يا ليته ما اختارني. وليتني ما رُحْت. لكنّ حظي رَدي. سبحان الله!» (ص199)، فهو يروي له حكاية حسن، وبدر، وشاهر، وحسين، وعوض، والحاجّة خضرا، وقلْبِ الدلال.. وتحريم القهوة (ص201).
ويبدو المؤلف في حكايته هذه ملتزماً التزاماً شديداً بما يذْكره المؤرخون عن تلك الثورة، فقد مهَّد لها بإشارات للتذمُّر الذي أبداه بعض الأهالي مما سمعوه من أخبار عن حوادث حوران، وجبل العرب، مشيراً في الأثناء لبعض الشيوخ مثل (أبو محمد) و(حسين) و(حسن) و(سالم) والزعيم (بدر) الذي شاعت أخبارهُ، وانتشرت انتشار النار في الهشيم (ص22). وبدرٌ هذا كان يتزعم تحالفاً بين (الشراقا) و(الغرابا) هدفه الاستعداد للتصدي (ص23). ولأن الحوادث تنذر بالكثير من المَخاطر التي ينبغي الإعداد لمواجهتها قبل أن تقع الفأس بالرأس، فإنَّ الاستعداد لا يحتملُ التأجيل، ولا التراخي «العسكر كل يوم في قرية، وما بَخبّي عليكو. جاني مرسال مستعْجَل من بدر، ودّو يشوفني اليوم قبل بُكْرَة» (ص35).
ولهذا، فإنَّ الحصول على السلاح، استعداداً لأي طارئ، يبدو أمراً ملحاً في رأي حسن، (ص36) في وقتٍ لا تفتأُ تتوالى فيه على مسامع أهل القرية أنباءُ المجازر التي ينفذها سامي باشا الفاروقي، وجندهُ، في حوران (ص37). فأخبار حوران، التي ينقلها سالم، لا تسرُّ عدواً، ولا تثلجُ صَدْر صديق (ص41).
في الأثناء، يبدو الحديثُ عن حكاية الثأر الذي يتهدَّد الطبيب (أحمد) من الأحداث الجانبية التي لا أثر لها في نسيج الحبْكةِ التاريخيَّة. ولكن هذه الحكاية توجع رأس الطبيب العائد حديثاً من تركيا إلى قريته، منتظراً أن يظفر بوظيفة في مستشفى الكرك الحكومي. وفيما كانت الوقائع تجري في حوران، وأخبار التذمُّر تتوالى على الباب العالي عن طريق سامي باشا، عُهد إلى هذا الأخير بالاحتياط، والحذر، والاستعداد للإجهاز على أيّ تمرُّد، ولا بأسَ في أنْ يقومَ -مع ذلك- بإجراء بعْض الإصْلاحاتِ نَظراً للحاجَة (ص56).
وقد تبيّن أنَّ هذه الاصلاحاتِ لا تعدو أنْ تكون مزيداً من التجسُّس على الأهالي، ومزيداً من التسلط، الذي يتصفُ به متصرّف الكرك محمَّد طاهر (ص61)، ومزيداً من التنكيل الذي يتراءى في اقتحاماتٍ مُباغتةٍ للقرى، في مَظْهَر ينمُّ على اسْتعراض القوَّة، والتلويح باسْتخدامِها عنْدَ الضَرورَة.
ويضبطُ المؤلفُ أحداثَ روايته على إيقاع يوازن فيه بين حذَر الأهالي، ولا سيما الشبان المتحمِّسين منهم، والإجراءات المتوالية للدولة، فقد أبلغ المتصرِّفُ بعض وجوه العشائر في اجتماع طارئ -دعا له- أنَّ الدولة تنوي جمْع السلاح المتوافر لدى بعض الناس، وإخضاع المُعارضين. وقد سارع، وبادَرَ لتأييده في هذا بعض الوجوه، منهم: الشيخ نايف: «اسْمعوا يا كركيّة. أنا وعشيرتي بنشدّ على إيد الدولة. ويا ريت تبدأ التحرير من عرَبْنا. وهذا فرْدي (مسدسي) بَحطُّة تحْتَ تصرُّفكَ يا بيك» (ص79).
أما حسن، فيرد عليه في الاجتماع رداً لا يُعْجب المُتصرّف: «تسرَّعت يا شيخ». وأما الشيخ عطا، فيتهم الشيخ نايف، كما يتهم المتصرف، بتأييد الدولة في ما تقوم به من تسلُّط، وما تمارسُه ضدّ الأهالي منْ ظلمٍ وتعسُّف (ص80).
وتتبلوَرُ فكرةُ الثورةِ على الأتراك الاتحاديِّين، فيلتفتُ الراوي مباشرةً للزعيم (بدر) وزوجته (رجوى) ولعلاقاتهِ بكلٍّ منْ حسن، وعلي (ص91) وعدَدٍ غير قليل من المتنوِّرين، الذين يتابعون، بقلقٍ، أنباء التعزيزات، والحشود العسكرية، ويبدؤون التخطيط للانتفاضة: «والله، يا رجل، إني بَخطِّط لهذي الثورة، وبرْسُم لها من زمان. خلّونا نحكي بجرأة وصراحة. ونعْرف منْ معنا.. ومن ضدّنا. خلونا نعرف قوّتنا، وعدَدْنا.. وعُدّتنا. خلونا نعْرف عدونا منْ صديقنا» (95).
ويلتفتُ الراوي، انسجاماً مع هذا الطَّرْح، للطَّرَف الآخر، فمنْ هُمْ الأعداء؟ شاكر بيك، والمتصرّف، وجابر أفندي ، وشطير، ونقولا، وجموعُ الجُنْد، والموظَّفون. فجابر أفندي، وهو من أهالي البلد، يقول لمن يعتزم الثورة على الدولة العليّة ما يأتي: «هذه دولة إسلامية بصرف النظر عن حكامها. وإذا بتقوموا في وجْهها ذنْبٌ كبير. وداعٍ من دواعي فرقة الأمَّة. هذا الكلام رايحين تتذكَّروه. أنا بعرف إنه الدولة بتتْهالك، وضعيفة، لكن مهما كانت ضعيفة، رايحة تقوى، وتستعيد اللي راح منها، وتستعيد مَجْدها، وإذا تحكَّم فيها هذا الوقت زمرةٌ ضعيفَةٌ، وغير عربيِّة، رايحة تزول، ويزول معها ظُلمها، واحنا المسلمين نصْبُر لغاية ما يزول الظلم أفضل من تقسيم دولتنا بين عربٍ وتُرْك وأرْمَن، وبكرة بيْن فلان وعلان» (ص114).
في المقابل؛ ما الذي يريده زعماء الثورة من بدر إلى علي وإلى حسن وسواهم من الشباب المتحمس؟ يقول حسن رداً على جابر أفندي، وآرائه: «نريد دولة إسلامية، عربية، حقيقية، لا دولة مَهْزومَة، وضعيفة مثل هذي الدولة اللي بتحاول إقناعي فيها» (ص114)، وزيادة على ذلك يتّهمُه بأنه «عثمانيّ الهوى» (ص116) وأما الزعيم بدر، فرأيه في الأتراك يتلخَّصُ في أنهم «حراميّة. اللي عندة نعجة بسجلوا عنده عشْرَة، واللي عمْرُه عشر سنين بسجلوه عشرين، واللي عمره خمسين بسجلوه ثلاثين، كلُّه عشان الخدمة العسكرية» (ص118).
وفي ذروة الإحساس بالخطر، جراء الإجراءات المتَّبَعَة في تقييد النفوس، وإحْصاء الحلال، والغِلال، يقسمُ الشبان قسمَ الثورة (الهيَّة): «نقسم بالله أن نموتَ مدافعين عن حريتنا، وكرامتنا، واللهُ على ما نقولُ شهيد» (ص119)، ويبدأ الإعدادُ للثورة.
في موازاة ذلك، يبذلُ جابر أفندى، وشاكر بيك، والمتصرِّف محمد طاهر، قصارى ما يستطيعون لتفريق الأهالي، بعضُهم عن بعض، وحشْد العَساكر لقمْع الثوْرة، وبثّ الدعاية المضادة التي تقوم على فكرة تحريم الخروج على السلطان، ووليِّ الأمْر، من جهة، وبثِّ اليأس في النفوس، من جهةٍ أخْرى، على أساس أنَّ الثوار لا قِبَلَ لهُم بمواجَهةِ الدوْلة العَليّة العثمانيَّة، وجيوشها الجرّارَة، التي فعلتِ الكثير في سهْل حوران حينَ ثار، وفرَّقتْ جموع المتمرِّدين فيه، و»لعنَتْ والديهم» (ص138). وما هي إلا بضْعَة أيام حتى كان جابر أفندي، وصالح، يقْرعانِ بابَ المتصرِّف، ويطلبان مقابلته على عَجَل، ليبلغاه بنوايا الثوار: «بدر وجماعته»، فجابر أفندي، الذي يتمتَّعُ بامْتيازاتٍ، حريصٌ حرصاً شديداً على مَنْع الانتفاضة، واندلاع الثورة، بأيِّ ثمَن (ص 148-149).
وكما توقّع جابر، وصالح تماماً، اندلعتِ الانْتفاضة، وتعالتْ في فضاء المدينة صيحة «الله أكبر!» (ص161) التي ردَّدْتها حناجر بدر، وحسن، وشاهر، وحمود، وآخرين.. مما ألجأ الحامية العسكرية التركية للتحصُّن في القلعة، وإلى المُناوَرَة، والتماس الهُدْنة. ولم تكن الهدنة هدنة حقيقيَّة، فهي مكيدةٌ كانَ الهدفُ منها الانتظار ريثما تصل التعزيزات من الشام. وقد ارتكبت التعزيزات مجازرَ في عدَدٍ من القرى، منها قرْية (العراق)، ثم حلَّ عيدُ الأضْحى، فهدْنة أخرى، وسقطت الثلوج، وتمكنت كثرة العسكريّين العثمانيّين من التغلُّب على الثورة؛ فقُتلَ منْ قتلَ، واعتُقل من اعتقل، وأُعدم لاحقاً من أعْدمَ، ونُهبَت مَتاجرُ، وأُحرقتْ منازلُ، وَخَلَّفتْ هذه الأحداثُ الكثير من الذكريات الحزينة، والمؤلمَة.
لهذا، فإنَّ الراوي لا يجافي الحقائق عندما يقول على لسان الحاجّ: «من هناك، من تحتِ هالتلّة، انسرقتْ الفرْحة، وغابتْ الحياة، لكنَّ أرواحهم للحين بتراقب كلّ شيء، ما غابوا أبَد. أنا بتذكَّرْهم مع كلِّ فجر، ومع كلِّ صباحٍ جديد» (ص199).
وهكذا، تنتهي حكاية وادي الصفصافة بمتوالياتٍ سرديّةٍ تروي ما جرى من محاكماتٍ صُوريّة أُعدم فيها نيفٌ ومائة مناضل، وحُكم على أخرين بالحبْس المؤبد، وصدرت أحكامٌ غيابيَّة على آخرين. وانهالتْ التهم على كثيرين منهم بالعمالة للإنجليز تارة، وللأميركيّين تارة، وللاثنيْن تاراتٍ أخَرَ، ورُويت رواياتٌ غامِضَة غيْرُ مؤكَّدة عن مصير بدر، فقيل قتلوهُ، وقيل سمَّموهُ. وبذلك تتضحُ دواعي الترحيب الذي لقيَه مُعْلن الثورة العربيَّة الكبْرى شريف مكة الحسين بن علي لدى قبائل بني صخر، والحويطات، وبني عطيّة، فانضموا للثورة بعد سنواتٍ عشْرٍ من تلك الهَيّة بلا تردُّد.
***
على الرغم من أنَّ «وادي الصفصافة» هي الرواية الأولى للكاتب أحمد الطراونة، إلا أنَّ قدراته على السرد التاريخيّ المُكثف قدراتٌ لا تحيط بها شُكوك، ولا تساور القارئ أدنى ريبَةٍ في أن لديه قدماً ثابتة في كتابة الرواية. وقد هيمنتْ على استراتيجيات القصّ لديه فكرة تقديم الحدث على غيره من أركان الرواية.
فالمتوالياتُ السردية حول الحوادث المُطردَة التي سبقت (الهيَّة) بما فيها من مجازر راح ضحيَّتها المئات من عرَبِ حوران، وجبل الدروز، ومن مناطق مأدبا وبني حميدة، وغيرها.. لمْ يكن التركيز عليها إلا مسْعىً منْهُ لحَفْز القارئ، وتهيئتهِ، لتقبل الوقائع اللاحقة. يضافُ إلى ذلك إسرافه في التركيز على ممارسات الأتراك الاتحاديين في الولايات التابعة للدولة العثمانية الآيلة للسقوط من خلال الإشارات المتكرّرة لنهْب الغلال، ومصادَرَة السلاح، وتقييد النفوس، تمهيداً لجمْع الشبان، ومن تنطبق عليهم شروط التجنيد، لإرسالهم لحروبٍ لا ناقة لهُم فيها، ولا جمل. وإلقاؤه الضوءَ على بعض ولاة العثمانيين من أمثال: إسماعيل باشا، وسامي باشا الفاروقي، وبعض عملائهم من أمثال جابر أفندي، وشاكر بيك، وغيرهما، يَمْنحُ القارئ مسوغاً لتوقع ما جرى على أيدي بدر، وجماعتهِ من الثوار المتحمسين لنبذ التسلُّط، ورفض الهيْمنة العثمانية على مُقدَّراتِ البلاد، والعباد.
هذه الاستراتيجياتُ المُتبعة في السرد شغلت المؤلف عن الالتفات إلى عناصرَ أخرى، ربَّما تحظى بالأهمية الروائية التي تستحقُّ الانتباه في رواية تاريخية جيدة كهذه. فهو -على سبيل المثال- لا يُعنى كثيراً برسم ملامح الشخوص رسماً يُشعر القارئ العادي، لا المتخصِّص وَحْدهُ، بحضورها في فضاء النص، وعلى العكس من ذلك، يُشعرنا بالحضور الهامشي لمبدأ التشخيص (characterization) في الرواية، وبسبب ذلك، لا يستطيع هذا القارئ أن يفرق بين بدر -مثلاً- وحسن، إلا بصعوبة، أو بين حسن وعلي، أو عوض، وغيرهم من الشخصيات. ولا يستطيع أيضاً التفريق بين والدة الطبيب أحمد مثلاً، وخضرا، أو بين رجوى، ومريم، وحشمت التي تنحدِرُ من عائلة تركية. والسبَبُ راجعٌ إلى تعامل الكاتب مع هذه الشخصيات بوصفها أسماءً لشخوصٍ لا يؤدون أدواراً بارزةً في الحوادث.
وحتى الزعيم الذي حظيَ بهذا اللقب، الذي لا يخلو من دلالاتٍ تُسْبغها عليه الثقافة الشعبيَّةُ في بلاد الشام بصفةٍ عامّة، لا يَعْرفُ عنه القارئ طوال المدة الزمنية التي تستغرقها الرواية سوى أنه رافضٌ للسيطرة، والتعَسُّف التركي الاتحاديّ، وأنهُ عاشقٌ للحرية، والكرامة، ويخطّطُ للثورة، منْذ زمَن، ويشترط لنجاحِها معرفة العدوِّ من الصَديق، وتوفير السلاح بأيِّ ثمن. وهذه الظلال، والإيحاءاتُ، التي تحيط بشخصية بدر تحيط هي نفسُها بشخصياتٍ أخْرى، مثل: حسن، وعلي، ولهذا؛ فإن القارئ العاديِّ عاجزٌ عن التفريق بين هاتيك الشخصيِّات، مما يُقْصي عن الرواية اكتمالَها منَ الجانبِ التشخيصيِّ.
لقد أبدى الكاتبُ حرْصاً شديداً على اتساق الحوادثِ معَ الزَمَن، أو المدَّة، التي تستغرقُها الرواية، وتستغرقها (هيَّة الكرك) إلا أنه لجأ -مع ذلك- لتقنية سرديَّة وُفّق فيها إلى حدٍّ ما. فالعتبَةُ التي استهلَّ بها الحكايَة (عودة أحمد) توحي للقارئ بأنَّ الزمن الذي تجري فيه رواية الأحداث، ومن ثمّ كتابتها، زمنٌ متأخرٌ عن زمن وقوعها بعْضَ التأخير. ومن الجائز أنْ يكون بعد انتهاء الحرْب العالميَّة الأولى، أو أكثر، وبعد زوال الإمبراطورية العثمانيَّة، وقد لمَّح إلى ذلك في أثناءِ الحديث عن وفاة والدهِ، وعن شيخوخة الأمّ، وعن رحيل الكثير من الأهالي للعالم الآخر بسبَبِ الأحْداث، وبسبب التقدُّم في السنّ.
وفي الفصل العاشر يتضح للمتلقي، وضوحاً مباشراً، أنَّ الراوي الحقيقي للأحداث هو أحدُ شيوخ القرية، وأنَّ أحمد لا يتعدى كونه المروي له، أوْ عليْهِ، فهو بالنسبة للقارئ راوٍ من الدرَجَة الثانية، فقد اسْتمَعَ للحكاية من أوَّلها إلى آخرها من ذلك الحاج الذي دعاه فاستجاب للدعوة، وأسْرَجَ خيْل ذاكرته وشرَعَ يَحْكي متأنّيا في ما يرْويه (ص197).
وهذا لا يعْني أنَّ سرْدَهُ للحوادث، والوقائع، سردٌ تقليديٌ، تتوالى فيه المُجْرياتُ وفقاً لدوْرة عقاربِ الساعَة، إذ تخللت الرواية تقاطعاتٌ، ووقفاتٌ، واسترجاعاتٌ قليلة تبدّدُ السأم الذي يُشْعرنا به السرد المتتابع (chronicle narration)، فقد لجأ لوسائط غير سردية؛ كالتوقف لدى حلُم تارة (ص27) أو كابوس (ص101)، أو التوقف عند مشهد بانورامي لزفافٍ على الطريقة البدويِّة المعروفة (ص70)، أوْ وصول مسافر قادماً منْ حوران حاملاً أخباراً غير سارّة (ص41)، أو الإشارة، من حينٍ لآخر، لحكاية الثأر الذي قيلَ إنه يتهدد الطبيب أحمد، ولهذا عليه أن يكون حذراً (ص29)، أو مشهد مفاجئ يلاحق فيه أحد أفراد الجَنْدِرْمَة امرأةً، فتثور ثائرة الأهالي (ص85)، أو الانفتاح على مناجاة (غزلية) بين رجوى وزوْجها الزعيم بدر (ص91)، أو المشهد البانورامي لطقوس الاستسقاء، وأمّ الغيْث (ص96) و(ص103). تضافُ إلى ذلك حكاية تبدو لنا مُقْحَمَة على نَسَق الرواية، وهي حكايةُ ريم وإحميدة (ص106). وبعد أنْ تكتملَ هذه الحكاية، يتحوَّلُ بنا الكاتبُ تحوُّلاً غير مُتوقَّع لحديثٍ يجري بين المتصرفِ وشاكر بيك (ص108).
والانتقالاتُ المفاجئة تتكرَّرُ في الرواية مُخلّفةً فجواتٍ سرديَّةً كانَ الأوْلى بالكاتبِ أنْ يرْوي فيها ما يُوحي بالانتقالِ السَلِسِ من موقفٍ سرْديٍّ لمَوْقِفٍ آخَرَ. وقد تكرَّر هذا في الروايةِ غيْر مرة.
فهو، على سبيل المثال، يتحوَّل من الحديث عن رأي جابر أفندي في (الهيّة) (ص138) إلى خروج أحمد من المستشفى الحكومي لاعناً اليوم الذي اخْتار فيه دراسَة الطبّ (ص140)، وذلك بعد تغييب شخصيته عن المسرح زمناً طويلاً منذ الحديث الذي جرى بينه وبين إحْميدة. كذلكَ تحوَّلَ الراوي من الحديث عن قدوم عبد المهْدي فَزِعاً للمُتصرِّف الذي اسْتدعاهُ (ص146) تحوُّلاً غيْرَ مُتوقَّع لحديثِ الزعيم عن الثورة أمامَ حشْدٍ من أنصاره، قاطعوهُ فيهِ بإطْلاق الشعاراتِ، والتصْفيق (ص147).
والحقّ أنَّ هذه الانتقالاتِ لا تقلّلُ منَ اتّساقِ السرْد لديه، ولا تضعفُ حَبْكَة الرواية، وحبَّذا لو أنَّ الطراونة عُني بتلك التفاصيل الفردية التي تميِّزُ الشخوص بعضها عنْ بعْض، مثلما عُنيَ بلغة الحوار التي عَمَد فيها للدارجة في مَسْعىً منهُ لإضفاء الطابع الفرديِّ على كلِّ شخصية من تلكَ الشخْصيّات.
صَفْوة القوْلِ إنَّ «وادي الصفصافة» بما فيها من سَرْدٍ يَعْتمدُ إعادَةَ النظر في الحدَثِ التاريخيِّ، شهادُةُ ميلادٍ لكاتبٍ مُتَمَكّنٍ يَعِدُ بما هو أكثرُ إتقاناً، وأعْظمُ جوْدَة.
* ناقد وأكاديمي من الأردن
( الرأي الثقافي )