«زواج» دو بوفوار يواجه أزمة العمر


*هيفاء بيطار

حين أطلقت سيمون دو بوفوار عبارتها الشهيرة «نحن لم نولد نساء إنما نُصنع نساء»، ظلّ صدى هذه العبارة يتردّد على مسمع أجيال تربّت على مفهوم بوفواري جديد غيّر نظرة العالم إلى المرأة ودورها السوسيولوجي والبيداغوجي والعلمي. وكان كتابها «الجنس الثاني» أشبه بمحطة مركزية في نشأة الحركة النسوية في أوروبا وتطورها، وقد انعكس تأثيرها في ما بعد على المجتمع العربي برمّته. لذا، كانت -وما زالت- كتابات دوبوفوار مثار اهتمام القارئ والناشر العربيين، فتُرجمت لها أعمال كثيرة، آخرها كتاب عن «سوء تفاهم في موسكو» (دار الحوار- اللاذقية، ترجمة لينا بدر). لم يُذكر على غلاف الكتاب الذي لا يتجاوز 160 صفحة أنه رواية، لكنّ المؤكّد أنّها كتبت هذا العمل ما بين 1966 و1967، بحيث كان من المُفترض أن يُشكل جزءاً من مجموعة «المرأة المحطمة» قبل أن تُعيد الكاتبة النظر بالأمر وتستبعد الموضوع لتنشر قصة طويلة هي «سوء تفاهم في موسكو». وأظنّ أنّ الشجاعة تنقصنا لكي نقول إن الكتاب مخيّب لآمال كبيرة تُعقد على كاتبة ومفكرة وروائية بحجم سيمون دو بوفوار.

لا أحداث مهمة في الرواية (هذا لو افترضنا أنّ الكتاب رواية)، الموضوع الوحيد الذي تدور حوله القصة وتحلله هو أزمة الزواج والهوية مع التقدم بالعمر. تبدأ الرواية برحلة زوجين عجوزين، هما أندرية ونيكول، من باريس إلى موسكو، وغاية الرحلة أن يزور الأب ابنته ماشا التي تعيش في موسكو. تطرح دوبوفوار أسئلة عميقة حول طبيعة الزواج وتغير شكل العلاقة مع العمر. فكم من الأزواج يبقون معاً بعد تجاوز سنّ معينة لسبب وحيد، أنه لا يمكنهم الانفصال؟ وكم تراود الأزواج مشاعر يخفيها الواحد عن الآخر. قد يتساءل الزوج: هل أحبتني زوجتي حقاً أم أنني مجرد عادة قديمة؟ والزوجة: «ألم يكن بإمكاني الزواج من رجل أبرع وأنجح من زوجي؟».
تتفجر المشكلة بين الزوجين العجوزين في موسكو لأنه لم يعلمها أنه اتخذ قراراً بأنه سيمدد إقامته عشرة أيام يقضيها مع ابنته، فتعتبر الزوجة أنّ سلوك زوجها مهين وفيه تهميش وقلة احترام لها لكونه لا يُعلمها بقراراته. ينسحب سوء التفاهم هذا على الحياة الزوجية التي دامت أكثر من ربع قرن، ويعيد كل منهما تقويم زواجه على ضوء سوء التفاهم الحاصل (تمديد الرحلة إلى موسكو عشرة أيام). هنا تشعر نيكول أن ثمة خللاً كبيراً في حياتها مع زوجها وأنّ ماضيها معه كان سراباً وتُفكر كم من نساء خُدعن في زواجهن واهمات بأن حياتهن هي ما ترويه كل واحدة عن نفسها، بينما الحقيقة قد تكون مغايرة تماماً.
لقد اكتشفت نيكول أن أندريه لم يحبها بشغف كما اعتقدت، وتتذكر كيف كان ينساها ما إن تغيب عن ناظره، وبأن وجود شخص ثالث بينهما لم يكن يزعجه على الإطلاق. لم يكن يهتم للحميمية بينهما. تأجيل موعد السفر فقط جعل نيكول تقوم برحلة عبر ماضيها مع زوجها وتتأمل التحولات التي طرأت عليهما وعلى علاقتهما، فذلك التاريخ الطويل جداً بينهما صار كأنه منسي. تتذكر كيف كانت تنتظره أمام النافذة بشوق وشغف وكيف كان حاضراً في قلبها مثل أكثر الأشياء بداهة. كانت تشعر أنها في مكانها الطبيعي وهي معه وبأنه اليقين التام. أمّا الآن -بعدما أصبحا عجوزين- صارت تشعر كأن هناك طبقة عازلة بينهما، طبقة لامرئية، غير محسوسة. طبقة من الصمت. شجاراتهما السابقة كانت تنتهي بالمصالحة في السرير حيث يعيشان الرغبة والمتعة والحب، ويشعر كل منهما أنه يستعيد الآخر وجهاً لوجه، جديدين وفرحين. لكنهما الآن مجرد زوجين يستمران معاً لأنهما بدآ، من أجل الصداقة والمودة وليس من أجل أي سبب حقيقي للعيش معاً. أسئلة وشكوك كثيرة تراود الزوجين العجوزين، لكن أسئلتهما لا طائل منها. فالمشكلة التي تؤرق نيكول هي أن تعرف ما الذي بقي داخلهما اليوم وهما في أرذل العمر. ما الذي ينفعها أن تدرك بعد فوات الأوان أنها تخلت عن كل طموح شبابها بسببه؟ وهو (زوجها) لم يشأ أن يفهم أنها بسببه أضحت المرأة التي لا تعرف كيف تشغل الوقت المُتبقي لها في الحياة. رجل آخر كان ليدفعها إلى العمل، كان ليكون القدوة، أما هو فصرفها عنه لتجد نفسها فارغة اليدين، ليس لديها شيء في العالم سواه، أصبح كالشهيق يمزق رئتيها لكنها مضطرة للتنفس، وسوف تتابع العيش معه مخفية مخالبها. أزواج يعيشون عيشة خاملة على هذا النحو في استكانة، وبالتراضي، إنها وحيدة ويصعقها القلق، القلق من الوجود أقسى بكثير من الموت. ولكن هو أيضاً كان يعاني الملل القاتل بصمت، حتى انه لم يعد يميز -مثلها تماماً- في حركاتهما وكلامهما، بين ما هو تكرار روتيني للماضي وما هو جديد وحيّ؟
سوء التفاهم عند الأزواج العجائز أشبه بدخان بلا نار، وهو يزول من تلقاء نفسه كما لو أنه مجرد عاصفة في فنجان، لأن الروح في هذا العمر لا تملك عنفوان المشاعر القوية، كالغضب والشهوة والشغف، فلا تبقى سوى ظلال مشاعر باهتة وتاريخ طويل مشترك ومتشـــابك بين رجل وامرأة عاشا معاً عقوداً، سواء أكان هذا العيش ســـعيداً ومتوهجاً أم بائـــــساً وحزيناً. سوء التفاهم زال لأن العمر نفسه يزول. «سوء تفاهم في موسكو» كتاب يطرح أفكاراً عمـــيقة عن تبدل المشاعر والأفكار بين الزوجين مع العمر. لكنّ قيمته لا تُقارن بأعمال عظيمة أخرى كتبتها دوبوفوار.
_______
*الحياة

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *