*عبدالدائم السلامي
لم يكن معرض تونس الدولي للكتاب خلال سنوات ما قبل ثورة 14 كانون الثاني (يناير) 2011 إلا مناسبة يذرّ فيها النظام رماد الثقافة في أعين المواطنين ويُظهر خلالها فنونَه في تنويع أشكال مراقبة الفعل القرائي عبر منع العناوين المُحيلة على كلّ ما يتّصل بالحريّة وحقوق الإنسان. وانعكس ذلك سلباً على وضعية المعرض بعد الثورة، بحيث شهد فوضى كبيرة في التنظيم وفي نوعية الكتب المعروضة، إذْ طغى فيه حضور كتب الشعوذة والسحر وعذاب القبر، وانتصبت بين أروقته عربات الباعة الجائلين. إلا أنّ الدورة الحادية والثلاثين الحالية والتي افتتحها رئيس الحكومة التونسية في فضاء قصر المعارض وتتواصل حتى الخامس من الشهر الجاري، لم تُخفِ حرصَ منظِّميها على إعادة تأصيل هُويّة هذا المعرض الفكريّة على رغم إكراهات الوضع الأمني وتردّي الوضع الاقتصادي.
الدورة الحالية التي حملت شعار «قفا نقرأ» تقدّم لجمهورها في نحو 120 ألف عنوان في مختلف مجالات المعرفة يعرضها ما يقارب 692 ناشراً من 20 دولة عربية وأجنبية، بحضور أسماء فكرية وإبداعية كبيرة على غرار الشاعر أدونيس والكاتبة المصرية نوال السعداوي والروائي الجزائري واسيني الأعرج، وهم ضيوف يعكسون توجُّهَ المعرض الفكري لهذه الدورة المتمثّل في تثمين دور المثقّف في توجيه مجموعته الاجتماعية إلى قيم الحوار والتسامح ونبذ العنف، إضافة إلى الدعوة إلى تحرير العقل من دوغمائياته والرهان عليه في تحقيق السلم الاجتماعية والنهوض الحضاري.
اختار معرض الكتاب في دورته الحالية المملكة المغربية ضيفَ شرف، اعترافاً منه بمساعي المغرب إلى تكريس مبدأ التعدّد الثقافي وحوار الحضارات. وحضر الكتاب المغربي ومعه إبداع المغاربة الشعريّ والنقديّ ضمن أمسيات ثقافية بمشاركة نخبة من الكتّاب ومنهم: حسن نجمي، أحمد المديني، رشيد يحياوي موليم لعروسي، إسماعيل غزالي، عبد الرحيم لحبيبي، زهور كرام، عبد الدين حمروش، سكينة حبيب الله.
ولعلّ ما يميّز الدورة الحالية للمعرض هو تركيزها على تنويع النشاطات الفكرية والثقافية وتمكين الجمهور من اللقاء المباشر مع نخبة المبدعين التونسيّين والعرب والأجانب. وتضمّن برنامج المعرض خلال أيام انعقاده ما يزيد على 170 نشاطاً ثقافياً توزّعت على الأمسيات الشعرية وتقديم الكتب الجديدة وتعرّف تجارب الكتّاب والندوات الفكرية والمنابر الحوارية والحلقات الدراسية وورشات الكتابة والعروض الموسيقية والتشكيلية والمسرحية.
ويبقى الحدث البارز في هذه الدورة هو حضور الشاعر العربي أدونيس والكاتبة المصرية نوال السعداوي اللذيْن التقاهما الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي في قصر قرطاج في لفتة تكريمية لمنجزهما الفكريّ التنويريّ. وفي هذا الشأن، نظّم المعرض لقاء مفتوحاً مع أدونيس حضره جمهور غفير من محبّي الشعر وقرأ خلاله الشاعر آخر نصوصه، وانعقدت بهذه المناسبة ندوة فكريّة بعنوان «أدونيس مفكراً… أدونيس شاعراً» قُدّمت فيها محاضرات عدة حاول أصحابها تأطير تجربة أدونيس الشعرية وتبيّن أبعادها الفكرية. وفي هذا الغرض، ذهب الناقد المغربي رشيد يحياوي إلى اعتبار المشروع الأدونيسي مشروعاً حضارياً يعضد فيه الفكريُّ الشعريَّ، عبر سبيل «الاستشراف والانتباه للأضداد المحتجبة خلف قشور غدت سميكة بسبب كسل الرؤى وتوارثها لصور زائفة عن عدساتها». فهذا الشاعر الذي يُعدّ رمزاً من رموز الوعي الجديد بقيمة الإنسان، يكتب الفكر بعين الشاعر، ويكتب الشعر بعين المفكر، وينزع إلى كشف المسكوت عنه في ثقافتنا العربية. «أدونيس مفكراً وأدونيس شاعراً صفتان لا تنفصلان في شخصية هذا المبدع الكبير، بل هما فعلان أكثر منهما صفتين. فأدونيس فاعل بالفكر وبالشعر معاً عبر الكتابة، وبناء على هذا الاندغام بين الفكر شاعراً والشعر مفكراً، نفهم سلاسة الانتقال في كتاباته بين الحقل الشعري وبين الحقل الفكري والديني».
وأضاف رشيد يحياوي قائلاً إن القصيدة عند أدونيس قصيدة وجود يشتغل فيها صاحبها ضمن نسق مجازي لغوي «وهذا الوجود كائن في طبقات متعددة من الدلالات والروافد، تأخذ قارئها من دائرة الاندهاش إلى دائرة الأفكار المتسائلة». فالقصيدة الأدونيسية برأي يحياوي «تعي قلقها وتراجع شكلها وتعاود قراءة ذاكرتها البعيدة والقريبة. وهي رؤية عميقة لواقع مبني على هشاشات تراصت وتصدعات تغطت بزبد أريد له أن يكون صخراً. وبهذه الرؤية ينكشف ويتعرى».
العنف والرواية
الحادثة الإرهابية التي حصلت أخيراً في المتحف الوطني – باردو خيّمت بظلالها على المعرض، ومن ذلك أنّ مجنزرة عسكريّة مصحوبة بحضور أمني كثيف ربضن أمام باب المعرض، ولا يتم دخول الجمهور إلا بعد تفتيشه تفتيشاً أمنياً صارماً. إلا أنّ هذه الإكراهات لم تمنع الناس من التوافد على المعرض، كما لو أنّهم يتحدّون الإرهاب بالإقبال على قراءة الكتاب. وفي هذا القبيل بُرمجت في مدينة عين دراهم – محافظة باجة (الشمال الغربي التونسي) ندوة فكرية بعنوان «العنف والرواية العربية» بمشاركة مجموعة من الباحثين والروائيّين لتسليط الضوء بمداخلات علمية على علاقة الكتابة بالعنف ومنها مداخلات «العنف مقاربة سوسيولوجية ونفسية» للباحث التونسي عبد الرزاق بن عمار و«عنف الوقائع وسخط اللغة بالرواية الجزائرية» للروائي الجزائرى واسينى الأعرج و«العنف في الكتابة الذاتية النسائية: تجربة عائشة عودة نموذجاً» للباحثة التونسية جليلة طريطر.
وتوزّعت جائزة معرض تونس الدولي للكتاب، وهي الجائزة التي تمنح لأول مرة في تاريخ المعرض وقيمتها 45 ألف دينار تونسي وذلك للإسهام في النهوض بقطاع الكتاب بوصفه أداة رئيسة لنشر المعرفة وتداولها، على ثلاثة فروع هي الإبداع الأدبي والدراسات الأكاديمية والترجمة. وقد آلت جائزة الإبداع الأدبي إلى الروائي شكري المبخوت عن روايته «الطلياني»، ونال جائزة الترجمة الباحث ناجي عونلي الذي ترجم للفيلسوف هيغل كتاب «دروس في الاستيتيقا».
أمّا جائزة الدراسات الأكاديمية فنالها بالتناصف كلّ من المفكّر يوسف الصديق عن كتابه «الآخر والآخرون في القرآن» واللغوي الأزهر الزنّاد عن كتابه «اللغة والجسد».
________
*الحياة