*زهرة مرعي
في جديد الشاعر والروائي والناقد عبده وازن «الأيام ليست لنودعها» قصائد من الوجدان وإليه، وكأنها جزء من حال الناس. الناس البسطاء التائهون في أرض تحترق. ففي قصيدة «هجرة» نرى الهاربين «النيران لم تترك.. قوس قزح»، والذين «غسلوا أيديهم من دم الأرض». قصيدة عرّى فيها الشاعر عالمنا الهمجي فـ»نار العيون المفقوءة.. التهمت فردوس العهد». هي قصائد تظللها السلاسة، واللغة فيها لينة، متينة بدون بهرجة مفتعلة. فهو بامتياز صاحب الشعر الحداثي، وبلغة مفهومة.
صاحب «حديقة الحواس» الممنوع ظلماً وجهلاً، يجد في جهاز الرقابة مزاجية. من كتب الرواية متطهراً من شوق مقيم للأب في «غرفة أبي»، والسيرة الذاتية في «قلب مفتوح»، تلح عليه الكتابة بعيداً عن عزف الشعر مجدداً. ويبدو أنه سيلجها قريباً. مع الشاعر عبده وازن كان هذا الحوار:
■ راودك الحزن في أكثر من قصيدة وتجلى في «بلاد». كم تحتاج إلى الوحدة كشاعر؟ وأين تجدها؟
□ لم يعد يعنيني الحزن، يشعر المرء بعد هذا العمر بأنه تخطاه من شدة ما عاشه وغرق فيه. إنما لا يمكنه التخلى عنه، فالحزن جزء مني، جزء من كينونتي أو كياني. هو ليس حزنا رومانطيقياً أو خارجياً. إنه حزن الوجود، حزن الإنسان الغريب في هذا الكون. أمّا في شأن الوحدة فهي حاجة ملحة، لكنّ الوحدة التي اتكلم عنها هي الوحدة في معناها النفسي والداخلي وليس المكاني. صدقيني أن أكثر حالات الوحشة التي أعيشها هي عندما أكون بين الناس. لست من النوع الذي يستطيع العيش بعيداً عن الحياة وصخبها. أحيانا أعزل نفسي في مكان منفرد ولكنني لا أستطيع أن أبقى طويلا. لا أستطيع أن أكتب وأقرأ بعيدا عن حركة الحياة وصخبها الهادئ. إننا نحتاج إلى إيقاع. مثلا لا أستطيع أن أعيش في منزل منعزل في قرية. أخاف مثل هذه الوحشة. لكنني لا أطيق زحمة الناس، لا أطيق الجمهور. حتى الغداء أو العشاء الذي اُدعى اليه إذا تخطى المدعوون الخمسة لا ألبي الدعوة. إنني ذو طابع منعزل ولكن ليس بعيدا عن الحياة.
■ في «أيام» أنت لا تلعن مرور الزمن ولا تحتفي بحضوره. هل الزمن لئيم برأيك؟
□ عنوان كتابي «الأيام ليست لنودعها»، وفي القصيدة التي تحمل هذا العنوان أكتب عن الزمن كما أعيشه، كما أحسه، فلسفيا ووجوديا وروحيا. لا نحتاج إلى أن نودع الأيام فهي ترحل وتعود، إنها وقع الزمن الأبدي الجارف كل شيء، الحياة والموت معا. الزمن أشبه بالنهر الذي تحدث عنه الفيلسوف الإغريقي هيراقليطس، هو في حال من السيلان الدائم والتغير الدائم. لكنني من ناحية أخرى أؤمن بما يسميه الفيلسوف الألماني نيتشه «العود الأزلي»، هذه فكرة رائعة ولو أخذتها في عكس وجهة نيتشه، لأنني إنسان يؤمن بالقوة العظيمة التي هي وراء هذا الكون، أي الله، واعتقد أن روح الإنسان هي الأساس وهي تظل موجودة في الكون. لكنني لا آخذ بالأديان والطوائف.
المهم بنظري هو الإيمان، والإيمان فعل حرية وعلاقة حرة بين الإنسان والله. الإيمان أهم من الدين. الأديان تفرق البشر وتصنع الحروب وقد أراقت من الدماء ما لم يستطع الله نفسه أن يتحمله. حتى الإلحاد هو موقف مهم، واعتقد أن الله بعيد جدا عن كل ما افترض البشر من قوانين وأخلاق. وإن كنت أحب المسيح فإنما احبه كأنسان، كمتصوف ونبي ومصلح وفيلسوف وشاعر. هل الزمن لئيم تسألينني؟ ليس لئيما، الزمن رهيب، مطحنة تطحن بلا رحمة ولا تتوقف. الزمن لا ينظر إلى الوراء.
■ «سر» لماذا؟ دفن الحب في الحنايا أليس فعل تعذيب ذاتي؟
□ يملك الإنسان حبا يعيش في أعمق حناياه. حب لا يمكنه أن ينساه لأنه يتوق إليه دوما. وإن نسيه فهو لا يستطيع أن ينسى الأثر الذي تركه فيه. الحب يأتي ويذهب. وأعتقد أن عليه أن يذهب ليبقى. الحب لا يمكن أن يطول، إنه كالبرق، يسطع ويحرق ويتلاشى. إنه حال من البرق ولذلك لا يدوم، لكن ذكراه أو لأقل جرحه يدومان. لكن الحب قد يتحول إلى أمر آخر، لاسيما إذا تزوج المرء من امرأة يحبها. يصبح صداقة عميقة، يصبح حالا من الأبوة أو الأمومة، وهاتان الحالتان رهيبتان.
■ هل للمرأة المبادرة في الحب؟
□ لا يهم. قد يبادر الرجل وقد تبادر المرأة. المهم أن نظل في حال من الحب ولو كان وهماً أو خيالا. لا يمكنني أن أعيش لحظة من دون حضور المرأة، أيا كان هذا الحضور. إنها الحياة ونبعها.
■ في شعرك خواطر وفلسفة. هل للشعر أن يحض على موقف وسؤال أم له وظيفة البهجة كما الأغنية؟
□ في نظري أن على الشعر أن يجمع بين هذين الاتجاهين. عليه أن يختزن في صميمه الكثير من المتعة الفنية، من الرغبة واللذة لأنه أولا وآخرا صنيع جمالي، والجمال لا يقوم من دون الإبهار. لكن الشعر لا يمكنه أن يبقى محصورا بهذا الجانب المتعوي والجمالي. إنه أيضا لحظة تأمل وإغراق في معنى الوجود والحياة والموت والزمن. الشعر في نظري هو طريقة عيش ومعرفة. معرفة بالحدس والغريزة الداخلية والخيال والحلم. اللحظة الشعرية هي لحظة فكرية وقد انقشعت وأضاءت، اللحظة التي تجمع بين الفكر والحدس والإحساس العميق.
■ هل للشعر مخاضه أم هو سلس الحضور كما نقرأه في نصك؟
□ ليس من السهل أن يكتب المرء شعرا. ليس من السهل أن يكون المرء شاعرا، حتى القصائد البسيطة أو التي نظنها بسيطة تمر في مخاض الولادة. الشعر خلق جمالي ووجودي في آن. هكذا علمنا الشعراء منذ عصر الإغريق حتى الثورة السوريالية. على الشاعر أن يتعب ويجهد في الكتابة، ولكن عليه ألاّ يجعل القارئ يشم رائحة العرق الذي سقط منه وهو يعمل على شعره. حتى القصائد التي تأتي بعفوية وبساطة أعيد العمل عليها محافظا على طاقتها وانبثاقها العفوي. أما السلاسة في الشعر فهي تنجم عن الإحساس المرهف باللغة والسبك اللغوي والجمالي.
■ نصك يشبه شخصيتك في الهدوء والتبصر. ماذا تقول في هذا؟
□ لو تعلمين أي هدوء أعيش. إنه هدوء ما بعد العاصفة أو ما قبلها. أو لعله الهدوء الذي يخفي العاصفة في قلبه. أما التبصر لدي فهو غالبا مرفق بالحماسة والقلق.
■ ما هو موقفك من البهرجة الشعرية وحبك الكلمات؟ كيف تتعاطى معها ككاتب وناقد؟
□ لا أحب البهرجة في الشعر ولا الزخرفة ولا التصنع. حتى البلاغة أو الفصاحة يجب إعادة النظر فيهما. يجب إعادة إنتاج أو «تدوير» البلاغة والفصاحة وكل المحسنات التي تسبق عادة النص ولحظة إبداعه. الكتابة البليغة والفصيحة سهلة جدا، يكفي أن تأتي بكتاب الثعالبي «فقه اللغة» أو كتاب « تهذيب الألفاظ» لإبن السكيت أو «كتاب المترادفات والمتواردات» لإبراهيم اليازجي حتى تتملكي من لغة شديدة الفصاحة والبلاغة. وقد اشتغلت على هذه الكتب فترة ولا أعود إليها اليوم الا كقارئ معجب بها. قوة البلاغة في إخفائها، وجعلها بلاغة داخلية صامتة كامنة في صميم النص أو القصيدة وإلا وقع الكاتب أو الشاعر في التصنع والتكلف.
■ بعد رواية «غرفة أبي» هل تلح عليك الرواية من جديد؟
□ أجل وكثيرا. واعتقد أنني سأكتب رواية جديدة ما أن انتهي من الكتاب الذي بين يدي وهو نوع من الكتابة المشذرة، أو القائمة على إيقاع المقاطع وتجمع بين السرد والشعر. وآمل أن أنجح في هذه التجربة الغريبة.
■ تلك الرواية عبقت بمساحات القلق لفقدان مبكر للأب. هل تضاءل القلق لديك على مختلف مستوياته بعد البوح؟
□ لم يخلق فيّ الغياب المبكر للأب حالا من الحزن. الحزن أعمق لديّ من هذا الفقدان، وربما لأنني لم أكتشف علاقتي بالأب إلا لاحقا، ومن خلال الكتب أو علاقات أصدقائي بابآئهم. لكن غياب الأب ترك لدي شعورا بالقلق وعدم الطمأنينة لم يغادرني حتى اليوم لأنه ترسخ في وجداني ولاوعيي. ولم أكتشف الأبوة إلا بعدما أصبحت ابا لابنتي. الأبوة أمر عظيم لا يمكن وصفه. والمفارقة أنني عندما كتبت كتابي هذا كنت قد أصبحت أكبر من والدي، خاطبته وكأنه أصغر مني. ولعل من الأثر الذي يتركه غياب الأب، هو أن الإنسان الذي هو أنا هنا، لم يتمكن من إيجاد هوية له. إنني حتى الآن بلا هوية. حاولت أن أدخل الأحزاب وأماشي التيارات والموجات بحثا عن هوية ولم استطع. فقدان الأب كان بالنسبة اليّ فقدان هويتي الشخصية. حتى لبنانيتي لم تعن لي شيئا ولا مارونيتي التي تمردت عليها باكرا، لم تعن لي شيئا بمقدار ما عنى لي المسيح مثلا لأنه رمز المقتلعين والغرباء الذين لا مكان لهم ليسندوا رأسهم.
■ التجربة الشخصية في «قلب مفتوح» كم لها أن تؤنس الآخرين في تجارب مماثلة؟ كم سهّلت لهم التصالح مع لحظة اختراق افئدتهم؟
□ ربما لم أفكر بالآخرين عندم كتبت كتاب «قلب مفتوح». لم أفكر حتى بالقارئ. بدأ الكتاب معي في لحظة وجدانية خاصة جدا. كتبت الفصل الأول كنص سردي ولم يكن ليخطر لي أنني قد اواصل الكتابة فيصبح النص رواية وقد آثرت أن اسميها «رواية سيرة ذاتية»، لأنها تجمع بين هذين النوعين في تلاحم شديد. كانت تجربة قاسية جدا أن يواجه المرء الموت بعينين مفتوحتين. ثم هناك العلاقة بالجسد المجروح أو الجسد العاري.
■ ماذا بشأن «حديقة الحواس» لماذا هو غير متوافر في المكتبات؟ هل أعدمته ككتاب؟
□ قررت أن انسى هذا الكتاب مرحليا. يعرض علي بعض الناشرين أن يعيدوا نشره وأرفض. هذا نص غريب أنا نفسي استغرب كيف كتبته. نص عنيف وشفاف في عنفه. وقد صغته باعتناء شديد، وصناعة شبه بلاغية، وكان قصدي استعادة الجسد العربي المقموع من خلال اللغة. لكنه كان كتابا عن الموت أكثر مما كان كتابا عن الجنس، أو كتابا بورنوغرافيا كما حكمت عليه الرقابة اللبنانية ومنعته وصادرت نسخه من المكتبات. هذه تجربة غريبة عشتها وكتبتها.
■ منذ سنة 1993 حين مُنع الكتاب وحتى الآن ألم يصبح صدر الرقابة أرحب؟
□ الرقابة في لبنان مزاجية جدا. ليس لديها مقاييس أو معايير ثم لا علاقة لها بالأدب والفن. إنها رقابة وجدت لتخدم السلطة السياسية والسلطة الدينية. يطلب أحد المراجع الدينية من الرقابة أن تمنع كتابا أو فيلما أو مسرحية، فيمنعها مسايرة لهذه المراجع التي تملك سلطتها. وكذلك في شأن الكتب السياسية التي يتم منعها. وبات الرقيب اللبناني يملك حساسية ضد الأعمال الفنية التي تثير حفيظته في السينما والمسرح فيمنع من دون أن يعي ماذا يفعل.
■ في عصر دراماتيكي نعيشه على مستويات عامة لا تُحصى هل تحاذر التعبير أم تسمي الأشياء بمسمياتها؟
□ في الصحافة لا يمكنني إلا احترام الخطوط الحمر. إنني أعمل في مؤسسة ويجب احترام شروط الوظيفة الإعلامية. ثم أنني لم اتوخ يوما أن أكون بطلا، في الإعلام الثقافي إنني أعمل بجدية ونزاهة. أما في إبداعي الشخصي الشعري والأدبي فلا أفكر بأي رقابة أو رقيب. إنني أكتب بحرية تامة خارج الخطوط كلها.
■ ماذا ترى في الحالة الثقافية اللبنانية؟ وكم هي متأثرة بما يحيط بنا؟
□ باختصار شديد أقول إن الثقافة هي الخط الأخير للحفاظ على لبنان بعد سقوطه سياسيا واقتصاديا. نتيجة الفساد المستشري، ونتيجة الطائفية والمذهبية وهما بمثابة المرض العضال الذي يفتك بلبنان. الثقافة الحقيقية، والمثقفون الحقيقيون غير الطائفيين والمذهبيين هم الخط الأخير للدفاع عن لبنان الذي يبدو أن فكرته كوطن تعددي وفسيفسائي لم تنجح بل فشلت فشلا ذريعا.
________
*القدس العربي