ممنوع التدخين


*د. شهلا العُجيلي

لن أحكي اليوم لا عن عنب الشام، ولا عن بلح اليمن!

سأترك الحديث للسياسيّين، أملاً في أن يفرغوا ما في وفاضهم من حيل، يخطفون بها حُميّا الأحداث اللاذعة، ثمّ يتركوننا نتجرّع مرارتها لبقيّة الوقت. سأحكي عمّا يباغتنا بوطأة العمر، لكنّه شيء آخر غير الحرب، ولعلّه يتجاوز ما نسمّيه تغيّر المزاج، إنّه تحوّل النموذج الجماليّ. في كتابه “النقد الثقافيّ” يشير الدكتور عبد الله الغذاميّ إلى أنّ نماذجنا الجماليّة عبارة عن موروثات نسقيّة، اخترعها الشعر، وغرسها في البنية الثقافيّة الاجتماعيّة، أو في النسق الثقافيّ، تحت ما يسمّى بشعرنة القيم، وصرنا بناء عليه نحبّذ هذه الشخصيّة، ونمقت أخرى بقياسها على النموذج الذي قرّره الشعر. وهكذا، إذا ما راجعنا المدوّنة الشعريّة العربيّة، سنجد نموذج الفحولة، ينطوي على شاعر عريق النسب، محارب شجاع، مع ما تقتضيه الفروسيّة من سمات جسديّة، كريم، عفيف عند المغنم، غضيض الطرف في حيّه، زير نساء خارج الحيّ، وفاقاً لقول امرئ القيس: ومثلك حبلى قد طرقت ومرضعٍ/ فألهيتها عن ذي تمائم محولِ
أو قول عنترة: وأغضّ طرفي ما بدت لي جارتي/ حتّى يواري جارتي مأواها
أمّا المرأة، فهي ابنة حسب ونسب، نؤوم الضحى، وئيدة الخطى، هركولة، بيضاء، طيّبة الرائحة، رزان، حَصَان، ويفرد عمرو بن كلثوم في معلّقته ملفّاً للمواصفات النسقيّة، رغم تناقضات الستر والكشف:
تريك إذا دخلتَ على خلاءٍ/ وقد أمنت عيون الكاشحينا/ ذراعَي عيطلٍ أدماءَ بكرٍ/ هجانِ اللون، لم تقرأ جنينا/ وثدياً مثل حُقّ العاجِ رخصاً/ حصاناً من أكفّ اللاّمسينا/ ومأكمةً يضيق الباب عنها/ وكشحاً قد جننتُ به جنونا…
الشعر يقرّر بديكتاتوريّته، والرواية تقدّم نماذج متعدّدة، لك أن تحبّها أو أن تنبذها، وفاقاً لميولك الأيديولوجيّة، وللضغط الجماليّ الذي يمارسه الروائيّ عبر الراوي في وصف شخصيّته، حسب ميله الأيديولوجيّ أيضاً، والذي قلّما ينجو من الانحياز، فيتّسم بالحياديّة، وإذا ما راجعنا المدوّنة الروائيّة العربيّة منذ خمسينيّات القرن العشرين، سنجد الشخصيّة الثوريّة اليساريّة، غالباً ما تُرسم لذيذة، في حين ترسم الشخصيّة المتطرّفة الدينيّة بريشة المقت، والتردّد، والعلّة السيكولوجيّة.
يستطيع الشعر أن يقلب ظهر المجنّ للنماذج أو يسيّدها، خارجاً على القيم النسقيّة، كاشفاً عن جماليّات الوصمة، كما فعل نزار قبّاني في نصّه الذي تحكيه امرأة حبلى عن رجل نذل، وكما فعل كلّ من بشارة الخوري، والسيّاب، في نصيهما عن المومسات.
في أيّام دراستنا الجامعيّة ساد نموذج الرجل المدخّن، الذي فرضته على جموع المثقّفات والمثقّفين، قصيدة نزار قبّاني “صديقتي وسجائري”، إنّها نصّ ضدّ الصحّة، وضدّ البيئة، وضدّ الحداثة الكونيّة، لكنّها غواية الشعر التي تقرّب البعيد، وتبعد القريب:
واصل تدخينك يغريني/ رجلٌ في لحظة تدخينِ/ ما أشهى تبغك والدنيا/ تستقبل أوّل تشرينِ/ والقهوة والصحف الكسلى/ ورؤىً، وحطام فناجينِ…/ أشعل واحدة من أخرى/ أشعلها من جمرِ عيوني/ ورمادك، ضعه على كفّي/ نيرانك ليست تؤذيني/ فأنا كامرأة يرضيني/ أن ألقي نفسي في مقعد/ ساعات في هذا المعبد/ أتأمّل في الوجه المجهد/ وأعدّ أعدّ عروق اليد/ فعروق يديك تسلّيني/ وخيوط الشيب هنا وهنا/ تنهي أعصابي، تنهيني…
آنذاك أغرمت جلّ الصبايا بالمدخنين، الذين يشعلون سجائرهم بنزق ويطفئونها بنزق، وإذا غطّوا وجوههم بصحيفة كان الغرام أشدّ أواراً، وإذا صفّوا فناجين القهوة اشتعل أكثر، ويبلغ الجوى ذروته في أوّل تشرين، حيث تستقبل الدنيا رذاذاً عذباً، وإذا منّ الله على شعر الرجل ببعض الشيب خالط سواده كان ذا حظوة، وإذا ما اعرورقت كفّاه، وبرزت الأوردة فيهما لنحول، أو مزاج عصبيّ، وربّما فقر، أو كدح، فيكون قد أودى بلبّ الصبيّة، حتى إنّ إحداهنّ كانت تتمرّن على نفض رماد السجائر في كفّها، حتّى إذا ما التقت حبيبها، فتحت كفّها بطريقة بطوليّة، ثمّ سفّت ذلك الرماد، بحجّة أنّه مفيد لحرقة المعدة!
لا أعرف ما إذا كانت المراهقات أو الصبايا مازلن ينجذبن نحو ذلك النموذج، أو أنّ الشباب مازالوا يتمثّلونه، لكنّني أراهم يدخّنون كثيراً في الجامعات، وفي المقاهي، رغم التحذيرات كلّها! ما أعرفه أنّه لم يعد نموذجنا بوصفنا جيلاً، فقد تحوّلنا عنه، مع وعينا مضار التدخين، ومع ما انتابنا من أمراض الحساسيّة، والوعي البيئيّ، والتنمية المجتمعيّة، والتفاتنا الصحيّ أكثر من الجماليّ بمشاكل الفم والأسنان…
ولعلّنا هرمنا، وهزم زمانُنا الشعر فينا، إنّنا بصراحة نفضّل نماذج جماليّة بلا تدخين!
_________
*عمّان.نت

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *