الاحتفال بالرومانسية تكريما لعبد الحليم حافظ


*كمال القاضي

منذ أن توفي عبد الحليم حافظ في 30 مارس/آذار عام 1977 تحولت ذكراه إلى احتفال سنوي، تبدأ مظاهره مع بداية مارس وتستمر حتى أوائل إبريل/نيسان، وهي ظاهرة لم ترتبط بوفاة فنان آخر، فكما كان عبد الحليم استثنائيا في حياته ظل أيضا استثنائيا في وفاته، فمن سبقوه ومن لحقوه من الراحلين لم يحظ أي منهم بهذا الاهتمام، ولهذا بالطبع دواعيه المنطقية فقد عاش حليم طوال حياته مريضا بمرض عضال، وقضى معظم أوقاته بين المستشفيات والأطباء والأدوية، وبتكوينه الجسماني الضئيل ورقته المعهودة أصبح قريبا من الناس، فضلا عن أنه ولد يتيما وتربي في ملجأ الأيتام فتعمق داخله الإحساس بالحزن وهو ما انعكس بعد ذلك على صوته فبات مصبوغا بالشجن معبرا عن كل مؤلم وموجع ومؤثر.

بدأ عبد الحليم حافظ حياته الفنية مبكرا، وشق طريقه وسط عمالقة الفن والطرب، وتميز صوته بالخصوصية منذ تخرج في معهد الموسيقى العربية، رغم أنه لم يدرس الغناء في قسم الأصوات، وفضل دراسة الأوبوا، وهي الآلة التي تخصص فيها وأتقن العزف عليها فمنحته قدرات إضافية وجعلته أكثر تمكنا من التحكم في التنفس، وهي ميزة يدرك قيمتها عازفو آلات النفخ والمطربون على السواء.
احترف عبد الحليم على إسماعيل شبانة الغناء، وبات مطربا معتمدا في الإذاعة فمنحه الإذاعي الكبير حافظ عبد الوهاب اسمه وصار بعد ذلك معروفا باسم عبد الحليم حافظ. وقد تصادف ظهوره على الساحة الفنية ودخوله الإذاعة مع قيام ثورة يوليو/تموز فارتبط بها وبات صوتها المعبر عن آمال وأحلام جيلها، ولم يكن وحده في تلك الأثناء الذي بدأ المشوار من هذه المحطة، ولكن رافقه الرحلة زملاء الدراسة والأصدقاء، محمد الموجي وكمال الطويل وبليغ حمدي لاحقا.
كانت أول أغنية غناها المطرب الشاب، الذي رفض أن يكون صدى لصوت عبد الوهاب وأبى أن يقلده ويغني أغانيه، قصيدة «لقاء» للشاعر الكبير صلاح عبد الصبور، سجلها وغناها في الإذاعة كأول تعاون له مع الميكروفون الرسمي، ولكنها لم تأخذ حظها من الشهرة والانتشار، فاعتقد البعض أن أولى أغانيه هي «صافيني مرة» التي لحنها له أيضا محمد الموجي، وكانت فاتحة خير عليه، حيث لمع بعدها اسمه، وتوالت عليه العروض من شركات الأسطوانات والإنتاج السينمائي، وقام ببطولة فيلمه الأول «لحن الوفاء» مع شادية عام 56.
بدأت أعراض المرض تظهر على الفتي النحيل الأسمر والمطرب الذي صار ملء السمع والبصر، فدخل في دوامة العلاج والسفر، ومع ذيوع أخبار مرضه زاد التعلق به، خاصة بين الفتيات المراهقات، وعلى أثر المرض والأدوية والإحساس بالخطر تغيرت ملامح الصوت واستغرق حليم في الحزن، ولكنه ظل حزنا شفيقا يفجر نوازع العطف والرومانسية، وبامتداد المسيرة نضج الأداء تماما وتكون الرأي السياسي لصاحب الصوت الأخاذ والإحساس المرهف، وبدخول مصر في التحديات الدولية عام 56 بعد العدوان الثلاثي تبلورت إسهامات عبد الحليم حافظ الوطنية، وتأكدت في بناء السد العالي، حيث غنى أجمل أغانيه «حكاية شعب» و»إحنا الشعب» و»بستان الاشتراكية» و»المركبة عدت»، وغيرها.
وفي الأوقات العصيبة ولحظات الانكسار إبان نكسة 67 لم يتوقف عن الغناء وأصر على أن يكون للأغنية دور ومكانة في المعركة، فكانت روائعه «البندقية وفدائي وخلي السلاح صاحي ويا بلدنا لا تنامي وابنك يقولك يا بطل»، تعبيرا صادقا عن الشعور بالمسؤولية تجاه الوطن والشعب، وفي الوقت ذاته، لم يصرفه ذلك عن الأغنية العاطفية، فأنجز مع رفاق الإبداع والمشوار الموجي والطويل وبليغ وصلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودي ذخائره الرومانسية «في يوم في شهر في سنة» وهي الأغنية التي لخصت حالته الصحية وبث فيها شجونه الشخصية وغناها في فيلم «حكاية حب» بجانب أغنيات أخرى لها الأهمية نفسها مثل، «بحلم بيك» و«تلوموني ليه».
مع مطلع السبعينيات طور عبد الحليم أداءه الغنائي فقدم الأغاني الطويلة، «نبتدي منين الحكاية»، «رسالة من تحت الماء»، «يا مالكا قلبي»، «فاتت جنبنا». وآخر أغنياته «قارئة الفنجان»، وقد تعاون في هذه الأغاني مع محمد عبد الوهاب ملحنا، ومحمد حمزة شاعرا، وكان ذلك بمثابة تحول في حياته الغنائية، وقيل إنه يحاكي أم كلثوم في ما تقدمه من أغان تستمر لأكثر من ساعة، ليثبت أن لديه القدرة على أداء كل الأشكال والألوان، بيد أن عبد الحليم لم يقصد أن ينافس أم كلثوم أو يحاكيها، ولكنه فقط استشعر ضرورة التغيير والتطور، وهي سمة من سماته الأساسية، فهو متطلع للأفضل وباحث عن الجديد، لذا استعان بأمهر عازفي الأورج والبيانو هاني فهمي ومجدي الحسيني، وفي مجال التوزيع علي إسماعيل واحمد فؤاد حسن، كأبرز نجوم الموسيقى وأسطواتها المحترفين ولاكتمال الخبرة على المستوى الإعلامي والصحافي أحاط حليم نفسه بكوكبة من كبار الكتاب والصحافيين مصطفى وعلي أمين جليل البنداري ومفيد فوزي وأيضا من الشعراء والأدباء كامل الشناوي وإحسان عبد القدوس وأنيس منصور، وبالطبع كان الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل على رأس القائمة، سواء من الكتاب أو الأدباء.
ولأن ظهور عبد الحليم ارتبط، كما أسلفنا، بقيام ثورة يوليو، فقد كان قريبا من السياسيين وصناع القرار، فتأكد دوره وريادته كشريك غير مباشر في صناعة الرأي العام، لذلك كانت وفاته عن عمر يناهز 48 عاما حدثا قويا ومؤثرا، ليس في مصر فحسب، ولكن في الوطن العربي كله، وخرجت جنازته يوم الوداع في ملحمة شعبية مهيبة قلما تتكرر في تاريخنا المعاصر، فمن مات ليس مجرد مطرب وإنما هو رحيل وفقدان لزمن وملامح ومرحلة بأكملها.
___
*القدس العربي

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *