*غدير أبو سنينة
استطاعت المدينة الكولومبية ميديين أن تكون راعية لنقيضيْن في وقتٍ واحد: الشعر والجريمة، إلَّا إذا اعتبرنا أنَّ كتابة قصيدة هي ارتكاب جريمةٍ كاملة على حدِّ تعبير الشاعر النيكاراغوي فرانسيسكو دي أسيس فرناندس. في “مهرجان الشعر العالمي” الذي يُقام كلَّ عام في ساحات ميديين، يتجمَّعُ آلاف الناس للاستماع لقصائد الشعراء القادمين من شتَّى أنحاء الأرض، دون أن يتبادر إلى ذهن أحدهم أنَّ من بين الجالسين تاجر مخدرات أو قاتلاً. فالمدينةُ التي تستمع بخشوعٍ للشعر، والتي خرج من بين زواياها شعراء وفنانون، ربما يكون أشهرهم الفنان فرناندو بوتيرو، أخرجت زعيم العصابة المعروف بابلو إسكوبار (1949 – 1993)، الذي لا يختلف عن أبناء مدينته في جمع المتناقضات. فالقاتل الوحشي، هو أب حنون وعطوف، بل كان كثيرٌ من الناس في تلك المدينة التي يعشق أهلها الفن والجمال، يتسترون على إسكوبار الذي أقام لهم مدارس ومراكز طبية، وقدم لهم خدمات أخرى. ومع كل القتل الدموي والوحشية والعنف، فقد ناضل أبناء المدينة ومثقفوها لتصبح مديين مدينة الشعر عوضاً عن الجريمة. وإسكوبار نفسه تحوَّل إلى شخصيَّةٍ ملهمة لكتّاب ومخرجين ليعرضوا لهذه الشخصيّة المعقَّدة التي عُرفت أيضاً بالتزامها الديني إلى حدٍّ ما.
ربما يكون الفيلم الهوليوودي الذي عُرض قبل فترةٍ قصيرةٍ بعنوان “الفردوس المفقود”، من أشهر ما أنتجه الفن في هذا المضمار، مع أنَّ فيلماً تسجيليّاً كان قد عرض عن حياته بمشاركة أبنائه عام 2010. وأخيراً، وعلى هامش “المهرجان الدولي للسينما” في غواذالاخارا-المكسيك، وقَّع ابنه خوان بابلو إسكوبار، أو سيباستيان مارّوكين، كتاباً بعنوان “بابلو إسكوبار، أبي”. ومع التحفظ على تعبير “الأكثر مبيعاً”، فإنَّ الكِتاب قد اكتسب فعلاً هذا الوصف بعد نفاد نسخه منذ صدوره في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي. والملفت في الكتاب أنّ صاحبه لا يُحاول تجميل صورة والده، بل يميل إلى تحليل النتيجة التي وصلت إليها بلدان أميركا اللاتينية إثر حرب المخدرات، فهو يرى أن السياسة التي اتخذتها تلك الحكومات، وخصوصاً كولومبيا، لم تؤت أكلها، بل أصبحت تنتقل من بلدٍ لآخر، وهي الآن في طريقها إلى أميركا الوسطى، وإلى المكسيك التي عليها أن تتعلَّم من تاريخ كولومبيا على حدِّ تعبيره.
إسكوبار الابن – وقد كان يوماً ما ابن أحد أغنياء كولومبيا – أكد أنه لم يحصل هو وعائلته على أيٍّ من أموال والده، ليس فقط بسبب مصادرة الدولة لها، بل لتنازع العصابات الأخرى عليها. وكشف أنه ليس حزيناً بسبب عدم حصوله على تلك الأموال، بل لأنها لم تذهب لضحايا والده، بل عرفت طريقها إلى جيوب السياسيين. إسكوبار الابن، الذي انتقل مع عائلته عام 1994 إلى الأرجنتين، وغيّر اسمه تهرُّباً من ماضٍ ليس له يدٌ فيه، تابع نقده للحكومات التي تشنُّ حرباً شعواء على تجَّار المخدِّرات، ليقتل كثيرون من كلا الجانبين، ومع هذا، فالنتيجة تقول إن تجارة المخدرات ما زالت رائجة، وما زالت تصل إلى أزقة وزوايا ومدارس المدينة. ليس للكتاب، ربما، قيمة من الناحية الأدبية، لكنَّ أهميته تنبع من تمكِّن كاتبه من التصالح مع شخصيته الحقيقية التي كان يخفيها مع اسمه، وتمكّنه من مواجهة الناس، وخصوصاً أبناء ضحايا والده الذين قدَّم لهم اعتذاراً رسميّاً عام 2010، عند تصوير الفيلم التسجيلي. وهو مثال لإنسانٍ ترعرع في عالم الجريمة، ومع هذا فقد اتخذ مسلكاً بعيداً عنها حين درس الهندسة المعمارية في الأرجنتين، ثم تابع مسيرته في هذا الكتاب الذي أعرب عن أمنيته في تحويله فيلماً سينمائياً آخر، منتصراً لقيم الفن ومغلِّباً إيَّاها، ولا عجب، فهو ابن ميديين، مدينة الشعر والجمال الشقي.
______
*العربي الجديد