بسمة النسور*
فاجأتني الدعوة تماماً، واستغربت جداً أن كاتباً كبيراً وشهيراً، بمكانته وتاريخه الإبداعي الحافل والمتنوّع والطويل، يهاتفني هكذا، ببساطة، وأنا المبتدئة التي لا يعرفها أحد، طالباً مني المشاركة في أمسية قصصية في رابطة الكتّاب الأردنيين، ضمّت، آنذاك، أسماء مهمّة من أصحاب التجارب الطويلة والمكرّسة في حقل القصة القصيرة، للحديث عن تجربتي في شهادة إبداعية. قلت له بتردد: ماذا عساني أكتب، يا أبو علاء، وأنت تعرف أن تجربتي القصيرة المحدودة لم تتجاوز مجموعة قصصية يتيمة؟ وعلى فرض أني تمكنت من الكتابة، هل سأمتلك الجرأة المطلوبة والمفترضة للقراءة في حضرة كبار كتّاب الأردن؟ (مشان الله بلاش). رد بحسم أبوي قاطع: بل تستطيعين، يا بنت، كلٌ منّا لديه ما يقول، بغضّ النظر عن عمره وجنسه ومقدار منجزه، ودائماً هنالك من يستمع ويتأثر.
تذكّرت تلك الأمسية التي جرت في مطلع التسعينات، فور سماعي نبأ رحيله المبكر الحزين القاسي المفجع، وكانت نقطة تحوّل فاصلة لمسيرتي في حقل الأدب، غير المزروع بالورود دائماً. تم ذلك بتحريض مباشر وحصري منه شخصياً، شأني في ذلك شأن كتّاب ومبدعين عديدين يحتفظون بذاكرتهم بقصص وحكايات ومواقف وذكريات مماثلة مع الراحل الكبير، وقد أخذ على عاتقه، كناقد عميق المعرفة والثقافة والاطلاع، الأخذ بيدهم. ومن خلال المواقع التي شغلها باقتدار كبير، عمل عبد الله رضوان على تبديد العوائق التي قد تعترض طريقهم، واحتفى بأصحاب التجارب المتميّزة الواعدة بتسليط الضوء على منجزهم نقدياً، وتقديمهم في مئات المحافل والفعاليات الثقافية التي أقيمت في أمانة عمان ومؤسسات ثقافية أخرى، بجهد فردي قام به.
كان الدينامو والعقل المدبّر والمهندس الثقافي الجريء والمبدع الذي يتقن مدّ وتشييد جسور المعرفة والأدب والجمال بحرفية عالية. تمتع عبد الله بمزايا دبلوماسية وقيادية ومهارات تواصل إنساني، عنوانها محبة الآخر واحترامه واحتواؤه، جعلت منه إدارياً استثنائياً، عزّ نظيره، قادراً على الابتكار والاختلاف وبثّ الطاقة الإيجابية، أينما حلّ. رجلٌ مضاد لليأس، رافضٌ للانكفاء والنكوص، محبٌ للناس، شاعرٌ بالأمان لمجرد الوجود بينهم، مترفّع عن مواقف الصغار منهم، مدرك بعين الحكيم نقاط ضعفهم، متجاوز لها بتسامحٍ عجيب. إشكاليٌ بامتياز، مثيرٌ للإعجاب، ولا سيما حين ينخرط في تحالفات وكولسات وقوائم انتخابات رابطة الكتّاب، وإعداد خطط الدفاع والهجوم والانسحاب التكتيكي، مثل أي نقابي متمرّس (يحسبها بالورقة والقلم)، من دون أن يفقد لمسته الإنسانية، ذات العلامة الفارقة، كرجل طيب شهم متواضع بالغ الرهافة. أحاول، الآن، بيأس كامل، تذكر لقائي الأول به، وأخفق بجدارة. ربما لم يكن هنالك لقاء أول أصلاً، ذلك أن عبد الله رضوان موجود في حياتنا، واحداً من حقائقها الراسخة. أستحضر، الآن، وبحنين وأسى كثيرين، أسلوبه المميّز في الحكي، التماعة عينيه الذكية، بديهته الحاضرة، خفّة ظلّه، أناقته اللافتة، شعره الأبيض الكثيف غير المصبوغ عن سبق إصرار وترصّد. قامته المديدة، ابتسامته العريضة الحنون، حيويته المتدفقة، والمفحم للصبايا والشباب على السواء، مخاطباً إياهم بكلمة يا بابا أو يا غالي. متنبّهاً، على الدوام، كحارسٍ أمين للجمال، وسيماً معتدّاً بذاته من دون شبهة غرور. دمثاً دافئ الحضور، عاشقاً للحياة بكل تقلّباتها وأفراحها وأحزانها وخيباتها، متوثّباً لخوض غمارها مثل طفل شقي. يدرك أن فسحة الفرح إلى زوال.
ثلاث حبات تمر، وفنجان قهوة سادة لم أثنّه، في أثناء زيارة مكتبه في مركز الرواد. لم أتخيّل أنها الأخيرة. حديث ودي خاطف وسريع ووعد بلقاء قريب. حدث ذلك قبل خمسة أيام من نبأ ذهابه المباغت في الغياب، مخلّفاً أحبته الكثيرين في ذهول.
* قاصة من الأردن
( العربي الجديد )