*محمد زكريا توفيق
كان يا ما كان، يا سعد يا اكرام، في قديم الزمان، عند بداية الكون، فيه صبيان، يتسابقان في الجري، بالقرب من حافة صخرة عالية، مطلة على مياه البحر اللازوردية.
كانا في نفس السن والحجم. أحدهما، له شعر أسود فاحم. الآخر، شعره أصفر كستنائي. نتيجة السباق كانت تقريبا متكافئة، رأسا برأس إلى قرب خط النهاية.
لكن في آخر لحظة، تقدم الصبي ذو الشعر الكستنائي على منافسه بمسافة صغير وكسب السباق. الصبي الخاسر، كان يستشيط غضبا. “لا تغرنك نفسك وتظن أنك أفضل مني”، قال الصبي الخاسر لرفيقه. “انت تعرف من تكلم؟ أنا ابن زيوس، كبير الآلهة”.
“وأنا ابن أبولو، إله الشمس”، أجاب الصبي الفائز، “واسمي فايتون”. في قول آخر، هو ابن هيليوس إله الشمس. وقد يكون أبولو هو نفسه هيليوس.
فرد عليه الصبي المهزوم قائلا: “أبي زيوس، ملك السماوات ومسير السحاب ومرسل المطر، الصاعق بالبرق بمطرقته التي لا تخطئ هدفها أبدا. عندما يغضب، تكفهر السماء ويظلم الجو، وتحتجب الشمس، ويدوي صوت الرعد.”
فرد عليه فايتون، الصبي الفائز: “بدون أبي، لن يكون هناك نهار. بل ليل مستديم. كل صباح، يقود أبي عربة الشمس الذهبية، التي تجرها الخيول البيضاء. يعبر بها السماء من المشرق إلى المغرب. هذا هو وقت النهار. أثناء الليل، يعبر بحر الظلمات بقاربه الذهبي، لكي يعيد الشمس إلى مكانها في الشرق.”
أجاب الصبي الآخر، واسمه إيبافوس: “في بعض الأحيان، أقوم بزيارة أبي. أجلس إلى جواره في مجلسه بقمة الأوليمب. من حين لآخر، يقوم أبي بإرشادي وتعليمي. ويقوم أيضا بإعطائي الهدايا.
هل تعرف ماذا أعطاني آخر مرة زرته فيها؟ مطرقة برق صغيرة. علمني استخدامها. لقد قتلت بها ثلاثة نسور متوحشة. وأشعلت بها حريقا في الغابة. فهل قمت أنت بزيارة أبيك؟”
فايتون، لم يقم بزيارة أبيه أبدا. خجل من البوح بذلك لـ “إيبافوس”. لكنه كذب وقال له: “بالتأكيد. أقوم بزيارته كثيرا. أذهب إلى قصره الشرقي لكي أراه. هو أيضا يعلمني أشياء، ويمنحني هدايا كثيرة”.
إيبافوس: “ما هذه الأشياء التي يعلمها لك؟ هل يجعلك تقود عربة الشمس بنفسك؟”.
فايتون: “نعم، إنه علمني كيف أقودها، وكيف أجعلها تسرع أو تبطئ أو تقف. الخيول التي تجرها كبيرة في حجم الجبال. تنفخ اللهب ويتطاير من أنوفها الشرر”.
إيبافوس: “أعتقد أنك تغرر بي وتتخيل هذه الأشياء. هذا واضح من كلامك. فلا أعتقد أن هناك عربة شمس أصلا. ها هي الشمس في كبد السماء، هل تراها تركب عربة تجرها الخيول؟”
فايتون: “ما تراه هو مجرد عجلة من العربة. هناك عجلة ثانية في الجانب الآخر. جسم العربة يختفي بينهما. حيث يقف السائق لكي يقود ويلهب ظهور الخيل لتسرع. لا تستطيع رؤية ذلك، لأن عينيك صغيرتان، وبريق الضوء شديد جدا”.
إيبافوس: “حسنا، ربما توجد عربة للشمس. لكنني لا أعتقد أن أباك أبولو، يسمح لك بقيادتها وحدك. أظن أنك لم تقم بزيارة والدك في قصر الشمس أبدا. ربما لو رآك أبولو، لن يعرفك. وقد لا تكون ابنه، وتدعي ذلك.”
فايتون: “سوف أثبت لك صحة ما أقول. سأذهب الآن إلى قصر الشمس، وأطلب من أبي قيادة عربة الشمس وحدي، حتى ترى بنفسك. سأقودها من الشروق حتى الغروب. وأجعلها تعبر وسط السماء في نصف دائرة”.
إيبافوس: “الكلمات رخيصة. أثبت صحة ما تقول بالدليل العملي. كيف أتيقن من أنك الذي تقود عربة الشمس؟”
فايتون: “سوف تعرفني. عندما أمر بقريتك، سأقترب بالعربة وأدور بها حول بيتك دورة كاملة. بذلك تراني بالتأكيد.”
آلمت فايتون كلمات صديقه إيبافوس. جعلت الدماء تغلي في عروقه. فقام بالسفر ليل نهار. بدون توقف، حتى للغذاء أو الراحة. نجمة الصباح، هي دليله إلى اتجاه الشرق. لكنه لا يدري أين يذهب.
في الواقع، هو لم ير أباه أبولو أبدا. يعرف أنه ابنه، من حكايات والدته. يعرف أيضا أن قصر الشمس، يوجد في اتجاه الشرق. لأن الشمس تبدأ من الشرق.
ظل يمشي ويمشي، حتى فقد طريقه بالكامل. بسبب الوهن والجوع والتعب وقلة النوم، سقط مغشيا عليه في أحد المراعي بجوار غابة.
بينما كان فايتون يمشي باحثا عن والده، كان أبولو يجلس على عرشه الذهبي المرصع بالياقوت، في قصره المنيف. يرتدي عباءة مخملية منقوشة بصور النجوم والكواكب ودائرة البروج، مرسومة بماء الذهب.
يضع أبولو على رأسه تاجا من الفضة واللؤلؤ، مهدى له من قبل إلهة الفجر. الطيور الزرقاء، ذات المناقير والمخالب والعيون الذهبية، تأتي من نوافذ القصر لكي تطير حول أبولو، تقف على كتفيه، وتتحدث إليه.
هذه الطيور، هي صقور أبولو الذهبية. وظيفتها، جمع المعلومات، وما يدور بين الناس من أحاديث. في بعض الأحيان، تسمى طيور التجسس أو المخابرات.
أنبأت الطيور أبولو، بأنها قد رأت ابنه. تساءل أبولو، أيهم؟ فأجابت الطيور: “فايتون، قادم لكي يراك. لكنه ضل الطريق. هو الآن ملقى على الأرض، خائر القوى من وعثاء السفر، بالقرب من الغابة. الذئاب المتوحشة تحوم حوله. ستقوم بافتراسه، وهذا شيء مؤكد. فهل هذا يرضيك؟”
أجاب أبولو: “يجب أن أراه. ارجعوا إليه قبل أن تلتهمه الذئاب. احضروه هنا أمامي. عاملوه كما يجب أن يعامل ابن إله”.
أخذت صقور الشمس البساط المتوهج، المفروش أمام العرش. حملته من الأربعة أركان بمناقيرها الذهبية. ثم طارت به فوق الصحاري والجبال والغابات، حتى وصلت إلى مكان فايتون.
هبطت الطيور في الوقت المناسب. إذ كانت الذئاب تعوي وتحوم حول الصبي وهو ملقى فاقد الوعي. أحاطته وجذبته بمناقيرها لتضعه فوق البساط، ثم حملت البساط بمناقيرها وطارت به عائدة إلى القصر الذهبي.
هواء الليل البارد، جعل فايتون يستفيق من غيبوبته. نظر حوله، فاكتشف أنه يطير في الهواء. جلس وسط البساط وهو يخشى السقوط. الناس من أسفل، ترى في ضوء القمر، صبيا يجلس القرفصاء على بساط طائر في السماء.
لم يروا الطيور التي تحمل البساط. فاعتقدوا أنه بساط الريح. (فريد الأطرش يصف لنا المشهد في أغنيته ويقول: “بساط الريح، جميل ومريح. وكله أمان، ولا البولمان”.
آخر شيء تذكره فايتون، هو أنه كان ينام على حشيش الأرض. إذن لا بد أنه يحلم، ولا غرابة في ذلك. يا له من حلم جميل، أن تطفو وتطير في الهواء. إنه حلمه على أي حال.
لكنه وجد نفسه يقترب من قصر، يقف أمامه حراس أشداء، يحملون الحراب الذهبية، تجري في فنائه، كلاب تحرس بوابته. هذه هي كلاب إله الشمس أبولو.
طارت الصقور بالبساط من فوق السور، ومرت بفناء القصر، ثم دخلت القصر، لكي تهبط بالبساط، وتضعه برفق أمام عرش أبولو. هنا تيقن فايتون أنه لا يحلم. بل كل ما يمر به، هو حقيقة مؤكدة.
رفع فايتون رأسه، فرأى أمامه شخصا طويلا يجلس على العرش. أطول من أي إنسان يعرفه. شعر أصفر ذهبي، عينان زرقاوان، جسم متناسق، ووجه جميل.
سجد فايتون على الأرض قائلا: “أبي، أنا فايتون ابنك” ثم وقف وساقاه يرتجفان.
أجاب أبولو: “نعم، أنت فايتون. والدتك هي كليمني. أتذكر والدتك جيدا. كيف حالها؟”
أجاب فايتون: “إنها بخير يا أبي”.
أبولو: “ألم أترك لها ابنة أيضا، شقراء جميلة جدا؟”
فايتون: “اختي، يا سيدي، اسمها هيليادس”.
أبولو: “نعم، بالطبع. لا بد من زيارتهما يوما ما. وأنت يا فايتون، ما الذي أتى بك إلى هنا؟ ألا تعلم أنك يجب أن تنتظر دعوة الآلهة قبل زيارتهم، حتى لو كانت لك صلة قرابة بهم؟”
فايتون: “أعلم هذا يا أبي. لكنني كنت مجبرا. فقد أغاظني ابن زيوس، إيبافوس. كنت على وشك إلقائه من فوق التل وإلقاء نفسي خلفه. إن لم أثبت له أنني لا أقل مهارة أو أصاله عنه.”
أبولو: “حسنا، أنت ابني حقا. ذو كبرياء، لا تقبل الإهانة، ولا تهرب من التحدي. تكلم يا بني، ماذا تريد؟ سأفعل أي شيء يسعدك.”
فايتون: “أي شيء يا أبي؟”
أبولو: “أجل، أي شيء بوسعي فعله. أقسم بنهر ستيكس، الذي يفصل بين الأحياء والأموات، وإنه قسم لو تعلم عظيم”.
فايتون: “أريد أن أقود عربة الشمس عبر السماء، وحدي. من وقت شروقها حتى غروبها”.
اجتاح أبولو غضب عارم، عند سماعه طلب ابنه فايتون. غضب جعل القصر بما فيه يرتجف. صرخ بأعلى صوته قائلا:
“مستحيل. لا لم يقم أحد غيري، من قبل، بقيادة هذه الخيول. إنها عظيمة في حجم الجبال. أنفاثها النار وألسنتها اللهب. إنها أقوى من الأعاصير وموجات البحار الغاضبة. أقودها بنفسي بصعوبة بالغة.
كيف يتسنى لصبي مثلك، ترويضها والتحكم في قيادتها وتوجيهها إلى مسارها الصحيح؟ سوف يفلت الزمام منك، وتجنح الخيول بعربة الشمس، وقد تقترب من الأرض فتصهر وتفحم كل شيء عليها.”
فايتون: “لقد وعدت يا أبي”.
أبولو: “نعم، أعرف ذلك. لقد وعدت، أيها الصبي الأرعن. هذا الوعد، هم حكم بالإعدام. جمرة متفحمة تطفو في الفضاء. حسنا، هذا ما تنبأت به عرافة دلفي. هذا هو مصير الأرض. لكنني لم أكن أعرف، أن حكم القدر سيتحقق بمثل هذه السرعة”.
فايتون: “الآن، يقترب وقت الفجر. أليس من الأفضل إعداد عربة الشمس للإقلاع؟”
أبولو: “هل لازلت مصرا على غيك؟ دعني أحاول إنقاذ الأرض للمرة الأخيرة. اطلب مني أي شيء آخر، وأعدك بتحقيقه.”
فايتون: “لقد طلبت ما أريد، يا أبي. وقد وعدت بتحقيقه. لقد هل وقت الفجر، والخيول لم تسرج وتربط بالعربة بعد”.
حتى تتحق نبوءة العرافين، وينفذ سهم القدر، لم يمنع أبولو رغبة ابنه في قيادة عربة الشمس. أخذه من يده إلى حظيرة خيول الشمس. لكي يرى بنفسه، خيولا عملاقة بيضاء ذهبية، مسرجة ومربوطة، على استعداد لجر عربة الشمس.
أعرافها وحوافها وعيونها ذهبية. عندما تصهل، يدوي صهيلها عبر السماء. تتنفث النار واللهب. تساس بالعمالقة التيتان، وهم أبناء عم الآلهة. في طول الأشجار، يلبسون ثيابا تحميهم من حرارة النار الشديدة.
عربة الشمس، من الذهب الخالص. لها عجلتان. كل منها في حجم قرص الشمس. إحداهما هي التي تظهر في السماء. اللجام في سمك جذوع الأشجار.
وقف أبولو بجوار الخيول يربت على بطنها، ويخاطبها برفق، ويدعوها بأسمائها. بايروس، يوس، آيثون، وفليجون. “اركضوا برفق هذا اليوم. ولا تحيدوا عن المسار اليومي. فلديكم سائق جديد”.
أومأت الخيول برؤوسها نحو أبولو، وغطت وجهه بلهيب زفيرها. هذا لا يضير أبولو البته، فالآلهة لا تتأثر بمثل هذه الأشياء. ثم توجه إلى فايتون مخاطبا:
“استمع لي. أنت على وشك بداية رحلة مرعبة. الآن، بحق طاعة الأبناء للآباء، بحق إيمانك بالالهة، بحق القسم الذي لا تستطيع الفكاك منه، بحق كبريائك الذي لا يلين، سر في طريق الوسط ولا تتطرف بالعربة. الارتفاع أكثر من اللازم، يجمد الأرض ويقتل كل الحياة عليها.
الاقتراب من الأرض أكثر من اللازم، يحرق ويصهر كل شيء. اترك الأمر للخيول، فهي تعرف طريقها جيدا. حذارِ أن تحاول إيقاف العربة أثناء سيرها. هل فهمت واستوعبت ما قلته لك؟”
فايتون: “نعم، نعم. دعني الآن أبدأ رحلتي، لقد تأخرنا، واليوم يجب أن يبدأ ويبزغ نوره. تحركي أيتها الخيول، تحركي. شي، شي، شي”.
وقف أبولو، وهو مرعوب، يراقب الخيول وهي تجر عربة الشمس الذهبية، يقودها ابنه الصبي، ويصعد بها المنحدر الشرقي عبر السماء.
في البداية، كان كل شيء على ما يرام. ركضت الخيول في طريقها المعتاد عبر قبة السماء الزرقاء. تعجب فايتون، بينه وبين نفسه، من تردد أبيه أبولو في الموافقة على قيادته لعربة الشمس وحده. فقيادتها، على ما يبدو، سهلة للغاية.
نظر فايتون من جانب العربة، فرأى منازل وأشجارا صغيرة أسفل، والبحر بزرقته الداكنة. العربة تسير في طريقها، وعجلات الشمس تدور وتنشر الضوء والحرارة على كل البقاع.
“كم من الناس الآن، تنظر إلى السماء وتراني وحدي أقود عربة الشمس؟” سأل فايتون نفسه. “لكنني صغير الحجم، لن يستطيعوا رؤيتي. هم أصلا لا يستطيعون رؤية جسم العربة أو الخيول. فقط عجلتها المواجهة لهم.
كيف يعرفون أنني قائد العربة، لا أبي أبولو؟ كيف تراني أمي واختي؟ لا شك انهما ستكونان سعيدتين. كيف أثبت لخصمي إيبافوس، صدق كلامي، وأنني قائد العربة؟ إذا أخبرته غدا بأنني كنت أقود عربة الشمس البارحة، سوف يسخر مني ولا يصدقني، وربما يتهمني بالكذب. كيف أثبت له، وكيف أنتصر عليه؟
لقد أخبرني أبولو، أبي، بألا أقترب من سطح الأرض. لكن كيف يعرف؟ سأقترب، ولو لبرهة قصيرة. سأطير بعربة الشمس فوق قريتنا وقرية إيبافوس، وأدور بها حول بيته دورة كامله، حتى يتأكد بنفسه. ثم ألهب ظهور الخيل لكي تواصل رحلتها المعتادة”.
احتضن فايتون لجام الخيول بكل قوته، وجذب رؤوسها إلى أسفل حتى تهبط. “اهبطي، اهبطي” صاح فايتون: “اهبطي”.
هبطت الخيول بعربة الشمس. عندما اقتربت من قرية فايتون، أصيب بالرعب عندما وجد بيته يشتعل بالحريق، والأشجار كلها قد تفحمت. الناس تهيم على وجوهها وهم يصرخون من ألم النار المشتعلة في ملابسهم. الدخان يكاد يغطي معظم القرية. لم يدر فايتون، هل هي قريته؟ وهل تسبب بفعله هذا في حرق بيته وأمه وأخته؟
قام فايتون بجذب لجام العربة بكل قوته صائحا: “اصعدي، اصعدي، اصعدي” الخيول وقفت على أرجلها الخلفية في الهواء. ثم قفزت إلى أعلى تركض خلال الدخان، وهي تجذب عربة الشمس إلى أعلى.
عندما وصلت العربة إلى برج العقرب، قام العقرب بذنبه الهائل بلدغ الحصان الذي في مقدمة العربة. عندئذ، هاجت الخيول وجمحت. جرت بأقصى سرعتها إلى أعلى، والمسكين فايثون في العربة في حالة يرثى لها. لا يستطيع التحكم في سيرها. يرتجف ويبكي من الرعب، ويندم على عدم سماعه نصيحة والده أبولو.
عندما بلغت العربة عنان السماء، ووصلت إلى منتهى القبة الزرقاء، كانت من السرعة والاندفاع، جعلتها تحدث مزقا في قبة السماء الزرقاء. هذا المزق، هو ما نراه الآن ونسميه طريق التبانة، أو الطريق اللبني.
أصاب الأرض ظلام دامس. كل شيء عليها قد تجمد، البرك والأنهار والبحار. لم يعد أحد يستطيع الكلام أو التنفس. الناس كلها ماتت من البرد والصقيع.
لا يزال فايتون غير قادر على التحكم في قيادة العربة. وهي مستمرة في الصعود إلى أعلى. لم تعد الخيول أو فايتون قادرا على التنفس بسبب ابتعاده عن الغلاف الجوي.
بسبب نقص الهواء، أصاب الخيول جنون على جنون، جعلها تغير من مسارها وتهبط رأسيا في اتجاه الأرض مرة أخرى. أثناء هبوطها، بدأت الثلوج في الذوبان. تسبب ذلك في فيضانات مدمرة. اكتسحت القرى وأزالتها من على سطح الأرض. الأشجار قلعت من جذورها والغابات أزيحت بالكامل كأنها لم تكن. الحقول غمرت بالماء.
مع اقتراب عربة الشمس، بدأت المياه تغلي وتتحول إلى بخار. الأسماك الميته تطفو على سطح الماء. حوريات الماء ينتحبن على قيعان الأنهار الجافة.
لم يستطع فايتون الرؤية بسبب كثافة البخار. لقد ترك لجام العربة فلم يعد له فائدة. أخذت الخيول تصعد من جديد هربا من البخار. ثم عادت أخيرا إلى مسارها المعتاد. لكن بسرعة رهيبة.
هذه السرعة، جعلتها تدور حول الأرض دورة كاملة في دقائق معدودة. الليل والنهار أصبحا ومضات سريعة تمر كلمح البصر.
هناك على قمة الأوليمب، تجلس الآلهة في حديقتها في طراوة العصاري الدائمة، وسط النوافير والرياحين والزهور العاطرة والأشجار المثمرة. لكنهم وسط هذا النعيم المقيم، بدأوا يسمعون صرخات استغاثة تأتي من أسفل.
نظر زيوس إلى الأرض من فوق، فرأى خيول عربة الشمس وهي تجري في كل اتجاه خارج مسارها اليومي. رأى أيضا الأموات والحرائق والفيضانات والخراب في كل مكان.
نظر مرة ثانية إلى عربة الشمس، فلم يجد أبولو يقودها، بل شخص آخر لا يعرفه. وقف وأمسك زيوس بمطرقته البرقية. ثم صوبها اتجاه فايتون فأرداه قتيلا.
سقط جثمان فايتون من العربة يهوي كالشهاب، ليستقر في قاع نهر إريدانوس. ثم جعل زيوس الخيول تركض عائدة بدون سائق إلى حظيرتها، في الجانب الشرقي من السماء.
هيليادس، اخت فايتون، وباقي أخواته البنات، ذوات الشعور الذهبية، كانت تقفن على شاطئي النهر الذي سقط فيه أخوهن، ولا تكففن عن البكاء والنحيب.
لم يستطع أبولو عزاءهن أو التخفيف عن مصابهن. فقام بتحويلهن إلى أشجار. ترتص على جانبي النهر، تبكي مع هبوب الريح وتسيل دموعها على سيقانها.
منذ ذلك اليوم، لم يعد مسموحا لأحد، غير إله الشمس نفسه، بقيادة عربة الشمس. لكن لا تزال هناك شواهد باقية على تجربة فايتون غير الميمونة. الثلوج، لا تزال تغطي القطبين وقمم الجبال.
كان لفايتون، قريب وصديق وفي، هو سيكنوس، ملك ليجوريا. عند سماع سيكنوس بموت فايتون، ألقى بنفسه في النهر، وأخذ يعوم جيئة وذهابا، بحثا عن جثة فايتون. حركة سيكنوس فوق سطح الماء، جعلته يشبه من بعيد، بجعة تبحث عن طعام.
رق قلب أبولو لـ “سيكنوس”، الذي مات حزنا على صديقه فايتون. فرفعه أبولو إلى السماء، ووضعه كبرج من أبراجها. هو برج سيجنوس أو البجعة (الدجاجة عند العرب) أسطع نجومها، نجم الذنب، وهو نجم عملاق.
______
*ميدل إيست أونلاين