فئران سعود السنعوسي بلا عمود فقري… تسبح في زمن سائل!


*محمد العباس

إذا زاد منسوب الفكرة عن الحد في العمل الإبداعي، كما يقرر هيغل، استحال الفعل إلى خطاب. وهذا هو ما حدث في رواية «فئران أمي حصّة»، الصادرة حديثاً عن الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات ضفاف، إذ يبدو أن سعود السنعوسي أسس روايته على الفكرة. وانجرف بقوة ناحية الموضوع، ولم يفكر في حبكة المادة الخام التي يختزنها في وعيه ووجدانه، حيث استجلب أزمة حياتية صاخبة من خارج النص، وفرضها على مجمل عناصر السرد، بعد أن حولها إلى كتلة من الأحداث الضاغطة، أو ما يُعرف نقدياً بالقيمة المهيمنة. 

ويبدو أنه أراد، من خلال قوة الطرق على الموضوع، أن يدق جرس الإنذار للمجتمع الكويتي، الذي يعاني من احترابات طائفية وعنصرية، على إيقاع أحداث سياسية عاصفة تلقي ظلالها على وجدان ومعتقدات الفرد الكويتي وتفسّخ نسيجه الاجتماعي، أو هكذا تبدو الرواية تصريحاً وتضميناً، بمعنى أنها تستجيب للنقد الموضوعاتي أو ما يُصطلح عليه في الحقل الثقافي بالنقد الثيمي، حيث يتكرر الظهور المتعدد لذات الموضوع عالي الحساسية، وكأنه يمارس الحفر في النقطة ذاتها بدون التقدم خطوة إلى الأمام.
متوالية من الأحداث المزلزلة التي مرت بها الكويت خلال العقود الماضية يستدعيها السنعوسي ليرصد أثرها على الذات الكويتية المسالمة المحبّة للحياة، حيث يتطرق للحرب العراقية الإيرانية واحتلال العراق للكويت وتفجير الحادي عشر من سبتمبر/أيلول وغيرها من الأحداث التي أدت إلى مضاعفات وتأثيرات حادة في عمق البُنى الفكرية والوجدانية للإنسان الكويتي، من خلال مجموعة من الأطفال (فهد وضاوي وصادق) الذين ينتمون إلى مذاهب مختلفة ومتعايشة، وإلى بيئات قبلية وحضرية قادرة على التجانس والسلم الاجتماعي، حيث يكبرون في ظل نوبات من الكره الاجتماعي بسبب تلك الأحداث الكبرى التي تستفز المكوّن العقائدي لكل فئة، وتدفعهم للتمترس في خطوط دفاعهم العقائدية في التماثلات المادية الشكلية الهشة لـ(العمامة واللحية والبشت)، إذ لا يبرئ أحدا من هدم معبد العائلة الكويتية الواحدة.
تلك هي البنية الكبرى للنص. فالفئران التي يلوّح بها، ويحذر من أنها آتية، كما يكرر، تأخذ أحياناً شكل الملاحدة وأحياناً شكل المتمذهبين. وهكذا حسب السياق واللحظة والذات التي تترقبها، وهذه هي أرضية الأفكار والوقائع والأحاسيس المتسلطة على سعود السنعوسي، التي يفرشها ليقيم عليها دعائم سرده، إلا أنه لا يحرك أبطاله بأي اتجاه، فهم على درجة من السلبية والخنوع وكأنهم من الوجهة الفنية مادة ذائبة في مجرى الأحداث واللغة، أو المعادل الموضوعي لحجم الكويت السياسي قبالة ثلاث دوائر كبرى هي، العراق والسعودية وإيران ومن فوقها أمريكا بكل جبروتها، بمعنى أنه ينقل بأمانة بانورامية كل ما مرت به الكويت من موقع المتفرج، حيث يختصر ما بعد تحرير الكويت وطبيعة الولاء والحسّ الكويتي العام بعبارات دالّة «ما عاد للـ»ريِّس» حضور في بيت آل يعقوب، والمحبة العراقية صارت سعودية، صار صوت أبي سامح الفلسطيني صوتاً آخر لشاب سوري».
كل حدث يتم ادخاله في السرد يكون بمثابة الدليل على تعمُّق الهوة ما بين الأسرة الكويتية الواحدة واتساعها، كقضية إعدام الكويتيين بعد حادثة الحرم، وإشكالية تأبين عماد مغنية، وبروز تنظيمات موالية لـ»القاعدة» في الكويت ومحاولة قتل جنود المارينز وغيرها من العلامات التي يراقبها الطفل الذي ينمو السرد على إيقاع نموه، ويسجلها بعينيه، سواء ككتابات شاحبة على الجدران، أو كأفلام مصورة في الأخبار، أو كمشاهدة واقعية، فيما يبدو محاولة لنقل السرد من مستواه التأمّلي المباشر إلى تعقيدات السوسيو- ثقافي، والسوسيو- تاريخي. وهنا مفارقة كبرى. فهو كروائي يبدو على درجة من الامتلاء الإرشيفي والوعي الإخباري الاختزالي للحدث الكويتي، فيما تعاني شخصياته من الخواء المعرفي والعجز الأدائي.
والغريب أن سعود كروائي يقف على مسافة بعيدة جداً من كل ما يحدث، حيث يتخفف سرده من العاطفة، وتنسلخ مفرداته وعباراته من الدفقة الشعورية، لدرجة أن النص كله يفتقر إلى دفء وحميمية السرد، عدا مفاصل قليلة جداً مقارنة بحجم الرواية. ربما لأنه بالغ كثيراً في الاتكاء على الموضوع، ولم يجد لسرده من غطاء وجداني إلا صوت الفنان عبدالكريم عبدالقادر، الذي يحايث كل ذلك التاريخ الممتد من ثمانينيات القرن الماضي إلى اللحظة الراهنة، فكل مناسبة رياضية أو قومية أو سياسية تكون له أغنية تلخص الحدث وتمدد مساحة المجد، حيث تتحرك الرواية بكل وقائعها تحت هذه المظلة الوارفة. فهو (يغنينا كلنا) بتعبير سعود. وبالتالي جاء صوته كقيمة توحيدية لإرادة ومزاج الإنسان الكويتي. كما جاء طيف المعلق الرياضي خالد الحربان واللاعب مؤيد الحدّاد في هذا السياق، وكذلك الجدل حول اسم الفنان عبدالحسين عبدالرضا.
لا انفعالات ولا مفاجآت في «فئران أمي حصّة»، وكأنها قد خرجت من مختبر الموضوعية البارد، فالسرد أفقي واقعي متجرد من الخبرة الحواسية، وتحت سجادة العرض البانورامي تلك يمكن التقاط نبرة وعظية تضاعف سكونية السرد. كما يمكن استشفاف ذلك من عدة دلائل أهمها انعدام وجود شخصيات على درجة من الاستواء أو الانبناء، مقابل حضور أصوات لا تلبس لحم وأحاسيس الشخصية الروائية. 
الزمن أيضاً على درجة من الهلامية، وإن كان سعود السنعوسي قد لجأ هنا إلى تقنية سردية لا تجعل من أي لحظة زمنية مرتكزاً لما قبلها أو بعدها، حيث صار يسرد الوقائع المنقضية والأحداث الآفلة بصيغة المضارع «يحدث الآن»، وكأنه يعتمد على فن الحدوث، بمعنى أنه لم يفصل الزمن الكويتي إلى حاضر وماض ومستقبل، بل تعامل مع الزمن ككتلة واحدة متصلة بالمفهوم البرجسوني، وهذا التسييل للزمن، هو الذي أوحى بأن الخراب الذي يحاول التحذير من ويلاته، لم يترسّب في الماضي، بل هو قيد الحدوث، وما زالت مضاعفاته حاضرة.
هنا يكمن السر ربما، في عدم لجوئه إلى السرد الميلودرامي، الذي تقتضيه مثل هذه الأحداث، وعدم تفخيخ روايته بعبارات شاعرية مدّوخة تعادل الشعاراتية، لأنه جعل من الرواية بمجملها كتلة من الخراب الآيل للسقوط على الجميع. كما يتمثل ذلك في صوت الأم حصّة، الباقي رنينه في الدار بعد رحيلها، كإحالة ضمنية للأصالة والرحابة والتسامح. وانطفاء الرومانسية من خلال عَمى فوزية وهي تقرأ إحسان عبدالقدوس، واختفاء البلاي ستيشن التي كانت لعبتهم في الديوانية لتحل محلها سجالات وأخبار ضاوي الذي صار له ملف أمني في وزارة الداخلية، واقتتال الكويتيين على إيقاع التناحر الطائفي في العراق المجاور. كما يؤرخ لكل ذلك التيه والدمار في الفضاء الاجتماعي الكويتي بتفجيرات المقاهي الشعبية عام 1985، أي قبل شهر واحد من حصوله على دراجته الهوائية، حيث صارت والدته تمنعه من الخروج بها إلى الشارع لأن الهلع والخوف استبد بها.
بالصوت الجريح، صوت عبدالكريم عبدالقادر يحاول سعود السنعوسي تشخيص الذات الكويتية المرعوبة، المنفصمة، المرتبكة، التي تغير ولاءاتها وتحالفاتها وتجدد مخاوفها بتجدّد الأحداث. يكاشفها بهواجسها، بأمراضها، بهامشيتها واستلحاقها الآلي بمواطن القوة ومنازع الشرور الطائفية والقبلية. فالمعاني العميقة لا تقال في سطح النص، وذلك هو المركز الحيوي الذي يُفترض أن تنهض عليه ثيمة الرواية، حيث تتحشد محاوره في كتلة دالة، ومنه يمكن استخلاص منظوراتها، فالروائح المتعفنة الحامضة للفئران اللامرئية هي النسيج التحتي للنص، وسعود هنا في جدليته التي يقيمها كمؤلف، لا يلمّح بقدر ما يؤسس لبؤر متوترة وحساسة، حيث يحاول أن يحرك البنية الدلالية الغائرة في النص ليؤرجح بنيته الشكلية، ولكن كل ذلك يبدو مطموراً تحت وطأة الموضوع وتتالي الحوادث.
من هذا المنظور يمكن مقاربة «فئران أمي حصّة» كأحداث تحاول أن تُروى، حيث يستجمع كل ما يثار في الحيز الاجتماعي ويفصّحه، بمعنى أن يحوّله إلى لسان أو منظومة من التداعيات القابلة للانتظام في سياق روائي، إلا أن الحسّ الإخباري الطاغي يعزز خمول البنية الداخلية للنص، ويمنع حضور الأبطال، ويعطل المفهوم البنائي التركيبي للنص. فالرواية تفتقر إلى عمودها الفقري المتمثل في الحبكة، وبالتالي يتضاءل وجود التوتر الدرامي في كل مفاصلها، بل ينعدم حضوره، وهو أمر طبيعي ومتوقع بناء على تأسيس فرشة الرواية، لأن الموضوعاتي يقع خارج النص وليس داخله، وهذا هو ما يوحي أحياناً بارتجال الوقائع، وعدم تمريرها في مختبر التجربة ومعمل الخبرة الذاتية لسعود، لكأنه يراهن وبقوة على حساسية المضامين التي يدفع بها في سياق النص.
كمن يرسم لوحة محتشدة بالعناصر والوحدات بنى سعود نصه، إلا أن نظام العلاقات في لوحته/روايته يعاني من اختلال في إعادة تركيب الموضوع وفي مفاعلة الزمان مع الفضاء المعاش، حيث تبدو الخلفية مشغولة بعناية أكبر من الوحدة الرئيسة في العمل. والسبب كما يبدو ناتج عن دخول سعود إلى روايته بكامل وعيه، والوعي من الوجهة الموضوعاتية، يتحول بشكل آلي إلى موضوع، وهذا هو ما يفسر التوسع الشبكي لنصه في الاتجاه التحذيري من الفتنة ذاته، والتمدُّد الخيطي بهذا المنحى، المستند في جوهره إلى سطوة المنطق، وهو أمر يبدو على درجة من الوضوح عند رصد ملفوظات النص واستنطاق مدلولاته، فهو صادر عن ذات تحاول تثبيت مبدأ، وعليه تراكم مفاهيمها وتلهث وراء الحدث.
ربما جاء صوت عبدالكريم عبدالقادر كمقترح روحي لتذكير الذات الكويتية بمنابع الخير والحب والجمال فيها، وهو كذلك تحت كل الاعتبارات الحياتية، إلا أنه بموجب المقاربة النقدية يمثل في سياق النص بنية إشعاعية لا حد لتأثيراتها، حيث يستدعي صوته في «وطن النهار» ليستحضر الوطن من خلاله، وبالتالي فهو بصدد تشييد بنية شبكية تلامس اللحظة الكويتية بكل تفاصيلها وتعقيداتها، كما يمارس الحنين بارتدادات ذات مغزى «كانت معي، طول العمر، عين وهدب .. كانت معي، من الصغر، حبّ انكتب». ليواصل رسم الخط البياني لتلك الذات المتعبة بصوت المطرب المحبوب الشائخ (نبي نعيش). 
هكذا يترنح على صوته ويتأمل تحولاته التصورية، من المنطلق البارتي، التي يظهر فيها شاباً كويتياً متأنقاً، وفي لحظة من لحظات العتمة يظهر على غلاف كاسيت بلحية مرسلة. وكأنه يرصد التبدّل القسري لذات مستلبة. وفي ما يبدو محاولة لتفجير النص من خلال حساسية الموضوع أيضاً، يعود إلى ذات المكمن، أي بحة الصوت الجريح الذي يغني أغنية المجد «غصباً على الآلام، ترجع وطن من جديد» ليسأل نفسه بحرقة «إزاء وطن رجع، أو أرجعوه، بعد احتلال، ترفض الفكرة بأنهم ما أرجعوه ولكن شبّه لهم». 
بالمفهوم البروستي، تبدأ العبقرية الروائية مع انهيار الأكاذيب التي ترتكز على الأنا، وهذا هو الخيط الذي التقطه سعود وأراد نسج روايته بأول طرفه، إلا أنه وهو يجادل في «فئران أمي حصّة» فكرة الزمن المستعاد، بكل عفته وطمأنينته، لم يستنفد المادة الخام للأربعة عقود الماضية من خلال ثورة روحية أخلاقية، كما يتطلب فعل الاستعادة، بقدر ما قدم عرضاً بانورامياً ممتداً في زمن سائل، أشبه ما يكون بنشرة أخبارية طويلة.
كاتب سعودي/ القدس العربي

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *