*مهند النابلسي
( ثقافات )
لا شك بأن الثورات التي عصفت أخيرا بعالمنا العربي كانت مبررة تماما نظرا للظلم والبؤس والقهر والمعاناة المتراكمة عبر السنين، التي أدت للاحتقان والتمرد والثورة على الفساد والطغيان والقمع. وربما لم يأخذ محمد بوعزيزي، التونسي الثائر الشهيد، الذي اشعل هذه الثورات، حقه من التقدير والتبجيل، فقد ابتدأ من تونس ثائرا على الاضطهاد والمعاناة والقهر، فضحى بذاته وحرق نفسه ليؤجج ربيعا عربيا عارما ويزيح الطغاة ويؤسس لثقافة جديدة في عالمنا العربي البائس.
وبغض النظر عما آلت إليه بعض هذه الثورات من فوضى وتخبط واقتتال داخلي، بتأثير الجهل والارتزاق والعمالة للأجنبي، ودخول الانتهازيين وتجار الأيديولوجيات والأديان والأوطان واستغلالهم لجهل العامة وضعف وعيهم وثقافتهم، مما أدى لضياع البوصلة أحيانا، وربما لبعض التيه والتخبط، الذي أرجو ألا يدوم طويلا ويتحول لـ “فوضى خلاقة” وغير خلاقة.
كان ساحر الأدب في أميركا اللاتينية، الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، سباقا في رؤيته الاستبصارية لواقع ومستقبل الشعوب البائسة عندما قال: “إن كل رواية جيدة هي سبر لأغوار العالم”. وقد استخدم هذا الكاتب سحر اللغة ليعبر عن ظروف انسحاق وضياع إنسان أمريكا اللاتينية، الذي هو في نظرنا إنسان العالم الثالث، إنسان العالم العربي .
وبالرغم من وصف ماركيز الباهر لحياة التعساء إلا أنه لا يميل للادعاء بأنه يملك علاجا سحريا لكل الأمراض التي تنهش حياتنا، ففي قصته “أرنديرا البريئة” وجدتها القاسية يعبر عن مرارة الفقر واليتم تحت ظل التسلط والقمع: “لم تكن أرنديرا قد سمعته، ومضت تعدو باتجاه الريح، اسرع من الغزالة، فلم يستطع صوت من أصوات العالم إيقافها”.
أما في ” الثلاثة السائرون نياما يستشعرون المرارة” فيعبر ماركيز عن الانسحاق والعدم عندما تصبح الحياة كابوسا: “وكنا نعلم أن بها من النبض الإنساني ما يجعلها تمضي في التصميم على تصفية وظائفها الحيوية، وأنها ستمضي بصورة عفوية في القضاء على نفسها”.
وفي قصته “عينا كلب أزرق” ينتقل لسريالية حزينة: “مضيت إلى الباب، حين أمسكت بمقبضه، سمعت صوتا يتردد على النحو ذاته دونما تغيير، قالت: “لا تفتح ذلك الباب، فالدهليز متخم بالأحلام العسيرة الاحتمال”.”
إنها مشهدية سريالية مليئة بالمجاز المعبر، تذكرنا بالممثل شون بين وهو يجتاز بابا فوق أرض صخرية للولوج للماضي والمستقبل معا، وكأنه يدخلنا لمتاهة وتداعيات طفولته ومستقبله في حلمه العائلي الحميم.
ثم يستعرض ماركيز “عبثية جهد الكادحين” بأسلوب تعجز عنه أرقى المؤثرات التصويرية والصوتية عندما يقول: “راح يجدف على هذا النحو، وقد انكمش في جلده، بحيث لم يعد يدري من أين جاء تنفس كلب البحر المخيف الذي بلغ مسامعه فجأة، ولماذا اصبح الليل اكثر زخما كما لو كانت النجوم قد ماتت فجأة”.
أما في قصته “الطيب بائع المعجزات” فيستخدم المغامرة اللغوية بسخرية مليئة بالفكاهة السوداء، ويعبر عن نمط الوحشية التي يتعرض لها المعتقلون في كافة معسكرات الاعتقال وغياهب السجون (أيا كانت): “أخيرا القي بي لأتعفن داخل زنزانة التوبة، التي كان مبشرو العهد الاستعماري يصلون بها ويقومون الهراقطة”.
ثم يسترسل: “لكنه جعلني ادفع ثمن ذلك الكرم بنزع أظافري باستخدام “كلابة”، ثم ملأ فمي بالتراب”.
ولا ينسى ماركيز حتى مشردي الكوارث الطبيعية في عالمنا البائس، حيث يقول في قصته “مناجاة ايزابيل” وهي ترقب المطر في ماكوندو: “لم اكن قد نلت إلا قسطا يسيرا من النوم تلك الليلة، حينما استيقظت فجأة بسبب رائحة كريهة ومتغلغلة تضاهي رائحة الجثث المتحللة”.
تشبيه يتجاوز الواقع الكارثي ويضع القارئ أمام الحدث المأساوي بلا مواراة ومبالغة. وأحزن عندما أقارن هذا المشهد القصصي الصادق والإنساني بأكاذيب الفضائيات الإعلامية العربية وهي تحاول بغباء استنطاق شاهد عيان كاذب، يحاول بالتضخيم والمبالغة أن يقنعنا بصدق أكاذيبه.
عشت لأروي
يستهل ماركيز مذكراته الشهيرة “عشت لأروي” (2002) بعبارة بالغة الدلالة: “الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هي ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه”.
وبالفعل فوعينا بذكرياتنا هو الذي ينطبع أخيرا في ذاكرتنا، وهو الذي يسير حياتنا ويقود طريقة تفكيرنا وردات فعلنا تجاه أحداث الحياة. وقد ساعدت القرية العالمية والانفتاح وثورة المعلوماتية والأنترنت والفيسبوك على تطوير الوعي البشري ونمط المقارنة ومستوى المعيشة والطموح، وجعل من الصعب الرضوخ للأمر الواقع و”التفكير القدري”، وعزز لدى الجماهير العربية الرغبة بالتغيير والخروج من الواقع البائس وتجاوز المحن التي تصنعها يد الإنسان بحق أخيه الإنسان.
ونحن كبشر ربما نتقبل كوارث المناخ و الطبيعة لصعوبة مواجهتها ولأنها قدرية الطابع ولا مناص لنا لتجنبها. وكما يقول ماركيز في مذكراته : “وأقدم ما تتذكره فيها هي جانحة الجراد التي عاثت خرابا في الزروع، عندما كانت لا تزال صغيرة جدا، ولقد كان يسمع مرور أسراب الجراد وكانه ريح أحجار، وكان على السكان المرعوبين، أن يتحصنوا في غرفهم”.
ثم يسخر من الجهل والشعوذة قائلا: “ولم يتم الحاق الهزيمة بتلك الآفة إلا بفنون الشعوذة”.
ثم يستطرد في وصف كوارث المناخ قائلا: “وفي كل وقت، كانت تباغتنا أعاصير جافة تقتلع سقوف الأكواخ، وتنقض على الموز الجديد، وتخلف القرية مغطاة بغبار كوكبي، وفي الصيف تنكل بالمواشي فترات جفاف رهيبة، أو تهطل في الشتاء أمطار كونية عاتية تحول الشوارع إلى أنهار مائجة”.
إنه وصف سينمائي رائع لمحن الطبيعة ينطبع في الذاكرة.
ولكن ماركيز يعترف بلؤم وظلم وحقارة الممارسات البشرية التي تفوق محن الطبيعة تأثيرا، والتي يصعب تقبلها: “ولكن أسوأ الجائحات وأشدها شؤما، مع ذلك، هي الجائحة البشرية، فقد قذف قطار، يبدو مثل دمية، على رمال القرية المتوقدة، حثالة مغامرين من كل أنحاء العالم، استولوا بقوة السلاح على السلطة في الشارع”.
ألا يتشابه هذا الوصف المدهش لحد بعيد مع نكبة استيلاء الصهاينة والمستوطنين العنصريين على الأراضي الفلسطينية؟ ومع اختلاف التفاصيل، ألا تصف هذه التعبيرات البليغة واقع الاستيطان السرطاني في القدس ومدن وقرى الضفة؟
وبعد ألا تجعلك موهبة كتابية فذة كهذه تدخل في حالة تأمل إنساني–تفاعلي، وترقى بمشاعرك وأحاسيسك وتمنحك مناعة روحية لتقبل ومواجهة المحن بعزيمة، وللتعاطف مع المظلومين والمسحوقين والمضطهدين الحقيقيين؟ من قال إن الفن الراقي لا يجب أن يكون هادفا، ومعبرا عن الروح الحزينة لملايين البؤساء في كوكبنا غير المتوازن، المليء بالمصائب والظلم والإجحاف؟