*عناية جابر
رواية ضخمة تربو على الألف صفحة فيها كل تباريح الهوى والجوى، ولا تفرغ من تناول خبايا هذا العشق واحاطته بشواهد وأمثلة كما لو الحياة تبدأ عشقاً. إنها «قواعد العشق الأربعون» (2010) للكاتبة التركية إليف شافاق (الصورة) التي صدرت نسختها العربية عن دار «طوى» (ترجمة خالد الجبيلي). شافاق المولودة في ستراسبورغ الفرنسية عام 1971، تعد اليوم واحدة من أكثر الأصوات تميزاً في الأدب التركي والعالمي المعاصر.
أصدرت حتى الآن 11 كتاباً منها ثماني روايات مستمدة من مختلف الثقافات والتقاليد الأدبية، وفيها تلك الرغبة العميقة للكاتبة في مقاربة التاريخ والفلسفة والتصوّف والثقافة الشفوية والسياسات الثقافية، كما تمتاز بعينها الثاقبة في الكوميديا السوداء. روايتها «قواعد العشق الأربعون» تتناول مواضيع في العشق، وفي الحب بين الشرق والغرب، والماضي والحاضر، والروحي والدنيوي، كل ذلك من خلال رواية عن جلال الدين الرومي (1207 – 1273) وشمس التبريزي (1185 ــ1248).
«إذا سقط الحجر في بحيرة، فلن تعود البحيرة ذاتها مرّة أخرى». على ركود طوال أربعين عاماً، كانت حياة إيلا روبنشتاين مثل مياه راكدة، حتى حلّ العشق أخيراً، وبسببه طلبت إيلا الطلاق من زوجها الذي لم تحببه بعد مضيّ عشرين سنة على زواجها. العشق، هو حجر إيلا الذي رمتهُ في ركود بحيرة حياتها، مع عشيق لا يعيش معها في المدينة نفسها، ولا حتى في القارة ذاتها. ولم تكن تفصل إيلا عن عشيقها أميال كثيرة فقط، بل كانا كذلك مختلفين لدرجة استحالة تحمّل أحدهما وجود الآخر. لكن العشق حدث فعلاً. حدث بسرعة لم تُتح لإيلا الوقت كي تدرك حقيقة ما يجري، أو لكي تحذر من الحب. التركيب الذي اعتمدته إليف شافاق، وأسقطته على جلال الدين الرومي وشمس التبريزي، حمل عناصره كافة، سواء كانت رصينة أو عابثة، فحلقّت في سردها الجمالي عالياً، ومنحت قارئها متعة متساوية في الحكاية الأساس وفي الحكاية المبني أو المُسقط عليها.
استعملت شافاق كل حريتها الإبداعية أثناء التأليف من دون فبركة شعور الترّقب لدى القارىء، ومن دون النيّة في جعل العمل قابل للتصديق. استعملت الروائية كل العناصر الفنية وتمسّكت بصيغة مهمة، وهي خلق عمل تكون فيه الروابط والجسور ممسوكة جيداً بين الحقيقة والمتخيّل. ومن أجل الشكل الفنّي ومتطلباته، لم تتخّل عن سطر واحد مما هو مهّم بالنسبة للسرد، ومما هي نفسها مسحورة به. لدى إليف تلك الثورة ضد تقليد الواقع، باسم قوانين الفن المستقلة ذاتياً. وأحد المتطلبات العملية لهذه الاستقلالية، هو أن جميع اللحظات، جميع الأجزاء الصغيرة في العمل، لها أهمية جمالية متساوية وتقترب تماماً من الفن الحديث. تتضمّن «قواعد العشق الأربعون» مقاطع مؤلفة، وطويلة عن أبطالها، وعن ماضي كلّ منهم. عن طريقة تفكيرهم وأسلوب حديثهم والوصف التفصيلي لحياة جلال الدين الرومي وشمس التبريزي وتداعيات المرأة العذبة إيلا. هذه المقاطع شكلت حياة السرد، ومكنت الكاتبة من البناء على متن شديد الإتقان يسمح بتحقق أقدار شخصيات روايتها على مهل. وهي أقدار، رغم العشق ومكابداته التي أوصلتها إليه، انتهت نهايات طبيعية حيث لا ينتصر فيها سوى الحب الذي بقي يُرخي بثقله على الرغم من أفوله.
الروح منتصرة في رواية الكاتبة التركية إذن، رغم أننا نقرأ بقدر هائل من البلبلة الذهنية، في نهاية العلاقة بين الرومي وشمس (نتيجة الزمن والانكشافات وألاعيب الكاتبة)، حيث الحوارات في خضّم أجوائها الصوفية تتوارى شيئاً فشيئاً لتصبح أعنف فأعنف بسبب التغير المستمر في مواقع المحبين المتحاورين، على الصعيدين الزمني والشعوري.
جمالية جلال الدين الرومي وشمس التبريزي تنتمي إلى الحقبة الواحدة من حياتهما وحياة الرواية. كلاهما مفكران واسعا الرؤية وأفكارهما تتجلى في كل نقطة من العمل. بإتقان عال كتبت شافاق روايتها الفكرية والوصفية والغنائية ذات التركيب الموسيقي المبني على تيمات تكبر وتزدهر في السرد مثل نمو العمل السيمفوني، أي على أساس التكرار المضبوط، والتقاطع، ومصاحبة أحداث الرواية.
قد لا ينوجد العشق في سطح المجريات كمسمّى أو شكل أو توصيف، لكن القارئ يتنشقه وثمة رائحة تستدعيه، ومدى يشبهه، وطراوة تبدو كمقطوعة موسيقية صغيرة. انه مسعى الكاتبة في الرواية لإخفاء العشق شكلاً، من شساعته وأسراره ووقوفه على الحّد الهيّن الرهيف لكتابة حياة متخيلة، وعلى استعادات فنية لنغمات تصدر عنه. حتى ان كتابة تفاصيل يومية عن تلك «العلاقة» ليست بعيدة عن انفتاح روح الكاتبة على العشق المُدرك بالحسّ والإصغاء.
العشق في رواية شافاق، يأتي أيضاً ليضيف على السرد ما يمكن تسميته بالتمرّد الشعري الذي لا يمكن للقارئ تجاهله. كما ليس ممكناً الحديث هنا عن رواية ناجحة في شكلها الفني والتركيبي من دون أن تكون مُهواة من الواقع الفعلي ومن ضيق المكان والزمان، فهي هنا رازحة بفضل التخييل تحت وطأة هموم وجودية أكسبتها صفة السحر.
سرد الكاتبة تفصيلي، مُتأن، دقيق، موسوس، بسبب الزمن الذي عادت به شافاق إلى الخلف. في «قواعد العشق الأربعون» اجتهاد وضنى شافاق. تكتب في الطب والتشريح والفلسفة والموسيقى، وفي مفهوم الزمن، وفي مدينة الله، وفي الوله الذي ينتهي شأن سائر الأشياء. قرأنا ذلك النبل الجوهري للنموذج البطولي للكائن، وللتعبيرات الجديدة الغريبة للحياة، وللكلمات التي تلوح مهددة وتنتصر مدافعة عن روح الحياة المتمثلة بالعشق.
_____
*الأخبار