“هنا القاهرة” رواية البحث عن بدايات ” الانهيارات الكبرى “


• جهاد الرنتيسي*

(  ثقافات )



يتجاور الخيال والواقع ، في مسارين متوازيين ، لا يلتقيان ، خلال احداث رواية “هنا القاهرة” لابراهيم عبدالمجيد ، وهي تعود بالاوساط الثقافية المصرية ، الى بدايات اسئلة ، لم يتوقف طرحها ، على مدى اربعة عقود مضت .
علاقة التجاور ، التي جربها الروائي في اعمال سابقة ، تتيح مراوغة الخيال للواقع ، واعادة تأثيثه بتفاصيل جديدة ، دون مصادرته ، او الابتعاد عن مناخات التناغم الهرموني ، بين الزمان والمكان ، التي تحكم تسلسل الاحداث .
وتكتمل المناخات ، بتأملات شخصيات الرواية ، قلقها ، رفضها للواقع ، تمردها الذي يتراوح بين الثورة والهرب ، التفكير الجمعي والبحث عن خلاص فردي .
قد تكون شخصية المثقف ، الاكثر قدرة على حمل تناقضات فترة السبعينيات ، حيث تحولت بوصلة النظام السياسي المصري ، في ذلك الزمن ، من اليسار الى اليمين ، مما تطلب تهميش اتجاهات فكرية ، تيارات سياسية ، توسيع هوامش حضور الاتجاهات والتيارات النقيضة ، والتأسيس لنمط مختلف من الصدامات ، احتفظ بحضوره في الحياة المصرية ، وما زالت افرازاته ، تحكم الحراك السياسي والاجتماعي المصريين ، حتى اللحظة الراهنة .
محور الرواية الثنائي ” صابر سعيد ” و ” سعيد صابر ” كان تجسيدا للمثقف المستهدف ، في عملية الاحلال ، التي طالت شرائح اجتماعية ، اثر رحيل الرئيس الاسبق جمال عبدالناصر ، ورافقت سنوات حكم الرئيس انور السادات ، حتى اغتياله .
لا يخلو تلازم الصبر والسعادة في الاسمين ، من دلالات خصائص الصبر على مصاعب الحياة ، والتحايل عليها بالنكتة ، التي عرف بها اهل الكنانة ، على مر العصور . 
كما اضفى مخزون ذاكرة الروائي ، ومنحه بعض تجربته السياسية لاحد بطليه ، قدرا اكبر من الواقعية ، على ادائهما ، الى الحد الذي يوقع قراء تجربة ابراهيم عبد المجيد الروائية ، في دوامة البحث عن الحدود الفاصلة ، بين الخيال والسيرة الذاتية. 
علاقة شخصيات الرواية بالمكان ، بعض مفاتيح عوالم العمل الروائي الخامس عشر لابراهيم عبدالمجيد ، تبدا احداثها منذ اليوم الاول للراوي في المدينة ، وتنتهي بقرار عودته اليها .
بطل الرواية القادم من دمياط ، مصاب بالدهشة في القاهرة ، يحاول حل الغازها ، بدءا من التعرف على شوارعها وحاراتها ، وعلاقاتها الاجتماعية ، وصولا الى تبدلات حالتها الجوية ، التي يعاني منها في بعض الاحيان .
اللغة المستخدمة في وصف المدينة ، والعلاقة معها ، لا تبتعد عن الحياد ، لكن الامر لا يخلو من حميمية ما ، مع نمط الحياة في حاراتها وشوارعها ، تظهر مع التردد في قرار الرحيل ، واتخاذ قرار العودة ، رغم اختتام الراوي لروايته ، بان هجرة المصريين للعمل في الجزيرة العربية والخليج ، طريقهم الوحيد للحياة ، وتأكيده على ان مصر ، لم تعد وطنا للمصريين .
في ميدان التحرير ، يأخذ التفاعل مع المكان ، منحى الانبهار ، بـ “كعكة ” امل دنقل الحجرية ، عصب الحياة اليومية للمدينة ، نقطة الالتقاء بين شوارعها ، ترمومتر المزاج العام للمصريين ، ورغبتهم في التغيير ، حين يصل الصبر الى حواف نهاياته . 
يقاوم الانسان الظروف السائدة في المكان ، الا ان المقاومة لا تفقد تلك “العلاقة” شروط توازنها ، كل منهما نبض للاخر ، وبعض ملامحه ، دلالاته ، حين يفكر ابناء المدينة بالابتعاد عنها ، يبقى التفكير في صيغة الاستثناء ، فهو مشروط بالعودة ، بعد توفير ظروف عيش افضل .
التقاء زمن الرواية مع مكانها ، في علاقة اقرب الى التكامل ، يحدد ملامح القاهرة في ذلك الوقت ، الحياة الاجتماعية ، السياسية ، الثقافية ، وتاثير الاوضاع الاقتصادية ، على مختلف هذه الجوانب .
وللتحديد الزمني اثره ، في الحمولة السياسية للرواية ، التي تحاكم سياسات نظام الرئيس الاسبق انور السادات ، بدءا بالانتقال من المعسكر الشرقي الى الغربي ، مرورا بالانفتاح الاقتصادي ، الحريات السياسية ، وعلاقة السياسي بالثقافي .
لكن قراءة ” هنا القاهرة ” لتلك المرحلة ، تجاوزت سطح الاحداث ، الى ما هو اعمق ، بملامستها بدايات التطرف الاصولي ، الذي ارسى دعائمه ” الرئيس المؤمن ” وراح ضحيته ، بعد خروجه عن السيطرة .
مثلما يتجاور الخيال مع الواقع في الرواية ، تتجاور الدهشة بالمكان مع تفكير نقدي ، يظهر في الشعور واللاشعور ، ليمنح النص مصداقيته ، دون الوقوع في افتعال او تنظير ، يلقي اعباء على العمل الفني ، او يشده الى فوائض اللغة . 
تتجلى المصداقية ، في عدم اقتصار النقد ، على النظام الحاكم في ذلك الوقت ، وتنظيمات الاسلام السياسي ، التي يخاصمها ثنائي بطولة الرواية ، فهو يمتد الى ما هو ابعد من ذلك ، حين يتناول طريقة تفكير الاحزاب اليسارية ، سلوك افرادها وقياداتها ، ابتعادها عن نبض الشارع ، وينتهي تراكم الانتقادات ، الى ترك صابر سعيد لحزبه الشيوعي .
يتيح حضور الجنس في الرواية ، التقاط دلالات اخرى على صدقها ، في التعامل مع الحس الانساني ، حيث تحتفظ المرأة بغموضها ، رغم محاولات فك الغازها ، في اكثر من تجربة .
خلال حديثه مع الامريكية هايدي ، عن الجنس عند د . هـ . لورانس ، يشير صابر سعيد ، الى طقس صوفي ، اشبه بالفناء في الملكوت ، غايته حالة روحية ، تتعدد طرق الوصول اليها ، لتشمل الرقص والزهد .
غياب هايدي فيما بعد ، يحيل الطقس الصوفي ، الى نظرات جائعة ، كمائن لاصطياد الحبيبات ، علاقات عابرة ، محاولة لمداواة جرح ما ، ليثير شكا في نظرة د . هـ لورانس ، ويظهر في الوقت ذاته ، تباينات واسعة في النظرة للجنس ، بين الانا والاخر الغربي .
بذلك يبتعد التوظيف الروائي للجنس ، عن الاثارة ـ التي يلجا اليها البعض ، لابعاد الملل عن القارئ ، وابقائه مشدودا الى الحدث ـ ليسلط بعض الضوء ، على اختلالات نظرة الشرق ، للعلاقة والممارسة .
تقنيات ابقاء القارئ ، في حالة من التوتر ، وانتظار الحدث اللاحق ، التي عمل عليها ابراهيم عبدالمجيد في روايته ، تعتمد بالدرجة الاولى ، على ديناميكية اللحظة ، حيوية شخوص الرواية ، التي تشترك في بعض ملامحها ، مع شخصيات عرفها الروائي عن قرب ، وتحرر لغة السرد من الجمود . 
بوضعها في سياق نتاجات الروائي ، تتجاوز الرواية اهميتها الفنية ، لتستدعي اعادة النظر ، في تصنيفات اعمال ابراهيم عبدالمجيد ، التي تعاملت مع رواية “الاسكندرية في غيمة” لدي صدورها ، باعتبارها تتويجا لروايتي ” لا احد ينام في الاسكندرية ” و ” طيور العنبر ” ومتممة لثلاثية الاسكندرية .
ففي ” هنا القاهرة ” ما يوحي بانها جاءت امتدادا لسابقتها ” الاسكندرية في غيمة ” حيث تحولت الالفة مع المدينة المتآكلة ” كوزموبوليتانيتها ” امام ارتدادات التفكير السياسي والتحولات الاجتماعية ، الى دهشة في العاصمة النهرية ، وفي كلتا الحالتين ، يبقى الرحيل خيارا ، من المدن التي ضاقت بسكانها .
الرؤية التي تقدمها ” هنا القاهرة ” وقبلها ” الاسكندرية في غيمة ” تؤسس لثلاثية اخرى ، ترصد مفاصل تحولات السياسة والمجتمع في مصر ، وتؤشر الى بدايات الانهيارات الكبرى ، التي افقدت المنطقة مناعتها ، وابقتها في مهب رياح التطرف.

• كاتب من الاردن 

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *