*حبيب سروري
يعرض المعجم التاريخي لأية لغة “السيرة الذاتية” لكلّ كلمة فيه، منذ دخولها اللغة، ويتابعُ تطوّرات مداليلها وتحوّلاتها عبر السنين.
لا شكّ ،مثلاً، في أن مدلول كلمة “عقل” يختلف اليوم عن مدلولها قبل أربعة عشر قرنًا، حيث كان الناس يظنّون أن “القلب” مصدر الإدراك، وليس الدماغ. فهي مشتّقة في لغة الضاد من “عقال”، أي الحبل الذي يُعقل به البعير، حيث كان مدلولها حينذاك، هو الرسوخ، وليس التفكير المستند على السببية (كنظيرتها اللاتينية: Raison)، كما لاحظ أحمد عابد الجابري.
كلّ اللغات العالمية، عدا اللغة العربية، تمتلك معاجمها التاريخية التي تضيء تاريخ اللغةِ والحياةِ معًا: عندما صمّتْ آذاني قبل أيام كلمة “مليشيا”، متواترة الاستعمال في اليمن هذه الأيام!، لجأتُ إلى المعجم الفرنسي، الذي كشف عورات مداليلها وتاريخها: “هي من اللاتينية milita التي تعني: خدمة عسكرية، والمشتقة من miles التي تعني جندي. دخلت الكلمة القاموس الفرنسي في عام 1578 بمعنى صيانة السلاح، ثم تغيّر معناها في عامي 1611 و 1636، حتّى آخر تغيير: تنظيم “أبعد من العسكري”.
يستحيل الحصول على مثل هذه المعلومات، لا سيّما التاريخية منها ، لكلمة في المعاجم العربية: مفارقةٌ مثيرةٌ ومؤلمةٌ معاً، لأن اللغة العربية كانت أوّل من أسّس القواميس والمعاجم اللغوية، منذ الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب معجم العين. وقامت في عصرها الذهبي بِدورٍ طليعيٍّ في تأسيسِ دراسات النحو والصرف العبقرية، وتصنيفِ المفردات وترتيب جذورها واشتقاقاتها، وتأليفِ شتّى المعاجم، بما فيها معاجم الجنّ والشياطين!. وانفتحت بشكلٍ مبكِّرٍ على لغات العالم منذ العصر العباسي وحملة ترجماته الزاخرة.
لهذه المفارقة أكثر من سبب. أحدها ظلامي، يصرّ على أن كلمات العربية موجودة منذ الأزل، في لوحٍ ميتافيزيقيٍّ محفوظ، وليست لها سيرات وتواريخ شأن كلمات اللغات الأخرى. والآخر مرتبط بأحوال اللغة العربية المتردّية في العالم الرقمي. لاستيعاب ذلك يلزم أوّلاً شرح مفهوم “النص الرقمي” الذي أصبح اليوم كنزَ البشرية، وذهبَها الأسود: هو النص الموجود على الكمبيوتر (كتب، محاضرات، مقالات، براءات اختراع، مدوّنات، تقارير خبراء، حوارات ونقاشات في الشبكات الاجتماعية، وغيرها سواءٌ أكان نصّاً مكتوباً أو مسموعاً أم مرئيّاً). لهُ خصائص مدهشة منها: أنه “هوائي” التواجد، يمكن ربطه بأي نصّ رقمي آخر في أي مكان في العالم عبر “روابط النصوص الفائقة”. وأن لا وزن له: يمكن وضع مليون كتاب في مفتاح U.S.B خفيف كقطعة نقدية من دون أن يتغيّر وزنه.
يستطيع الكمبيوتر أن يعالج النص الرقمي المكتوب: ينطقه، يفهرس كلماته لمحرّكات الأبحاث، يترجمه.
من المهمّ جدّاً هنا التمييز بين النصّ المطبوع على الكمبيوتر من ناحية، وصورة “سكانير” لِنصٍّ مطبوع أو مخطوط على ورق من ناحية ثانية: الثاني مجرد “شخاطيط” في عين الكمبيوتر، يراه مثل قطّة تشاهد صفحة من “رسالة الغفران”. لذلك تمتلك كلّ لغة، عدا العربية حتّى الآن، “متعرّفاً ضوئيّاً على الأحرف”، OCR، يحول صورة الـ “سكانير” إلى نصّ رقمي من النوع الأوّل.
تجدر الملاحظة أن حجم النصوص الرقمية يقاس اليوم بالزيتابايت (الزيتابايت يساوي ألف مليون مليون مليون حرف. أي: 1000000000000000000000 حرف، أي أكثر من عدد حبات رمل الكرة الأرضية) ويتوقّع أن يصل حجم نصوص عام 2020 إلى خمسين زيتابايتاً، ما يوازي خمساً وسبعين مرّةً عدد حبّات رمل الكرة الأرضية!
في البلدان التي دخلت العصر الرقمي (الذي لم نلجهُ بعدُ، نحن العرب) تُحوَّلُ الكتبُ التي طُبِعت قبل ولادة عصر النصّ الرقمي، بأرقامٍ خياليّة، وكذلك المخطوطات اليدوية القديمة في المتاحف والمكاتب والبيوت، إلى نصوصٍ رقميةٍ مباشرة، وليس إلى صور “سكانير”، كما هو حالنا.
أحد الاستخدامات المهمّة للنصوص الرقمية اليوم: تأسيس “مدوّنة اللغة” (بنك اللغة)، التي تنبثق منها المعاجم التاريخية الحديثة في عصرنا الرقمي. تحوي هذه البنوك عيّنةً ضخمةً (تعدُّ مجموعُ كلماتها بالمليارات) من النصوص المتنوعة التي كُتِبت في تلك اللغة في مختلف الأزمنة، وتُغطّي كل الاستعمالات التقليدية لها: شفهية أم كتابية، وكذلك نوعها؛ أدبية، علمية، اجتماعية..الخ
يتم اختيار نصوص المدوّنة من عيّنات آتيةٍ من قطاع متنوّع عريض محايد من المصادر (الصحف والمجلات المكتوبة والمسموعة والمرئية، الكتب المتنوعة، النقاشات، التقارير، الشبكات الاجتماعية ومواقع الإنترنت، وغيرها) كي تعطي صورةً دقيقةً كاملةً عن اللغة في مختلف أشكالها واستعمالاتها اليومية والعلمية والعمليّة والأدبية، خلال مرحلةٍ زمنية معيّنة.
من كنوزها (التي يتمُّ رفدها رقميّاً كل يوم) تُستخلَصُ القواميس والمعاجم المتخصصة في المجالات اللغوية والعلمية والتقنية والعملية، إذ هي المختبر الذي تخرج منه: معاجم تاريخ وأصول الكلمات وعلاقتها باللغات الأخرى، والدراسات اللغوية المتنوعة حول بُنيَة اللغة وظواهرها وشتى دلالات كلماتها، وحول نواقصها واحتياجاتها المتجدّدة.
لتأسيس المعاجم التاريخية عبر استخدام برمجيات الحاسوبات اللغوية، يكفي البحث الآلي عن أقدم نصٍّ في بنك اللغة ظهرت فيه كلّ كلمة. يعطي ذلك غالباً موعد ولادتها التقريبي، أو محطّةً من محطّات سلسلة حيواتها.
ثم يكفي (بالاعتماد على تلك البرمجيات، وبتحليل ودراسة ميكروسكوبات علماء اللغة والتاريخ والاجتماع) متابعة سيرورة حركتها في اللغة ومختلف تحوّلاتها وتفاعلاتها، والتطوّر البيولوجي لِمداليلها واستعمالاتها، وانتقالها أحياناً من كلمة عادية إلى كلمة أدبية راقية مثلاً، أو سباتها الشتوي وموتها الإكلينيكي وانقراضها المهيب.
لعلّ مشروع تأسيس معجم تاريخي عربي (إذا ما تمّ بناؤه بأدوات العالم الرقمي الحديثة: المدوّنة، والقارئ الضوئي، ورقمنة المخطوطات؛ وليس بطريقة يدوية على غرار المعاجم التاريخية في القرن 17 في فرنسا) لن يكشف لنا أسرار تاريخ لغتنا العربية الحبيبة فقط، ومعالم مهمّة من تاريخنا الكليّ أيضاً، بل سيكون وسيلتنا للولوج إلى العالَم الرقمي الذي نظنّ، بمجرد استخدامنا الإيميل وتصفّح المجلات، أننا أقرب له من حبل الوريد، بينما ما زلنا في الحقيقة أبعد أهل المعمورة عنه تقريباً!
_______
*العربي الجديد