*أمير العمري
احتفى مهرجان برلين السينمائي في دورته الأخيرة (5- 15 فبراير) بالمخرجة الألمانية الشهيرة مرجريتا فون تروتا، التي عرض فيلمها الجديد “عالم مختل” عرضا احتفاليا خاصا مصحوبا باهتمام إعلامي كبير. وخصص المهرجان لها مؤتمرا صحفيا تحدثت فيه عن تجربتها الطويلة في الإخراج وعن فيلمها الجديد الذي تقوم ببطولته الممثلة الأثيرة لديها باربره سوكوفا، التي قامت ببطولة عدد كبير من أفلامها.
تنتمي مرجريتا فون تروتا إلى جيل من السينمائيين، الذي ظهر في ألمانيا خلال السبعينات، واعتبرت أفلامه بمثابة استعادة لنهضة السينما الألمانية وإعادتها إلى خريطة السينما في العالم، وهي التي تألقت في عشرينات القرن الماضي من خلال المدرسة التعبيرية الألمانية الشهيرة التي دفعت هوليوود إلى استقطاب أحد أهم أقطابها وهو المخرج إريك فون ستروهايم، وغيره، قبل أن تخبو وتتضاءل أهميتها بعد صعود النازية وهجرة الكثير من السينمائيين مثل فريتز لانج ودوجلاس سيرك وبيللي ويلدر وغيرهم.
وقد تميزت حركة السينما الألمانية الجديدة التي جمعت فون تروتا مع أسماء شهيرة مثل ألكسندر كلوجه وفيرنر فاسبندر وفولكر شلوندورف وفيم فيندرز وفيرنر هيرتزوغ، بالإعلاء من شأن المخرج- المؤلف على غرار حركة الموجة الجديدة الفرنسية، أي المخرج صاحب الرؤية، الذي يخرج الأفلام لكي يعبر عن رؤيته للعالم، مع نزعة إلى الواقعية وإلى النقد الاجتماعي والتطوير في الشكل السينمائي، والخروج من قوالب الفيلم التقليدي الذي يدور حول قصة درامية تنتهي عادة بنهاية سعيدة.
ولدت مرجريتا فون تروتا عام 1942 في برلين، وعاشت حياة قاسية مع والدتها، واضطرت للنزول مبكرا إلى ساحة العمل، ثم التحقت بمعهد لدراسة التمثيل والدراما في ميونيخ، ورحلت بعد ذلك إلى باريس حيث بدأت تتردد على “السينماتيك” الفرنسية في عصرها الذهبي. وبعد ذلك شاركت بالتمثيل للمسرح، ثم انتقلت منذ عام 1969 للعمل بالسينما، فقامت ببطولة الأفلام الأولى للمخرج الألماني الراحل فاسبندر.
تزوجت من المخرج فولكر شلوندورف، وقامت بالتمثيل في عدد من أفلامه. ومنذ عام 1978 اتجهت فون تروتا إلى الإخراج، وقدمت مجموعة كبيرة من الأفلام منها “اليقظة الثانية لكريستينا كلاجز” (1879)، “الشقيقتان” (1979)، “الشقيقتان الألمانيتان” (1981)، “أصدقاء وأزواج” (1982)، و”روزا لوكسمبورج” (1986).وتعتبر مرجريتا فون تروتا، من أهم النساء المخرجات في السينما الألمانية الحديثة مع زميلتيها، هيلما ساندرز برامز، وجوتا بروكز، وهن يمثلن معا حركة متميزة في السينما الألمانية، حيث يتناولن في أفلامهن الجوانب النفسية والعاطفية في شخصية المرأة الألمانية، والعلاقات المعقدة التي تحكم هذه العلاقات، وتفجر التناقضات الكامنة داخل المرأة، في سعيها إلى التحرر والتعبير عن مكنونات نفسها، وعن رغبتها في مواجهة مجتمع صارم فقَدَ روحانيته، كما فقد المرء شعوره الشخصي بالأمان، واتسعت هوة التشكك وانعدام الثقة بين الرجل والمرأة.
تمتلك فون تروتا رؤية رومانسية تتميز بالرغبة في التمرد على القوالب المألوفة. وتشوب أفلامها نزعة تشاؤمية قلقة، وإن كانت تبرر ذلك بأنها تريد أن تخدش ذلك الشعور بالبلادة الذي يسيطر على الناس، وأن تدفعهم بالتالي إلى التفكير في كيفية تغيير الأمور.
وبالرغم من رومانسيتها واختيارها شخصيات قلقة تمتلئ في داخلها بشتى الانفعالات، إلا أنها تصنع أفلاما عقلانية باردة، وتبدو متأثرة، على نحو ما، بأسلوب المخرج السويدي انجمار برجمان. وعلى الرغم من صرامة البناء في أفلامها فإن شخصيات هذه الأفلام لا تتحرك من خلال تصميم هندسي ينمو في تصاعد منطقي محدّد، وإنما تتحدّد الشخصيات من خلال تناقضاتها ومشاعرها المتباينة وتمتزج بذكريات الطفولة والماضي.
تبدو شخصية المرأة في أفلام فون تروتا، وكأنها تسعى إلى تحطيم شيء ما في داخلها، شيء تخشاه، أكثر مما تسعى إلى التحدي الاجتماعي المباشر.
وهي تقول: إن تركيزي الأساسي ليس على القصة بقدر ما هو على تدفق المشاعر خلال الأحداث، وقد يكون هذا أسلوبا نسائيا في التعبير”. إننا نرى المرأة في أفلامها، في أحلامها، وهواجسها الخاصة، ومزاجها المتقلب، وإحساسها بالعزلة واليأس، والرغبة في تحقيق حريتها، وبحثها الشاق عن التواصل مع غيرها من بنات جنسها.
الشاعرية المفقودة
هذا التركيز الحميمي على عالم المرأة وحده، يجعلها أحيانا تجنح إلى المبالغة في إبراز النماذج الجافة والسلبية في الرجال. وتعلق هي على ذلك بقولها: “ليس لدي شيء ضد الرجال، ولكنني ببساطة لا أجدهم شاعريين، فمن النادر أن تجد رجلا شاعريا”. وهو قول يذكرنا بإحدى العبارات التي وردت في خطابات الكاتبة الشهيرة فرجينيا وولف: “إن النساء فقط هن اللاتي يثيرن خيالي”!
فيلمها الأحدث “عالم مختل” الذي عرض في احتفالية خاصة خلال الدورة الأخيرة لمهرجان برلين السينمائي (فبراير 2015) يكشف بوضوح هذه النقطة، فالشقيقان اللذان نشاهدهما فيه، وتقدّم بهما العمر، تمتلئ نفساهما بالمرارة بفعل تراكمات الماضي، فقد مارس كل منهما الكثير من التضليل والغش والخداع والتنافس القذر، من أجل التفوق على الآخر، ولو على حساب المشاعر الإنسانية، وأساسا على حساب المرأة التي وجدت نفسها واقعة في المنتصف بينهما. ولا توجد هنا حدود للدناءة عند الرجل، في حين تبدو المرأة ضحية أو فريسة للرجل.
في فيلمها الثاني “اليقظة الثانية لكريستينا كلاجز” (1978) تناولت فون تروتا موضوعا سياسيا ولكن من خلال مفردات نسائية، فنرى “كريستينا” بطلة الفيلم، تشترك مع صديقها فيرتر وولف، في سرقة بنك من أجل إنقاذ أحد مراكز رعاية الأطفال من الإفلاس. ويصاب صديقها أثناء مطاردة الشرطة لهما، فتهرب هي إلى البرتغال، ثم تعود بعد فترة إلى ألمانيا، حيث تجتاز فترة من المعاناة الشديدة تصل إلى اليأس التام، وتكاد توشك على الانتحار، وفي النهاية يتم القبض عليها. كريستينا هنا امرأة يتطور وعيها السياسي تحت ظروف العنف والإرهاب، ولكنها لا تبتعد كثيرا عن كونها متمردة رومانسية ثائرة على الواقع. ويركز الفيلم على العلاقة بين كريستينا وانجريد، صديقتها التي تمثل النقيض المباشر لشخصيتها، فهي امرأة تتمتع بنوع من الثقة والوعي.
ويتناول فيلم “أصدقاء وأزواج” (1983) العلاقة بين الرجل والمرأة، وسعي المرأة “روث” إلى التحرر من أسر الرجل رغبة في تحقيق ذاتها، ونراها تتجه إلى التواصل مع صديقتها التي حققت بالفعل قدرا من التوازن في حياتها، إلا أنها تظل باستمرار مهددة من جانب زوجها بتحطيم حياتها، في رد فعل عنيف مدفوع بالغيرة الشديدة والرغبة في مقاومة رغبتها في الاستقلال عنه. وهو يتهم صديقتها بإفساد حياتهما الزوجية معا، وينتهي الفيلم بأن تقتل روث زوجها بنفس راضية تماما، وهي نهاية قاتمة تعبر عن استحالة التعايش بين الرجل والمرأة في ظل المفاهيم القائمة. والطريف أن فون تروتا تذهب ببطلتي فيلمها في رحلة إلى مصر، حيث تعقد مقارنة بين حالة المرأة المصرية في الريف، والمرأة الألمانية، وتصور التناقض بين العالمين، وتتوصل إلى أن المرأة المصرية تتمتع بالصحة النفسية والسعادة والتوازن النفسي، رغم البيئة المتخلفة الفقيرة التي تحيا فيها، في حين تفتقد الألمانية التوازن والشعور بالاطمئنان في حياتها رغم مجتمع الوفرة والتقدم التكنولوجي في ألمانيا.
حساسية المرأة
أما فيلم “روزا لوكسمبورج” (1986) فهو يتناول الجوانب الإنسانية والنسائية في شخصية روزا لوكسبورج، المناضلة اليسارية الألمانية التي لعبت دورا كبيرا على المسرح السياسي الألماني في أوائل القرن العشرين، وجاءت نهايتها التراجيدية على أيدي المنظمة العسكرية التي أسسها الضباط الألمان بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى. وتقول فون تروتا إن هذه المنظمة كانت الدعامة الأولى التي قام عليها حزب هتلر النازي فيما بعد. وتعليقا على موت البطلة تعلق فون تروتا بقولها “لقد قتلت روزا لوكسمبورج ثلاث مرات كما رأينا في الفيلم والواقع، لكونها امرأة شجاعة؛ كانوا يخشونها كلهم، فقد ضربت أولا بكعوب البنادق، ثم أطلقوا الرصاص على رأسها، ثم ألقوا بجثتها في مياه النهر، ولا تزال المياه تجري في النهر حتى يومنا هذا، دلالة على استمرار عجلة التاريخ في الدوران. ومن يدري ماذا سيحدث غدا؟”.
ويمكن اعتبار فيلمها “حنا أرندت” (2013) عن الكاتبة والفيلسوفة اليهودية الألمانية الأصل التي غادرت ألمانيا مع زوجها إلى الولايات المتحدة بعد وصول النازية إلى السلطة، أهم أفلامها وأكثرها طموحا، فهي تمزج فيه بين الكثير من مواد الأرشيف السينمائي، وبين التجسيد الدرامي للكثير من الأحداث المحورية في حياة تلك الشخصية المثيرة للجدل، التي أصرت على حضور محاكمة أدولف أيخمان، الذي اختطفه عملاء الموساد من الأرجنتين في أوائل الستينات، ورحلوا به إلى إسرائيل، باعتباره مسؤولا عن إبادة اليهود في معسكرات الاعتقال.
حنا أرندت التي تتأمل كثيرا في موقف أيخمان أثناء المحاكمة، تتوصل إلى أنه ليس مسؤولا عن أفعاله وإنه كان فقط ينفذ أوامر هتلر، وهذا الرأي أثار موجة من الغضب عليها، وانتهى الأمر بإعدام أيخمان. وقد اتهمت أرندت إسرائيل أيضا بالتعاون مع الحكومة الألمانية في الوقت الذي كانت تتباكى فيه على ما تعرض له اليهود في ألمانيا من اضطهاد. وقد أصبحت حنا وحيدة بعد أن انفض من حولها معظم أصدقائها، ولكنها صمدت ولم تتراجع عن آرائها الفلسفية رغم كل الضغوط التي مورست عليها.
وينتمي الفيلم إلى نوعية الأفلام التي ترسم صورة إنسانية للشخصية الحقيقية التي تتناولها، وتحاول فون تروتا هنا تصوير الشخصية في سياق التاريخ، ومواقفها الفكرية وكيف توصلت إلى كتابة كتابها الشهير “تفاهة الشر”. وقد تفوقت باربره سوكوفا في دور أرندت كما سبق أن تفوقت في دور روزا لوكسمبورج.
ما يثير الإعجاب أن فون تروتا، التي تجاوزت الثانية والسبعين من عمرها، مازالت تكافح من أجل إعلاء صورة المرأة في الأفلام التي تخرجها، وتختار شخصياتها بعناية، دون أن تتوقف طويلا أمام الخيارات الأيديولوجية، بل إنها تعبّر من فيلم إلى آخر، عن رفضها لأيديولوجيات الشمولية عموما، التي تراها في النهاية تتفق على تكريس الهيمنة الذكورية.
_______
*العرب