الخيال والتقصي


*أمير تاج السر

أميل ومنذ أن بدأت الاشتغال بالكتابة إلى طريقة استخدام الخيال بكثافة، واختراع أشياء ليست موجودة في الواقع، ولكن يمكن أن توجد في أي وقت وأي مكان، وبالتالي لا تبتعد الحكاية عن الواقع المعيش كثيرا، وأعتقد أن هذه طريقة مشروعة في الكتابة، ولها من يؤيدها ومن لا يؤيدها مثل أي طريقة أخرى.

أميل أيضا في القراءة إلى ما يجعلني أندهش وأستخدم خيالي، لاهثا وراء الأحداث، ومحاولا تخيل الواقع البديل الذي يرصده النص، وهكذا كان عشقي الأول لتلك الكتب البديعة في رأيي مثل ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، ثم ما كتبته إبداعات أميركا اللاتينية بعد ذلك، وما كتبه بعض الكتاب الإسبان وحتى الأميركان والآسيويين من أعمال تعتمد على الخيال بشدة، وفي ذهني رواية للهندي حنيف قريشي تتحدث عن استبدال الجسد الشيخ بجسد شاب، وكانت ممتعة ومحفزة إلى أقصى حد.
دهشة السينما
على أن الأمر لا يقتصر على الكتابة فقط ولكن حتى في السينما، فأنا أميل دائما لمشاهدة غير المألوف، أي ما يدهشني في ساعة الفرجة ويخرجني وقد اشتعل خيالي أيضا، ومعروف أن السينما بتقنياتها الحديثة، استطاعت تفعيل الخيال إلى أقصى درجة، وأنتجت لنا فيلما مثل “أفاتار” الذي تدور أحداثه في مكان ما في الكون، وعن طريق الدخول في كبسولة فضائية، يستطيع بطل الفيلم الانتقال إلى ذلك المكان، والاختلاط بمواطنيه، لدرجة أن يعشق فتاة هناك ويتزوجها، ويناضل مع شعبها ضد الغزاة القادمين من الأرض.
طبعا لم يكن موضوع القوة الباطشة الأميركية في الفيلم هو ما شدني، وإنما أقصد ذلك الخيال الجبار الذي يصنع لك أحداثا توهمك بأنها حقيقية، وهي لن تحدث مطلقا إلا في خيال من كتبها ومن أنتجها وصيرها متاحة للمشاهدة.
أتحدث عن التفاعل بين القارئ لنص يشتعل بالخيال، ومحاولات هذا القارئ إحالته إلى واقع، وهذه المحاولات بالتأكيد لن تشمل كل القراء.
فهناك قراء -وهم الأغلبية- لا يحبون المشاركة بخيالهم في أي معضلة، ولا يحبون أن يستفز كاتب معتقداتهم القرائية الثابتة التي اعتادوا عليها في نماذج معروفة كتبت في الماضي وأصبحت من الكلاسيكيات الآن.
وبعد التطور المذهل الذي حدث لكل شيء، بما في ذلك فن الكتابة الروائية وكتابة السيناريو، وغيرهما من الفنون، فمثلا ما زال هناك من يقرأ “العجوز والبحر” لهمنغواي بنهم، ويعتبرها النموذج الأمثل للكتابة، وهناك من يعود بلا أي تردد لمشاهدة الأفلام السينمائية التي أنتجت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وكانت تخلو من الخيال تماما، في فترة لم يكن للخيال أي حظ في المشاركة الإبداعية.
خترعتُ مغنية موريتانية في أحد أعمالي، ولم يكن لها دور في النص وإنما ذكرت كاسم، وفوجئت بعشرات الرسائل من موريتانيا تسألني عن هذه المغنية التي لم يسمع بها أحد هناك.
وذكرت قارئة من هناك أن جلسة ضمت باحثين في التراث ومتخصصين في الغناء الشعبي عقدت للبحث عن المغنية ولم يُعثر عليها.
التفاعل مع النص
لقد اعتبرت ذلك تفاعلا جيدا مع النص، وتفعيلا لنشاط البحث، ولكن كما ذكرت، ليس كل القراء يتفاعلون مع نصوص الخيال، وأعرف قراء يمكن أن يمروا بحكاية عن قصة حب نشأت بين حجر ملقى في الطريق، وفتاة تمر بقربه يوميا، ولا يندهشون أو يحاولون التفكير عميقا في قصة غير مألوفة كتلك.
ماركيز ذكر في قصة “سفرة سعيدة سيدي الرئيس” التي تحكي عن رئيس سابق لإحدى دول أميركا اللاتينية، أنه كان مفلسا ومريضا وجاء للعلاج في أوروبا، وعثر عليه سائق سيارة إسعاف من بلده، وابتدأ ينسج أحابيله من حوله للحصول على شيء من ثروته، وذكر اسم الرئيس وشيئا عن حملته الانتخابية وبعض الخيبات الشهيرة التي حدثت في عهده.
وأعتقد أن قصة كهذه لا ينبغي أن تقرأ قراءة عادية، فلا بد من فضول يتحرك لمعرفة أي رئيس هذا، خاصة لدى قراء من القارة اللاتينية، حتى لو كان القارئ يعرف أنها مجرد خيال لا يخلو من الحقيقة.
في فترة من الفترات، ومن أجل الحصول على إيحاءات أو بهارات للكتابة كما أسميها، كنت أهتم برسائل الاحتيال التي تأتي لبريدي الإلكتروني يوميا، وهي تغزو بريد كل متعامل مع الإنترنت، تلك الرسائل التي تبشر الناس بأنهم ربحوا ملايين الدولارات، وعليهم الاتصال فورا بالمرسل لإثبات الهوية، من أجل صرف الربح، وطبعا هو مجرد بيع للوهم.
وهناك أيضا النوع الآخر الذي يدّعي مرسله دائما أنه من الأثرياء الوارثين، ويريد أن يغادر الدنيا نظيفا بعد اكتشافه إصابته بمرض السرطان، وقد اختار هذا الشخص ليمنحه المال حتى يتصرف فيه كما يشاء، بعد أن ينفق حصة منه على عمل الخير.
حقيقة معظم هذه الرسائل عادية، فجة، بلا أي خيال، أو بهار يجذب قارئها للوقوع في الفخ، وهي تكرار لبعضها بطريقة مملة ومؤسفة، لكن تشدني في بعض نادر منها لغة جيدة أو ذكر ما يمكن تتبعه، تماما مثل الخيال الكتابي المحفز للمتابعة والتقصي.
وقد تلقيت مرة رسالة يقول صاحبها إنه روبرت عبد الله، وزير النقل في حكومة إحدى الدول الأفريقية، وسمى تلك الدولة، وأنه كوزير يملك صلاحية أن يمنحني مشروع خط لسكة الحديد هو من سيموله، فقط سأكون واجهة بوصفي مستثمرا أجنبيا، وأحصل على عشرات الملايين من الدولارات.
إنها رسالة احتيال عادية، لكن الخيال الذي صيرها صادرة من وزير حالي في حكومة بلد بعينه موجود على خريطة العالم، حفزني للبحث، وقضيت وقتا مضنيا، أبحث عن أعضاء تلك الحكومة، من رئيس وزرائها إلى أصغر وزير للدولة، وخفق قلبي وأنا أطالع اسم وزير النقل ولم يكن روبرت عبد الله.
إذن التفاعل مع الخيال جيد ومهم فعلا، ورغم قسوة ما يمكن أن يخرج به المتفاعل مع نص خيالي من ألم لعدم تطابق رغبته مع واقع الحال، إلا أن مجرد تفعيل الخيال لمطاردة خيال مبدع أنتج نصا يعد إبداعا أيضا، ودائما ما أردد، أننا لا نحتاج لكتابة الواقع كما نعيشه، وإنما كما نحلم به.
______________
*الجزيرة

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *