عن البوكر العربية ولجنة تحكيمها


*بروين حبيب

كثير من النقد وجه للجنة تحكيم البوكر العربية، لكن لا نقد وجه للأعمال التي رشحت، سواء القائمة الطويلة أو القائمة القصيرة. وكأن من انتقد اللجنة لم يقرأ أي عمل أو أنه قرأها جميعها ووجد أنها أدنى من مستواه. 

كثير من النقد الهدّام.. ولا نقد إيجابي أبدا، حتى الموجه لشخصي كان غريبا، فقبل أن أكون شاعرة فأنا حاصلة على دكتوراه في اللغة العربية وآدابها، وقلة هم الإعلاميون الذين خدموا الأدب مثلي بكل أنواعه، فقد أعددت وقدمت برنامجا ثقافيا حرصت أن يقدم أكبر عدد من الوجوه الأدبية والفكرية والفنية، وحرصت خلال فترة البرنامج، رغم العراقيل التي كنت أتلقاها، أن يكون جيدا، كنت أنكب على أعمال من أقدمهم وأقرأهم وأحضر الأسئلة، وأتناقش مع مساعدتي في كل صغيرة وكبيرة، قبل استضافة الضيف، الذي أجتمع به وأحاول لملمة تاريخه عبر محادثة طويلة لتكون الحلقة مفيدة للمتفرج الراقي. 
اليوم وأنا أقرأ أغلب التعاليق السلبية حول لجنة التحكيم، أصبت بدهشة، أولا لأن الشاعر في نظر الكتاب الذين سلخوا «شعراء لجنة التحكيم» ليس بقارئ جيد، وهو ليس أهلا ليكون ناقدا للرواية، وهو حسب تلميح البعض ليس بالشخص ذي الأهمية ليكون في موقع لجنة تحكيم البوكر. 
ضربة في القفا لا يمكن أن نسكت عنها، إذا كنا فعلا نحترم الشعر، ونريد لمكانته ألّا تتزحزح نحو القاع الذي رسمه هؤلاء. ضربة واضحة، كشفت أخيرا أن من دمّر الشعر هم أهل «البيت الأدبي»… إذن ليس من المعقول أن يُتهّم الأكاديمي بأنّه غير قدير على قراءة الأعمال الروائية لأنه يكتب الشعر، مع أن أغلب الروائيين اليوم دخلوا عالم الرواية من باب الشعر، ولست مجبورة أظن أن أذكر مثلا أن أسماء كبيرة بدأت بالشعر وانتهت بالرواية، مثل عباس بيضون، ورشيد الضعيف، ربيعة جلطي، أمجد ناصر، سليم بركات وآخرين يصعب اختصارهم في مقال.
ليس عدلا أيضا، أن يظن البعض أنه تمّ إقصاء دول معينة لأسباب سياسية، فقد كانت الأعمال المقصاة، إما تكرارا لأعمال سابقة من دون تقديم جديد، أو أنها مليئة بأخطاء لا تغتفر في اللغة العربية لمن ركز أيضا على أن اللجنة قيمت الأعمال من خلال اللغة. 
إنه لعيب كبير اليوم أن يقدم شخص نفسه على أنه روائي باللغة العربية، بنص ليس أكثر من مجزرة لهذه اللغة. 
لقد أصبت بصدمة كبيرة جدا وأنا أقرأ نصوصا لكتاب أشاد بهم إعلاميون، لكنهم كارثة حقيقية، إذا سمحنا لهم أن يعيشوا في هذه الفقاعة من الوهم. والعتب هنا ليس على الكاتب وحده بل على دور النشر أيضا، التي تتسابق لترشيح أعمال لم تكلّف نفسها حتى أن توظف مصححا لتصحيحها. طبعا دور الناشر هنا مهم جدا، لهذا على الكاتب ألا يثق كثيرا في ناشره مرة أخرى، ما لم يمرر نصه على مدقق لغوي، ليخرج النص في حلة بهية، فالأدب ليس مجرد بناء قصصي، وحوار وفضاء مكاني وزماني، وحبكة تشد القارئ، الأدب قبل كل شيء لغة، شاء من شاء وأبى من أبى، وإن كان وضع اللغة العربية اليوم وضعا مزريا، فهذا بسبب هذا الإهمال لما يقدم للقارئ، وهذه اللامبالاة لمحتوى النص العربي، بدءا بلغته إلى أدق تفصيل سردي فيه.
نعم أيها السّادة، إن كنتم تتوقعون من لجنة البوكر العربية أن تغض النظر عن اللغة التي كتبت بها النصوص الروائية المرشحة للجائزة، فأنتم مخطئون، لقد أولينا أهمية كبرى للغة، ومن غير المقبول أن تمر رواية تكرر فيها نصب الفاعل عشرات المرات، ورفع المفعول به، وأحرف جزم لا تجزم، وياء في نهاية كل فعل يخاطب الأنثى ..عيب أن نصل لهذا المستوى وهذه « الشرشحة» للغة العربية.. وإن كنا نرضى بتمرير هذه الأخطاء فعلينا أن نقدم استقالاتنا أولا.
لقد دافعت عن أعمال جميلة، لكتاب تجاوزت اللغة عندهم دورها التعبيري إلى دور أكثر ثراء، هو إبراز حمولتها الإنسانية بكل أبعادها، ولكن هذا لا يعني أن رأيي وحده كان كافيا لإبقاء تلك النصوص في واجهة القائمة القصيرة، فقد كنا لجنة، لكن كرأي شخصي أرى أن أعمالا متميزة ستشق طريقها للقارئ من دون بريق الجائزة.
المحرج في بعض الأعمال التي قرأتها أيضا، تلك الديباجة الجنسية المبالغ فيها من دون سبب.. أسميها ديباجة لأنها في أغلب الأعمال المتخمة بالجنس، جاءت كأنها صور لأجساد عارية مرمية في شارع مهجور… جنس من أجل الجنس… جنس من أجل أن يصنّف العمل على أنه جريء ربما، من دون قضية، من دون ارتباط منطقي بالأحداث، من دون تبرير سيكولوجي، أو عاطفي، أو اجتماعي.. هكذا يرمى كصورة مبتذلة تعترضك في الطريق، ولأنها في غير موضعها، قد تثير اشمئزازك أكثر مما تشد نظرك وتثير اهتمامك.
السيئ في بعض الانتقادات أيضا اتهام اللجنة بأنها منحازة لبلدان معينة، وأقصت بلدانا أخرى، وأظن أن هذه طعنة كبيرة للأدب العربي والرواية العربية على وجه الخصوص، فنحن حين بدأنا نقرأ الأعمال التي قدمت لنا، لم نكن نبحث عن تاريخ الكاتب وجنسيته، وإن كان بعضهم أشهر من نار على علم، كنا في سباق مع الوقت، لنقرأ 180 عملا. فهل كان الواحد منّا يبحث عن عمل إضافي لإقصاء كتاب حسب انتماءاتهم؟
من الصعب جدا أن أصف فترة القراءة كيف كانت، لكنها أكثر من مرهقة، ولعلّها من شدة إرهاقها لا أظنني سأدخل فيها مرة أخرى، كنت أقرأ في المطارات، في الطائرة، في قاعة الانتظار عند الطبيب، وقد اعتذرت عن نشاطات كثيرة، وقضيت الوقت بين جدران بيتي، أقرأ… أقرأ في الفراش، ثم أغير موقعي.. فأقرأ في غرفة الجلوس، ثم في المكتب، في المطبخ… وأحيانا أنسى أن آكل، لأن ما بين يدي يأخذني لعوالم أخرى. 
عام من العمل الجاد، أشبه بأعوام تحضيري لأطروحة الدكتوراه، أقرأ وأسجل ملاحظاتي، ولكن ما أرحم أيام البحث الجامعي، لأن فترات راحة كانت تتخللها. 
لكنّ مع هذا سأقول إنها تجربة رائعة، جعلتني أكتشف ميول الكاتب العربي وهواجسه، وقلقه وأحلامه، ومحبطاته وانكساراته ورغباته. وعرفت أن مستويات الكتابة رحلة عجيبة لمعرفة أسرار كل مجتمع، وأنّ من يكتبون ليسوا بالضرورة كتابا، أو هواة كتابة، بل هواة بوح. 
ناس تخنقهم أغلال المجتمع، ويلجأون للكتابة بحثا عن رفيق يتقاسم معهم الهمّ ذاته.
إذن بعد بعض الملاحظات القاسية التي بحت لكم بها، وهي صحيحة ولا مجاملة فيها، وأتمنى أن يأخذها الكتاب والناشرون بعين الاعتبار، يبقى سر جميل سأبوح به في آخر هذه الوقفة، وهي أن كل ما يكتب يعبر عن تجربة إنسانية في حدّ ذاتها، حتى تلك النصوص السيئة، أو لنقل تلك التي لم ترق لمستوى النص الروائي الناجح تستحق أن تدرس على أنها وثائق اجتماعية مهمة، تؤرخ لفترة حاسمة من حياتنا. 
أكتب هذه المقالة وأنا أحزم حقائبي لأطير إلى دبي، بعد أن منحت نفسي عطلة جميلة في مراكش، وأخبركم بصدق أنني أحببت المغرب بسبب الأدب، وزرته بسبب الأدب، ورحلتي إليه من شدة روعته تبدو لي قصيدة مستعصية…
من قال أن الشّعر أسهل الفنون تعبيرا؟ 
بالطبع من يقول ذلك لا يعرف الشعر، لا من بعيد ولا من قريب، فقد قال بلزاك «الحب والشعر كلاهما إحساس»، هل بالإمكان أن نفسّر لماذا نقع في الحب؟ هل بالإمكان أن نفسّر جنون الحب؟ ما أقرب بالزاك للحقيقة .. وما أبعدنا عنها حين نتهم الشعراء بالإفلاس الأدبي…
وللحديث بقية…!
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *